الخميس ، ١٩ جمادى الأول ، ١٤٤٦ هجري | 21 نوفمبر 2024 ميلادي
آفَةُ الكِبْرُ
وصف الخطبة : - التنبيه على العناية بإصلاح القلوب والنفوس والطباع والأخلاق أكثر من العناية بإصلاح الأجساد والأبدان، والتحذير من أمراض النفوس وخطرها لا سيما المهلك منها وعلى رأسها الشرك والكبر.

آفَةُ الكِبْرُ
 
 الهدف من الخطبة :-  التنبيه على العناية بإصلاح القلوب والنفوس والطباع والأخلاق أكثر من العناية بإصلاح الأجساد والأبدان، والتحذير من أمراض النفوس وخطرها لا سيما المهلك منها وعلى رأسها الشرك والكبر.

عناصر الموضوع   

1-           أيهما أحق بالاعتناء ؟   

2-           الترهيب من الكبر(قبح الكبر) 

3-           أنواع الكبر .    

4-         علاج الكبر.

آفَةُ الكِبْرُ 

مقدمة الموضوع : أما بعد، فالناس يختلفون شكلاً ورسمًا، صورة وهيئة ووصفًا، طولاً وعرضًا وقصرًا، لونًا وبشرة وجسمًا، قوة وضعفًا، 

لغة ولهجة...، وهذه الاختلافات إنما تكون في الأبدان، فالأبدان تختلف، وكما أن الأبدان تختلف كذلك النفوس والطباع والأخلاق، 

فليست النفوس واحدة، وليست الطباع واحدة، وليست الأخلاق واحدة، فالناس يختلفون بدنًا ونفسًا، خلقًا وخُلقًا.

فأيهما أحق بالعناية والرعاية؟

أيهما أحق بالاعتناء

إن غالب الناس يعتنون بأبدانهم وما يصلحها، ولكن العاقل منهم من يعتنِ بإصلاح قلبه ونفسه وطبعه وخلقه، فكما أن الأبدان تتعب 

وتمرض كذا النفوس تجزع وتمرض، إلا أن أمراض النفوس أشد وقعًا وخطرًا، وكذا علاجها، والموفق من وفقه الله تعالى.

والوقاية خير من العلاج، وإنما تحصل الوقاية بمعرفة حقيقة المرض وتشخيص أسبابه، ثم الحذر من فعلها، وهذا هو سبيل العلاج أيضًا لمن ابتلي بشيء من هذه الأمراض، فمما يُسَهِّلُ علاج أمراض النفوس معرفة المرض وخطورته، وكيفية التعامل معه وكيفية علاجه، وحديثنا بإذن الله تعالى عن آفة مهلكة من آفاتها، ومرض عضال من أمراضها، ودسيسة باطنة من دسائسها.

إنها آفة الكبر، نعوذ بالله من الكبر ومن المتكبرين، فكم هلك بسببه أفراد وجماعات، وأمم ومجتمعات.

فما أقبحه من خلق ذميم إذا تلوثت به نفس عبد مخلوق!

الترهيب من الكبر:

إن الكبر لا يحسن أن يتصف به مخلوق، ولا ينبغي له ذلك لأمور منها:

1-           إن الله تعالى تفرد واختص بصفة الكبرياء، وسمى نفسه المتكبر: 

قال تعالى: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ)، وقال سبحانه: (فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْعِزُّ إِزَارُهُ، وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَاؤُهُ، فَمَنْ يُنَازِعُنِي عَذَّبْتُهُ» رَوَاهُ مُسلم، وفي رواية: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا قَذَفْتُهُ فِي النَّارِ» رواه أبوداود وصححه الألباني، وَفِي رِوَايَةٍ: «أَلْقَيْتُهُ فِي النَّارِ» رواه ابن ماجه وصححه الألباني، وَفِي رِوَايَةٍ: «أَدْخَلْتُهُ النَّارَ» رواه ابن حبان وصححه الألباني، وَفِي رِوَايَةٍ: «قصمته» رواه الحاكم وصححه الألباني، وعن عوف بن مالك قال: قمت مع النبي صلى الله عليه وسلم فبدأ فاستاك وتوضأ ثم قام فصلى فبدأ فاستفتح من البقرة لا يمر بآية رحمة إلا وقف وسأل ولا يمر بآية عذاب إلا وقف يتعوذ ثم ركع فمكث راكعا بقدر قيامه يقول في ركوعه: (سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة) ثم سجد بقدر ركوعه يقول في سجوده: (سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة)، ثم قرأ: آل عمران ثم سورة ثم سورة فعل مثل ذلك. رواه أبوداود والنسائي واللفظ له وصححه الألباني.

