الغَيْرَة
الهدف من الخطبة الحديث عن الغَيْرَةِ وبيان أنواعها والمشروع والممنوع منها
| عناصر الموضوع
1- إن الله عز وجل يغار.
2- النبي صلى الله عليه وسلمَ يغار.
3- المؤمن يغار.
4- المشروع والممنوع من الغيرة.
الغَيْرَة
مقدمة الموضوع : أما بعد، قال الله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ).
إن الله عز وجل يغار
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: «إِنَّ اللهَ يَغَارُ، وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَغَارُ، وَغَيْرَةُ اللهِ أَنْ يَأْتِيَ الْمُؤْمِنُ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِ» رواه البخاري ومسلم واللفظ له.
إن أهل السنة والجماعة والسلف الصالح يثبتون لله تعالى ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلمَ، من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل، ومن ذلك أن الله تعالى يغار، فنثبت له صفة الغَيْرة على ما يليق به عز وجل، كما ثبت ذلك في سنة النبي صلى الله عليه وسلمَ، ونقول: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).
فالغَيْرَة صفة حقيقية فعليَّة خبريَّة ثابتة لله عز وجل كما يليق بجلاله وعظمته وكماله، لا تشبه غَيْرَةَ المخلوق، بل هي أعظم وأجل.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: إنَّ الغيرة تتضمن البغض والكراهة، فأخبر أنَّه لا أحد أغير منه، وأنَّ من غَيْرته حرَّم الفواحش، ولا أحد أحب إليه المدحة منه، والغيرةُ عند المعطلة النفاة من الكيفيات النفسية، كالحياء والفرح والغضب والسخط والمقت والكراهية، فيستحيل وصفه عندهم بذلك، ومعلومٌ أنَّ هذه الصفات من صفات الكمال المحمودة عقلاً وشرعاً وعرفاً وفطرةً، وأضدادها مذمومة عقلاً وشرعاً وعرفاً وفطرةً، فإنَّ الذي لا يغار بل تستوي عنده الفاحشةُ وتركها؛ مذمومٌ غايةَ الذمِّ مستحقٌ للذمِّ القبيح. انتهى من الصواعق المرسلة.
ومن آثار تلك الصفة أن الله تعالى حرم الفواحش كلها، فإذا فعل العبد الفواحش فإن الله عز وجل يغار ويغضب أن يأتي العبد محارمه، وهو سبحانه لا تنفعه الطاعة، ولا تضره المعصية؛ فَعَنِ الْمُغِيرَةَ قَالَ: قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: لَوْ رَأَيْتُ رَجُلًا مَعَ امْرَأَتِي لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفِحٍ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ؟ وَاللَّهِ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي وَمِنْ أَجْلِ غَيْرَةِ اللَّهِ حَرَّمَ اللَّهُ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ». متفق عليه.
قال الله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ).
وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، مَا أَحَدٌ أَغْيَرَ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَرَى عَبْدَهُ أَوْ أَمَتَهُ تَزْنِي، يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ، لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا». رواه البخاري.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ومما يدخل في الغيرة قوله تعالى: (وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا). قال السُّري لأصحابه: أتدرون ما هذا الحجاب؟ حجاب الغيرة. ولا أحد أغير من الله. إن الله تعالى لم يجعل الكفار أهلاً لفهم كلامه، ولا أهلاً لمعرفته وتوحيده ومحبته. فجعل بينهم وبين رسوله وكلامه وتوحيده حجابًا مستورًا عن العيون، غيرة عليه أن يناله من ليس أهلاً به. انتهى من مدارج السالكين.