فالتكبر لا يليق إلا بالله سبحانه، لأنه وحده الملك وما سواه مملوك، وهو وحده الخالق وما سواه مخلوق، وهو وحده الرب وما سواه مربوب، وهو وحده المتفرد بصفات الكمال والجلال والجمال والعظمة. 

2-           إن الله تعالى لا يحب أهل الكبر، ويغضب عليهم: 

قال تعالى: (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ)، وقال سبحانه: (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)، وعن ابن عمرَ رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ: "مَنْ تَعظَّم في نَفْسِه أوِ اخْتَال في مِشْيَتِه؛ لَقِي الله تبارك وتعالى وهو عليه غَضْبانُ". رواه الطبراني وصححه الألباني، وفي رواية: «ما من رجل يتعاظم في نفسه ويختال في مشيته إلا لقي الله تعالى وهو عليه غضبان» رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني.

3-           إن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يبغضون الكبر وأهله ويتعوذون بالله من المتكبرين ويوصون بنيهم بالانتهاء عنه:

قال تعالى: (وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ)، وعن سليمانَ بن يَسارٍ عن رَجُلٍ منَ الأنصار؛ أن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "قال نوحٌ لابنِه: إنِّي مُوصيكَ بِوَصِيَّةٍ وقاصِرُها لِكَيْ لا تنساها؛ أوصيكَ باثْنَتين، وأَنهاك عنِ اثْنَتينِ: أمَّا اللَّتانِ أوصيكَ بِهما؛ فيَستبشرُ اللهُ بهما وصالحُ خَلقهِ، وهما يُكْثِرانِ الوُلُوجَ عَلى اللهِ: أوصيك بـلا إله إلا الله، فإنَّ السمواتِ والأرضَ لوْ كانتا حَلقةً قَصَمَتْهُما، ولو كانتا في كِفَّةٍ وَزَنَتْهُما .

وأُوصيك بِـسبحانَ اللهِ وبحمدِه؛ فإنَّهما صلاةُ الخَلقِ، وبهما يُرْزقُ الخلقُ، {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا}، وأمَّا اللَّتانِ أَنهاكَ عنهما؛ فيحتجِبُ الله منهما وصالحُ خَلْقِهِ: أَنْهاكَ عَنِ الشِّرْكِ وَالكِبْرِ" رواه النسائي واللفظ له والبزار والحاكم وصححه الألباني، ورواه البخاري في الأدب المفرد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ نُوحًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قال لابنه: إن قاصّ عليك الوصية، آمرك باثنيتين، وَأَنْهَاكَ عَنِ اثْنَتَيْنِ: آمُرُكَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؛ فَإِنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرَضِينَ السَّبْعَ، لَوْ وُضِعْنَ فِي كِفَّةٍ وَوُضِعَتْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فِي كِفَّةٍ لَرَجَحَتْ بِهِنَّ، وَلَوْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرَضِينَ السَّبْعَ كُنَّ حَلْقَةً مُبْهَمَةً لَقَصَمَتْهُنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ؛ فَإِنَّهَا صَلَاةُ كل شيء، وَبِهَا يُرْزَقُ كُلُّ شَيْءٍ. وَأَنْهَاكَ: عَنِ الشِّرْكِ، وَالْكِبْرِ" فَقُلْتُ: أَوْ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَذَا الشِّرْكُ قَدْ عَرَفْنَاهُ فَمَا الْكِبْرُ؟ هُوَ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِنَا حُلَّةٌ يَلْبَسُهَا؟. قَالَ: "لَا". قَالَ: فَهُوَ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِنَا نَعْلَانِ حَسَنَتَانِ، لَهُمَا شِرَاكَانِ حَسَنَانِ؟. قَالَ: "لَا". قَالَ: فَهُوَ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِنَا دَابَّةٌ يَرْكَبُهَا؟ قَالَ: "لَا": قَالَ: فَهُوَ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِنَا أَصْحَابٌ يَجْلِسُونَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: "لَا". قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَمَا الْكِبْرُ؟ قَالَ: "سَفَهُ الْحَقِّ، وَغَمْصُ النَّاسِ" وصححه الألباني.

4-           إن الله حرم الكبر على الخلق، فالكبر كبيرة من الكبائر: قال تعالى: (وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا)، وقال سبحانه عن لقمان وهو يعظ ابنه: (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ).

5-           عاقبة الكبر أليمة وخيمة:

             فالمتكبرون مطبوع على قلوبهم، مصروفون عن الحق لا يهتدون إليه: قال تعالى: (الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ)، وقال سبحانه: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ) .

             والمتكبرون لا تفتح لهم أبواب السماء: قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) .

             الله عز وجل لا يكلم المتكبرين ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم يوم القيامة: فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَنْظُرُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى مَنْ جَرَّ إزَاره بَطَرًا» متفق عليه، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» متفق عليه، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: شَيْخٌ زَانٍ وَمَلِكٌ كَذَّابٌ وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ» رَوَاهُ مُسلم .

             المتكبرون يحشرون كصغار النمل أذلاء صاغرين يوطؤون بالأقدام: فعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُحْشُرُ الْمُتَكَبِّرُونَ أَمْثَالَ الذَّرِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ يَغْشَاهُمُ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ يُسَاقُونَ إِلَى سِجْنٍ فِي جَهَنَّمَ يُسَمَّى: بُولَسُ تَعْلُوهُمْ نَارُ الْأَنْيَارِ يُسْقَوْنَ مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ طِينَةَ الْخَبَالِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وحسنه الألباني .

             المتكبرون لا يدخلون الجنة ومآواهم النار: قال تعالى: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)، وقال سبحانه: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)، أي: أذلاء صاغرين، وقال جل وعلا: (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ)، وقال تبارك وتعالى: (قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ)، وَعَنِ عبد الله بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنَ كِبْرٍ» . فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنًا. قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ. الْكِبَرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاس» . رَوَاهُ مُسلم . فبطر الحق يعني رده والإعراض عنه، وعدم قبوله؛ وغمط الناس أو غمص الناس يعني احتقارهم وازدراءهم وألا يرى الناس شيئًا، ويرى أنه فوقهم، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "احْتَجَّتِ النَّارُ وَالْجَنَّةُ، فَقَالَتْ: هَذِهِ يَدْخُلُنِي الْجَبَّارُونَ، وَالْمُتَكَبِّرُونَ، وَقَالَتْ: هَذِهِ يَدْخُلُنِي الضُّعَفَاءُ، وَالْمَسَاكِينُ، فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لِهَذِهِ: أَنْتِ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ - وَرُبَّمَا قَالَ: أُصِيبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ، وَقَالَ لِهَذِهِ: أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا مِلْؤُهَا" وفي رواية: «وَلِكِلَيْكُمَا عَلَيَّ مِلْؤُهَا» رواه مسلم.

 

أنواع الكبر ونظرة في أحوال المتكبرين

ذكر النبي صَلى الله عليه وسلم أنواعه كما في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «الْكِبَرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاس».

فالكبر نوعان: الأول: الكبر عن الحق.       والثاني: الكبر على الخلق.

 فالأول يشمل على كل أنواع رد الحق، وعدم قبوله، والاستهزاء به، وتكذيبه ونحو ذلك، قال تعالى: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ)، ومن ذلك:

1-           ما كان من إبليس من إباء واستكبار: قال الله تعالى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ)، وقال سبحانه: (قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ . قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) .