النبي صلى الله عليه وسلمَ يغار
إن أَشَدّ الناس غَيْرَة عَلَى حُرُمَاتِ اللَّهِ هو النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأِنَّهُ كَانَ يَغَارُ لِلَّهِ وَلِدِينِهِ ولعرضه ولأمته، وما انتقم لنفسه قط، فَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا أَنْ يُنتهك حرمةُ الله فينتقم لله بهَا. مُتَّفق عَلَيْهِ، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: لَوْ وَجَدْتُ مَعَ أَهْلِي رَجُلًا لَمْ أَمَسَّهُ حَتَّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ» قَالَ: كَلَّا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنْ كُنْتُ لَأُعَاجِلُهُ بِالسَّيْفِ قَبْلَ ذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْمَعُوا إِلَى مَا يَقُولُ سَيِّدُكُمْ، إِنَّهُ لَغَيُورٌ، وَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَالله أغير مني». رَوَاهُ مُسلم.
وعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عِنْدَهَا وَفِي الْبَيْتِ مُخَنَّثٌ فَقَالَ: لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ أَخِي أُمِّ سَلَمَةَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ إِنْ فَتَحَ اللَّهُ لَكُمْ غَدًا الطَّائِفَ فَإِنِّي أَدُلُّكَ عَلَى ابْنَةِ غَيْلَانَ فَإِنَّهَا تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يدخلن هَؤُلَاءِ عَلَيْكُم». متفق عليه.
ولما قيل في عائشة رضي الله عنها في حادثة الإفك ما قيل قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَعْذَرَ يَوْمَئِذٍ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى المِنْبَرِ: «يَا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَنِي أَذَاهُ فِي أَهْلِ بَيْتِي، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا خَيْرًا، وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا، وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا مَعِي». متفق عليه.
المؤمن يغار
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: «إِنَّ اللهَ يَغَارُ، وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَغَارُ، وَغَيْرَةُ اللهِ أَنْ يَأْتِيَ الْمُؤْمِنُ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِ» رواه البخاري ومسلم واللفظ له.
كان الصحابة رضي الله عنهم يغارون ويعرف عنهم ذلك ويشتهر، كما سبق من شأن سعد بن عبادة، وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "دَخَلْتُ الجَنَّةَ أَوْ أَتَيْتُ الجَنَّةَ، فَأَبْصَرْتُ قَصْرًا، فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا؟ قَالُوا: لِعُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَدْخُلَهُ، فَلَمْ يَمْنَعْنِي إِلَّا عِلْمِي بِغَيْرَتِكَ". قَالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَوَعَلَيْكَ أَغَارُ؟ مُتَّفق عَلَيْهِ.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُلُوسٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي فِي الجَنَّةِ، فَإِذَا امْرَأَةٌ تَتَوَضَّأُ إِلَى جَانِبِ قَصْرٍ، فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا لِعُمَرَ، فَذَكَرْتُ غَيْرَتَكَ، فَوَلَّيْتُ مُدْبِرًا"، فَبَكَى عُمَرُ وَهُوَ فِي المَجْلِسِ، ثُمَّ قَالَ: أَوَعَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغَارُ؟ متفق عليه.
وعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَتْ: تَزَوَّجَنِي الزُّبَيْرُ، وَمَا لَهُ فِي الأَرْضِ مِنْ مَالٍ وَلاَ مَمْلُوكٍ، وَلاَ شَيْءٍ غَيْرَ نَاضِحٍ وَغَيْرَ فَرَسِهِ، فَكُنْتُ أَعْلِفُ فَرَسَهُ وَأَسْتَقِي المَاءَ، وَأَخْرِزُ غَرْبَهُ وَأَعْجِنُ، وَلَمْ أَكُنْ أُحْسِنُ أَخْبِزُ، وَكَانَ يَخْبِزُ جَارَاتٌ لِي مِنَ الأَنْصَارِ، وَكُنَّ نِسْوَةَ صِدْقٍ، وَكُنْتُ أَنْقُلُ النَّوَى مِنْ أَرْضِ الزُّبَيْرِ الَّتِي أَقْطَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَأْسِي، وَهِيَ مِنِّي عَلَى ثُلُثَيْ فَرْسَخٍ، فَجِئْتُ يَوْمًا وَالنَّوَى عَلَى رَأْسِي، فَلَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَدَعَانِي ثُمَّ قَالَ: «إِخْ إِخْ» لِيَحْمِلَنِي خَلْفَهُ، فَاسْتَحْيَيْتُ أَنْ أَسِيرَ مَعَ الرِّجَالِ، وَذَكَرْتُ الزُّبَيْرَ وَغَيْرَتَهُ وَكَانَ أَغْيَرَ النَّاسِ، فَعَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي قَدِ اسْتَحْيَيْتُ فَمَضَى، فَجِئْتُ الزُّبَيْرَ فَقُلْتُ: لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى رَأْسِي النَّوَى، وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَأَنَاخَ لِأَرْكَبَ، فَاسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ وَعَرَفْتُ غَيْرَتَكَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَحَمْلُكِ النَّوَى كَانَ أَشَدَّ عَلَيَّ مِنْ رُكُوبِكِ مَعَهُ، قَالَتْ: " حَتَّى أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ ذَلِكَ بِخَادِمٍ تَكْفِينِي سِيَاسَةَ الفَرَسِ، فَكَأَنَّمَا أَعْتَقَنِي". رواه البخاري ومسلم.
المشروع والممنوع من الغَيْرة
تختلف أنواع الغيرة وحكمها بحسب سببها الباعث عليها وبحسب مآلها المترتب عليها؛ فمن الغيرة ما هو مشروع ومنها ما هو ممنوع، ومن أنواع الغيرة المشروعة:
1- الغيرة لله سبحانه وتعالى، وتظهر في الغيرة لدين الله وأحكامه وشرعه؛ فالمؤمن يغار من أن تنتهك حرمات الله، أو تترك الفرائض والواجبات، المؤمن يغار عند وجود الشرك والكفر، المؤمن يغار عند وجود الفواحش والمنكرات، المؤمن يغار عند تسلط الكافرين، ومن أثر غيرته: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإن القيام بهذه الشعيرة من أعظم الواجبات، وهو دليل على الغيرة لشرع الله تعالى، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلمَ: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فبقلبه وَذَلِكَ أَضْعَف الْإِيمَان». رَوَاهُ مُسلم.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: وهي من غيرة الرسل وأتباعهم لله ممن أشرك به واستحل محارمه وعصى أمره، وهذه الغيرة هي التي تحمل على بذل نفس المحب وماله وعرضه لمحبوبه حتى يزول ما يكرهه فهو يغار لمحبوبه أن تكون فيه صفة يكرهها محبوبه ويمقته عليها أو يفعل ما يبغضه عليه ثم يغار له بعد ذلك أن يكون في غيره صفة يكرهها ويبغضها والدين كله في هذه الغيرة بل هي الدين وما جاهد مؤمن نفسه وعدوه ولا أمر بمعروف ولا نهى عن منكر إلا بهذه الغيرة ومتى خلت من القلب خلا من الدين فالمؤمن يغار لربه من نفسه ومن غيره إذا لم يكن له كما يحب. انتهى من روضة المحبين ونزهة المشتاقين.
والناس أقسام في الغيرة على محارم الله:
- قوم لا يغارون على حرمات الله بحال ولا على حرمها، مثل الديوث والقواد ونحوهما، وأهل الإباحة الذين لا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق، ومنهم من يجعل ذلك سلوكًا وطريقًا، قال تعالى: (وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء).
- وقوم يغارون على ما حرمه الله وعلى ما أمر به مما هو من نوع الحب والكره يجعلون ذلك غيرة، فيكره أحدهم من غيره أمورًا يحبها الله ورسوله، ومنهم من جعل ذلك طريقًا ودينًا ويجعلون الحسد والصد عن سبيل الله وبغض ما أحبه الله ورسوله غيرة.