2-           ما كان من الأمم الكافرة التي كذبت الرسل: قال تعالى عن نوح عليه السلام: (وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا)، وقال سبحانه عن قوم هود عليه السلام: (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ)، وقال سبحانه عن قوم صالح عليه السلام: (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ . قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ)، وقال سبحانه عن قوم شعيب عليه السلام: (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ) .

3-           ما كان من فرعون وهامان وجنودهما من الاستكبار عن الاستسلام والانقياد لتوحيد الله تعالى وعبادته وحده: قال تعالى: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ)، فمن جحود فرعون وكبره وطغيانه أنه ادعى الربوبية ! (فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى)، وادعى الألوهية ! قال الله تعالى: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ . وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ)، واستهزئ واستكبر على رسل الله ! قال الله تعالى: (ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ . إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ . فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ)، وزعم أن سبيله هو سبيل الحق والهداية والرشاد ! قال الله تعالى: (قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ)، وكذب فقد كان سبيله سبيل الغواية والفساد، قال تعالى: (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى) .

4-           وما كان من النمرود بن كنعان: فقد ادعى الربوبية وجادل نبي الله وخليله إبراهيم عليه السلام، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) .

5-           التكبر عن الامتثال بعد معرفة الحق وقبوله: وهؤلاء للأسف كثير، فكم من الناس من يعلم أن الصلاة حق ثم هو لا يصلي ؟ وكم منهم من يعلم أن الصدقة حق ثم هو لا يتصدق ؟ وكم منهم من يعلم أن الصيام حق ثم هو لا يصوم ؟ وكم منهم من يعلم أن الحج حق ثم هو لا يحج مع الاستطاعة ؟ وكم منهم من يعلم أن بر والديه حق ثم هو عاق لهما ؟ وكم منهم من يعلم أن الصدق حق ثم هو يكذب ؟ وكم منهم من يعلم أن الأمانة حق ثم هو يخون ؟ وكم وكم وكم ؟

 

والثاني التكبر على الخلق: ويشمل على كل أنواع احتقارهم وازدرائهم والاستهزاء بهم ونحو ذلك:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ وَلَا يَحْقِرُهُ التَّقْوَى هَهُنَا» وَيُشِير إِلَى صَدره ثَلَاث مرار «بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ ومالهُ وَعرضه» رَوَاهُ مُسلم

ومن ذلك:

1-           التكبر على الخلق في الأقوال: ويظهر في كلامه، نحو طريقة صياغته له، وأسلوب حديثه، ونطقه، وإيراده للكلمات، كقوله "أنا أنا"، وكمدح نفسه وتزكيتها، والاعتناء بإبراز دوره وإهمال الآخرين، والتشغيب على أدوارهم، وفي نبرات صوته، ونغمته، وتباهيه وتفاخره، ونحو ذلك .

2-           التكبر على الخلق في الأفعال: ويظهر في صعر وجهه، أي: إمالته بما يدل على تكبره، وفي نظره شزرًا، وإطراق رأسه، وجلوسه وسلامه، وقيامه وقعوده، ومشيته متبخترًا، وفي تناوله لطعامه وشرابه، وفي بيعه وشرائه، وفي قيادته لدابته وسيارته، وفي حركاته وسكناته، وعدم الجلوس مع بعض الناس أو بجوارهم أو المشي معهم، وهكذا، قال تعالى: (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ . وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِير)، وَعَن سَلمَة بن الْأَكْوَع أَنَّ رَجُلًا أَكَلَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَمَالِهِ فَقَالَ: «كُلْ بِيَمِينِكَ» قَالَ: لاأستطيع. قَالَ «لَا اسْتَطَعْتَ» مَا مَنَعَهُ إِلَّا الْكِبْرُ قا ل: فَمَا رَفعهَا إِلَى فِيهِ. رَوَاهُ مُسلم، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَجُرُّ إِزَارَهُ مِنَ الْخُيَلَاءِ خُسِفَ بِهِ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِي الْأَرْضِ إِلى يومِ الْقِيَامَة» رَوَاهُ البُخَارِيّ، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي فِي حُلَّةٍ، تُعْجِبُهُ نَفْسُهُ، مُرَجِّلٌ جُمَّتَهُ، إِذْ خَسَفَ اللَّهُ بِهِ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ» رواه البخاري ومسلم، ولمسلم عنه: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَتَبَخْتَرُ، يَمْشِي فِي بُرْدَيْهِ قَدْ أَعْجَبَتْهُ نَفْسُهُ، فَخَسَفَ اللهُ بِهِ الْأَرْضَ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» .

3-           التكبر على الخلق بالأحوال: ومنه

1-           التكبر عليهم بالعلم: قال تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ . وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)، وهو بلعام بن باعورا، ومن هذا النوع قارون، (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من تعلم العلم ليباهي به العلماء أو يماري به السفهاء أو يصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله جهنم» رواه ابن ماجه وصححه الألباني في صحيح الجامع .

قال محمد بن كعب: إن للعلم طغياناً أشد من طغيان المال، ويطغى الإنسان بالعلم ويتكبر لسببين: السبب الأول: أن يتعلم علوماً غير نافعة هي إلى الصناعات أقرب منها إلى العلم، فلا تورثه خشية الله تبارك وتعالى، ولا تذكره بنعم الله عز وجل عليه، ولا تقربه من الدار الآخرة، وهذه العلوم كعلم الجبال وعلم المنطق وغيرهما.

السبب الثاني: أن يكون في نفسه خبث وفي طويته شر، والعلم كما قال وهب: كالغيث ينزل على الأشجار فتمتد إليه عروقها، فكل بقدر طعمه، فمن كان مراً زاده مرارة، ومن كان حلواً زاده أريجاً.

2-           التكبر عليهم بالعبادة: فيتطاول على الناس بعبادته، بالتباهي والتفاخر بها، وأنهم مهما فعلوا فلن يبلغوا مبلغه، وإن فعلوا مثله أخبرهم أن عنده ما ليس عندهم مثلاً، وكأن ينظر إليهم كأنهم هلكى وهو الناجي فقط، فإذا ما رآهم عبس بوجهه، وينظر إليهم وكأنه في الأعلى وهم في الأسفل، فهذا الرجل فعله يخالف فعل الصالحين، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَنْ يُنْجِيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ» قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ مِنْهُ بِرَحْمَتِهِ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا واغْدُوا وروحوا وشيءٌ من الدُّلْجَةِ والقَصدَ القصدَ تبلغوا» متفق عليه

3-           التكبر بالمال: قَالَ تَعَالَى: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا . كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا . وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا . وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا)، وَقَالَ تَعَالَى: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ . وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ . قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ . وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ . وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ)، ومن هؤلاء الذين تكبروا بأموالهم قارون .

4-           التكبر بالأحساب والأنساب والعائلة والقبيلة: قال تعالى: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نسبه» رَوَاهُ مُسلم، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: خطَبنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أوْسَطِ أيَّامِ التشْرِيقِ خُطْبَةَ الوَداعِ فقال: "يا أيُّها النَّاسُ! إنَّ ربَّكُمْ واحِدٌ، وإنَّ أباكُمْ واحِدٌ، ألا لا فَضْلَ لِعَربيٍّ على عجميٍّ، ولا لِعَجَمِيٍّ على عَربيٍّ، ولا لأَحْمرَ على أسْوَدَ، ولا لأَسْودَ على أحْمرَ؛ إلا بِالتقْوى، {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}، ألا هَلْ بلَّغْت؟" قالوا: بَلى يا رسولَ الله قال: "فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ" رواه أبو نعيم والبيهقي وصححه لغيره الألباني، وعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: انْتَسَبَ رَجُلَانِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، فَمَنْ أَنْتَ لَا أُمَّ لَكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "انْتَسَبَ رَجُلَانِ عَلَى عَهْدِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ حَتَّى عَدَّ تِسْعَةً، فَمَنْ أَنْتَ لَا أُمَّ لَكَ؟ قَالَ: أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ ابْنُ الْإِسْلَامِ" قَالَ: "فَأَوْحَى اللهُ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَنَّ هَذَيْنِ الْمُنْتَسِبَيْنِ، أَمَّا أَنْتَ أَيُّهَا الْمُنْتَمِي أَوِ الْمُنْتَسِبُ إِلَى تِسْعَةٍ فِي النَّارِ فَأَنْتَ عَاشِرُهُمْ، وَأَمَّا أَنْتَ يَا هَذَا الْمُنْتَسِبُ إِلَى اثْنَيْنِ فِي الْجَنَّةِ، فَأَنْتَ ثَالِثُهُمَا فِي الْجَنَّةِ" رواه أحمد وصححه الألباني .