- وقوم يغارون على ما أمر الله به دون ما حرمه فنراهم في الفواحش لا يبغضونها ولا يكرهونها بل يبغضون الصلوات والعبادات كما قال تعالى فيهم: (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا).
- وقوم يغارون مما يكرهه الله ويحبون ما يحبه الله، هؤلاء هم أهل الإيمان.
2- الغيرة على المجتمع من الفواحش والفساد: قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)، وعن أَبي سعيد الخُدريِّ رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلمَ قَالَ: «إيّاكُمْ والجُلُوس فِي الطُّرُقَاتِ!» قالوا: يَا رسولَ الله، مَا لَنَا مِنْ مَجَالِسِنَا بُدٌّ، نَتَحَدَّثُ فِيهَا. فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلمَ: «فَإذَا أبَيْتُمْ إِلاَّ المَجْلِسَ، فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ» قَالُوا: وَمَا حَقُّ الطَّريقِ يَا رسولَ اللهِ؟ قَالَ: «غَضُّ البَصَرِ، وَكَفُّ الأَذَى، وَرَدُّ السَّلاَمِ، والأَمرُ بِالمَعْرُوفِ، والنَّهيُ عنِ المُنْكَرِ». متفق عَلَيْهِ، وَعَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ حَمَلْتُ حَجَرًا ثقيلاً فَبينا أَنَا أَمْشِي سَقَطَ عَنِّي ثَوْبِي فَلَمْ أَسْتَطِعْ أَخْذَهُ فَرَآنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِي: «خُذْ عَلَيْكَ ثَوْبَكَ وَلَا تَمْشُوا عُرَاة». رَوَاهُ مُسلم.
فهذه الحقوق ونحوها مما شرعه الله يسلم بها المجتمع ويأمن من الخيانة وانتهاك المحرمات والأعراض.
3- الغيرة على الأهل وعدم الدياثة وبغض أهلها: الْغَيْرَةُ مِنَ الْغَرَائِزِ الْبَشَرِيَّةِ الَّتِي جعلها اللَّهُ فِي الإْنْسَانِ، رَجُلاً كَانَ أَوِ امْرَأَةً، وَهِيَ فِطْرِيَّةٌ تَبْرُزُ كُلَّمَا أَحَسَّ الإْنْسَانُ شَرِكَةَ الْغَيْرِ فِي حَقِّهِ بِلاَ اخْتِيَارٍ مِنْهُ، وَلاَ سَبِيل إِلَى اسْتِئْصَالِهَا مِنَ النَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ، وَلاَ خِيَارَ لِلإْنْسَانِ فِيهَا، فَهِيَ أَمْرٌ طَبِيعِيٌّ، فَلاَ إِثْمَ إِنْ غار الزوج على زوجته، أو غَارَتِ الْمَرْأَةُ عَلَى زَوْجِهَا مَا لَمْ تتجنى بقول أو فعل وَلَمْ تَخْرُجْ عَنْ طَاعَةِ زَوْجِهَا، وكانت عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَغَارُ مِنْ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لِكَثْرَةِ مَا يَذْكُرُهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَانَتْ سَائِرُ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ يَغَرْنَ مِنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ جَمِيعًا.
وجاء الترهيب الشديد والوعيد الأكيد فيمن لا يغار على أهله، فعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ثَلَاثٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وَلَا يَنْظُرُ اللهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الْعَاقُّ بِوَالِدَيْهِ، وَالْمَرْأَةُ الْمُتَرَجِّلَةُ الْمُتَشَبِّهَةُ بِالرِّجَالِ، وَالدَّيُّوثُ"، وفي رواية: "ثَلَاثَةٌ قَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَنَّةَ: مُدْمِنُ الْخَمْرِ، وَالْعَاقُّ، وَالدَّيُّوثُ الَّذِي يُقِرُّ فِي أَهْلِهِ الْخَبَثَ". أخرجه أحمد واللفظ له والنسائي، وقال الألباني: حسن صحيح.