وعن عُتَيِّ بْنِ ضَمْرَةَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَجُلًا تَعَزَّى عِنْدَ أُبَيٍّ بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ، افْتَخَرَ بِأَبِيهِ، فَأَعَضَّهُ بِأَبِيهِ وَلَمْ يَكْنِهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: أَمَا إِنِّي قَدْ أَرَى الَّذِي فِي أَنْفُسِكُمْ، إِنِّي لَا أَسْتَطِيعُ إِلَّا ذَلِكَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : "مَنْ تَعَزَّى بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَعِضُّوهُ بِهَنِ أَبِيهِ، وَلَا تَكْنُوا" رواه أحمد المسند والبخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني، والتعزي: التفاخر بالانتماء والانتساب للقوم، و(فَأَعَضَّهُ) أي: قال له اعضض بذَكَر أبيك أو أيره أو فرجه بالتصريح بذلك بغير كناية، وقد كانوا في الجاهلية إذا أراد الرجل أن يُفحش في السب قال: اعضض أير أبيك أو حر أمك، فجاء الإسلام ونهى عن الفحش والتفحش وقول السوء وحرم ذلك، قال الله تعالى: (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا)، وَعن عائشة رضي الله عنها أن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحبُّ الفُحْشَ والتفحُّش» رواه مسلم، وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ وَلَا بِاللَّعَّانِ وَلَا الْفَاحِشِ وَلَا الْبَذِيءِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وصححه الألباني، وَعَنْه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فانتهى المؤمنون عن السب، ثم كان الأمر في حديث أُبي هذا من أدلة إباحة شيء من هذا بشرطه، وهذا يدل على أن التفاخر بالأحساب والأنساب فحشه أعظم من قول اعضض على هن أبيك، ويدل على شدة قبح ذلك وشدة بغض النبي صلى الله عليه وسلم لذلك .

5-           التكبر بالقوة والجاه والسلطان والجنود والنفوذ: قال تعالى: (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ . فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ)، وقال سبحانه: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ . وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ . فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ . وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ . وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ).

6-           التكبر بالجمال: وذلك أكثر ما يجري بين النساء ويدعو ذلك إلى التنقص والثلب والغيبة وذكر عيوب الناس.

- ليس من الكبر:

1-           الاختيال عند قتال الكفار، وعند إخراج الصدقة: عَن جابرِ بنِ عتيكٍ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ الْغَيْرَةِ مَا يُحِبُّ اللَّهُ وَمِنْهَا مَا يُبْغِضُ اللَّهُ فَأَمَّا الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ فَالْغَيْرَةُ فِي الرِّيبَةِ وَأَمَّا الَّتِي يُبْغِضُهَا اللَّهُ فَالْغَيْرَةُ فِي غَيْرِ رِيبَةٍ وَإِنَّ مِنَ الْخُيَلَاءِ مَا يُبْغِضُ اللَّهُ وَمِنْهَا مَا يُحِبُّ اللَّهُ فَأَمَّا الْخُيَلَاءُ الَّتِي يُحِبُّ اللَّهُ فَاخْتِيَالُ الرَّجُلِ عِنْدَ الْقِتَالِ وَاخْتِيَالُهُ عِنْدَ الصَّدَقَةِ وَأَمَّا الَّتِي يُبْغِضُ اللَّهُ فَاخْتِيَالُهُ فِي الْفَخْرِ» وَفِي رِوَايَةٍ: «فِي الْبَغْيِ» رواه أحمد وأبو دواد والنسائي وحسنه الألباني، وعند ابن حبان: "مِنَ الْغَيْرَةِ مَا يُبْغِضُ اللَّهُ وَمِنْهَا مَا يُحِبُّ اللَّهُ وَمِنَ الْخُيَلَاءِ مَا يُحِبُّ اللَّهُ وَمِنْهَا مَا يُبْغِضُ اللَّهُ فَالْغَيْرَةُ الَّتِي يُحِبُّ اللَّهُ: الْغَيْرَةُ فِي الدِّينِ وَالْغَيْرَةُ الَّتِي يُبْغِضُ اللَّهُ: الْغَيْرَةُ فِي غَيْرِ دِينِهِ وَالْخُيَلَاءُ الَّذِي يُحِبُّ اللَّهُ اخْتِيَالُ الرَّجُلِ بِنَفْسِهِ عِنْدَ الْقِتَالِ وَعِنْدَ الصَّدَقَةِ وَالِاخْتِيَالُ الَّذِي يُبْغِضُ اللَّهُ: الاختيال في الباطل" .

2-           حسن الملبس والمظهر الذي لا يشتمل على محرم كحرير أو إسبال: عَنِ عبد الله بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنَ كِبْرٍ» . فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنًا. قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ. الْكِبَرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاس» . رَوَاهُ مُسلم، ومضى في حديث عبد الله بن عمرو الذي فيه وصية نوح عليه السلام لابنه أنه قال: فَقُلْتُ: أَوْ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَذَا الشِّرْكُ قَدْ عَرَفْنَاهُ فَمَا الْكِبْرُ؟ هُوَ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِنَا حُلَّةٌ يَلْبَسُهَا؟. قَالَ: "لَا". قَالَ: فَهُوَ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِنَا نَعْلَانِ حَسَنَتَانِ، لَهُمَا شِرَاكَانِ حَسَنَانِ؟. قَالَ: "لَا". قَالَ: فَهُوَ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِنَا دَابَّةٌ يَرْكَبُهَا؟ قَالَ: "لَا": قَالَ: فَهُوَ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِنَا أَصْحَابٌ يَجْلِسُونَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: "لَا". قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَمَا الْكِبْرُ؟ قَالَ: "سَفَهُ الْحَقِّ، وَغَمْصُ النَّاسِ".

علاج الكبر: 

جماع ذلك أن يعرف ربه وخالقه بأسمائه وصفاته، ووجوب الذل والخضوع له، وأن يعرف لمَ خُلق، وممَ خُلق ؟ وأن يحيا حياة متواضعة لا تكلف فيها: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا اسْتَكْبَرَ مَنْ أَكَلَ مَعَهُ خَادِمُهُ، وَرَكِبَ الْحِمَارُ بِالْأَسْوَاقِ، واعتقل الشاة فحلبها" رواه البخاري في الأدب المفرد وحسنه الألباني.

قال ابن الجوزي رحمه الله: واعلم: أن الكبر من المهلكات، ومداواته فرض عين، ولك في معالجته مقامان:

الأول: في استئصال أصله وقطع شجرته، وذلك بأن يعرف الإنسان نفسه ويعرف ربه، فإنه إذا عرف نفسه حق المعرفة، علم أنه أذل من كل ذليل، ويكفيه أن ينظر في أصل وجوده بعد العدم من تراب، ثم من نطفة خرجت من مخرج البول، ثم من علقة، ثم من مضغة، فقد صار شيئاً مذكوراً، بعد أن كان جماداً لا يسمع ولا يبصر، ولا يحس ولا يتحرك، فقد ابتدأ بموته قبل حياته، وبضعفه قبل قوته، وبفقره قبل غناه، وقد أشار الله تعالى إلى هذا بقوله: (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ . مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ)، ثم امتن عليه بقوله: (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ)، وبقوله: (فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) فأحياه بعد الموت، وأحسن تصويره، وأخرجه إلى الدنيا، فأشبعه وأرواه، وكساه وهداه وقواه، فمن هذا بدايته، فأي وجه لكبره وفخره؟