الدَّيُّوث: هو الذي يقر -ولو بالسكوت- بالمنكر والفاحشة في أهله، من نساء بيته وقرابته، فيرى فيهم ما يسوء الرجل في أهله من الزنا ومقدماته ولا يغار عليهن، وقيل: المعنى أعم من الزنا؛ فيشمل سائر المعاصي كشرب الخمر وترك غسل الجنابة وغيرها.
قَالَ الحافظ الذهبي رَحْمَة الله: فَمن كَانَ يظن بأَهْله الْفَاحِشَة ويتغافل لمحبته فِيهَا أَو لِأَن لَهَا عَلَيْهِ دينا وَهُوَ عَاجز أَو صَدَاقا ثقيلاً أَو لَهُ أَطْفَال صغَار فترفعه إِلَى القَاضِي وتطلب فرضهم فَهُوَ دون من يعرض عَنهُ وَلَا خير فِيمَن لَا غيرَة لَهُ فنسأل الله الْعَافِيَة من كل بلَاء ومحنة إِنَّه جواد كريم. انتهى من الكبائر.
ومن أجل الحفاظ على المجتمع والأنساب كانت الغيرة الممدوحة المشروعة التي على العبد أن يتحلى بها، ومن أجل صيانة المجمتعات شرع الله تعالى ستر العورات من ثياب وحجاب ونقاب، وسد ذرائع الفساد، ومنع الاختلاط بين الرجال والنساء، وحرم تبرج النساء، ودخول الرجال على النساء، والخلوة بهن، وتشبه بعضهم ببعض.
فَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ». فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ الْحَمْوَ؟ قَالَ: «الْحَمْوُ الْمَوْتُ». متفق عليه.
عَنْ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا كَانَ ثالثهما الشَّيْطَان». رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وصححه الألباني.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلمَ قَالَ: «لاَ يَخْلُونَّ أَحَدُكُمْ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ». متفق عَليْهِ.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قَالَ: لَعَنَ رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلمَ المُخَنَّثِينَ مِنَ الرِّجَالِ، وَالمُتَرَجِّلاَتِ مِنَ النِّسَاءِ. وفي رواية: لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلمَ المُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بالنِّسَاءِ، والمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بالرِّجَالِ. رواه البخاري.
عن أَبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلمَ: «صِنْفَانِ مِنْ أهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا: قَومٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأذْنَابِ البَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلاَتٌ مَائِلاَتٌ، رُؤُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ البُخْتِ المائِلَةِ لاَ يَدْخُلْنَ الجَنَّةَ، وَلاَ يَجِدْنَ رِيحَهَا، وإنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكذَا». رواه مسلم.
هذا وإن غيرة المؤمن منضبطة بضوابط الشرع وأحكامه وآدابه، فليس المؤمن بالذي تتبلد أحساسيه ومشاعره، كالدَّيُّوث القواد الذي يقر المنكر في أهله ولا تتحرك فطرته وغريزته فيثور أو يغضب، بل إن المؤمن يغار، ثم هو يضبط غيرته ويعتدل فيها فلا يُخوِّن ويتهم ويسيء الظن بلا بينة ولا حجة؛
فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَتِيك رضي الله عنه أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «مِنَ الْغَيْرَةِ مَا يُحِبُّ اللَّهُ وَمِنْهَا مَا يُبْغِضُ اللَّهُ، فَأَمَّا الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ فَالْغَيْرَةُ فِي الرِّيبَةِ، وَأَمَّا الْغَيْرَةُ الَّتِي يُبْغِضُهَا اللَّهُ فَالْغَيْرَةُ فِي غَيْرِ رِيبَةٍ». أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان، وحسنه الألباني. (الْغَيْرَةُ فِي الرِّيبَةِ): أَيْ فِي مَوْضِعِ التُّهْمَةِ وَالشَّكُّ. (وَأَمَّا الَّتِي يُبْغِضُهَا اللَّهُ فِي غَيْرِ رِيبَةٍ) أي إِنْ لَمْ تَكُنْ فِي مَوْقِعِهَا فَإنها تُورِثُ الْبُغْضَ وَالشَّنَآنَ وَالْفِتَنَ، بِأَنْ يَقَعَ فِي خَاطِرِهِ ظَنُّ سُوءٍ مِنْ غَيْرِ أَمَارَةٍ ولا بينة كَخُرُوجٍ مِنْ بَابٍ، أَوْ ظُهُورٍ مِنْ شُبَّاكٍ.
فعلى المؤمن أن يضبط غيرته، ويحذر من الغيرة المذمومة، والتي تكون بغير حق، وقد يقع بسببها الظلم، ومن ذلك:
الْغَيْرَةُ عَصَبِيَّةً وَنُصْرَةً لِلْقَبِيلَةِ عَلَى ظُلْمٍ، فَهِيَ حَرَامٌ وَمَنْهِيٌّ عَنْهَا، قَال تَعَالَى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإْثْمِ وَالْعُدْوَانِ)، وَفِي الْحَدِيثِ: "وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِعَصَبِيَّةٍ أَوْ يَدْعُو لِعَصَبِيَّةٍ أَوْ يَنْصُرُ عَصَبِيَّةً فَقُتِلَ فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ". رواه مسلم، وَقَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْغَيْرَةِ لِلْقَبِيلَةِ: "دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ". رواه البخاري ومسلم.
ومنها: الإفراط في الغيرة في غير ريبة وبلا بينة، فإنه يؤدي إلى الجفاء والكراهية.
هذا والغيرة غريزة في الرجال والنساء وليست قاصرة على الرجال فقط؛ فَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ، فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِينَ بِصَحْفَةٍ فِيهَا طَعَامٌ، فَضَرَبَتِ الَّتِي النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهَا يَدَ الخَادِمِ، فَسَقَطَتِ الصَّحْفَةُ فَانْفَلَقَتْ، فَجَمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِلَقَ الصَّحْفَةِ، ثُمَّ جَعَلَ يَجْمَعُ فِيهَا الطَّعَامَ الَّذِي كَانَ فِي الصَّحْفَةِ، وَيَقُولُ: «غَارَتْ أُمُّكُمْ» ثُمَّ حَبَسَ الخَادِمَ حَتَّى أُتِيَ بِصَحْفَةٍ مِنْ عِنْدِ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا، فَدَفَعَ الصَّحْفَةَ الصَّحِيحَةَ إِلَى الَّتِي كُسِرَتْ صَحْفَتُهَا، وَأَمْسَكَ المَكْسُورَةَ فِي بَيْتِ الَّتِي كَسَرَتْ. رَوَاهُ البُخَارِيّ.
وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: مَا غِرْتُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ وَمَا رَأَيْتُهَا وَلَكِنْ كَانَ يُكْثِرُ ذِكْرَهَا وَرُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ ثُمَّ يُقَطِّعُهَا أَعْضَاءً ثُمَّ يَبْعَثُهَا فِي صدائق خَدِيجَة فَيَقُول: «إِنَّهَا كَانَت وَكَانَت وَكَانَتْ وَكَانَ لِي مِنْهَا وُلْدٌ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وعَنْها رضي الله عنها قَالَتْ: فَقَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى بَعْضِ نِسَائِهِ، فَتَجَسَّسْتُهُ، فَإِذَا هُوَ رَاكِعٌ أَوْ سَاجِدٌ، يَقُولُ: «سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ» فَقُلْتُ: بِأَبِي وَأُمِّي، إِنَّكَ لَفِي شَأْنٍ، وَإِنِّي لَفِي شَأْنٍ آخَرَ. رواه مسلم.
مع تحيات
اللجنة العلمية لملتقى الخطيب المؤثر أسد المنابر