على أنه لو دام له الوجود على اختياره لكان لطغيانه طريق، بل قد سلط عليه الأخلاط المتضادة، والأمراض الهائلة، بينما بنيانه قد تم، إذ هو قد وهى وتهدم، لا يملك الشيء لنفسه ضراً ولا نفعاً، بينها هو يذكر الشيء فينساه، ويستلذ بشيء فيرديه، ويروم الشيء فلا يناله، ثم لا يأمن أن يسلب حياته بغتة. 

هذا أوسط حاله، وذاك أول أمره، وأما آخر أمره، فالموت الذي يعده جماداً كما كان، ثم يلقى في التراب فيصير جيفة منتنه، وتبلى أعضاؤه، وتنخر عظامه، ويأكل الدود أجزاؤه، ويعود تراباً يعمل منه الكيزان، ويعمر منه البنيان، ثم بعد طول البلى تجمع أجزاؤه المتفرقة، ويحضر عرصة القيامة، فيرى أرضاً مبدلة، وجبالاً مسيرة، وسماءً منشقة، ونجوماً منكدرة، وشمساً مكورة، وأحوالاً مظلمة، وجحيماً تزفر، وصحائف تنشر، ويقال له: (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) فيقول: وما كتابي؟ فيقال: كان قد وكل بك في حياتك التي كنت تفرح بها وتتكبر بنعيمها ملكان يحصيان ما تنطق به وتعمل من قليل وكثير، وقيام وقعود، وأكل وشرب، وقد نسيت ذلك، وأحصاه الله تعالى، فهلم إلى الحساب عليه، وأعد جواباً به، وإلا فأنت تساق إلى النار، فما لمن هذه حاله التكبر؟ فإن صار إلى النار، فالبهائم أحسن حالاً منه، لأنه تعود إلى التراب، ومن هذا حاله وهو على شك من العفو عن أخطائه، كيف يتكبر؟! ومن الذي يسلم من ذنب يستحق به العقوبة، وما مثله إلا كمثل رجل جنى على ملك جناية استحق أن يضرب لأجلها ألف سوط، فحبس في السجن ليخرج فيعاقب، وهو منتظر أن يدعى به لذلك. أفتراه يتكبر على أهل السجن؟ وهل الدنيا إلا سجن، وهل المعاصي إلا موجبة للعقاب ؟

وأما معرفة ربه، فيكفيه أن ينظر في آثار قدرته وعجائب صنعته، فتلوح له العظمة، وتظهر له المعرفة، فهذا هو العلاج القالع لأصل الكبر.

ومن العلاج العملي التواضع بالفعل لله تعالى ولعباده، وذلك بالمواظبة على استعمال خلق المتواضعين، وقد تقدمت الإشارة إلى طريقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما كان عليه من التواضع والأخلاق الجميلة .

المقام الثاني: فيما يعرض من التكبر بالأنساب، فمن اعتراه الكبر من جهة النسب، فليعلم أن هذا تعزز بكمال غيره، ثم يعلم أباه وجده، فإن أباه القريب نطفة قذرة، وأباه البعيد تراب، ومن اعتراه الكبر بالجمال، فلينظر إلى باطنه نظر العقلاء، ولا ينظر إلى ظاهره نظر البهائم، ومن اعتراه من جهة القوة، فليعلم أنه لو آلمه عرق، عاد أعجز من كل عاجز، إن حمى يوم تحلل من قوته ما لا يود في مدة، وإن شوكة لو دخلت في رجله لأعجزته، وبقة لو دخلت في أذنه لأقلقته.

ومن تكبر بسبب الغنى، فإذا تأمل خلقاً من اليهود، وجدهم أغنى منه، فأف لشرف تسبق به اليهود ويستلبه السارق في لحظة، فيعود صاحبه ذليلاً.

ومن تكبر بسبب العلم، فليعلم أن حجة الله على العالم آلد من الجاهل، وليتفكر في الخطر العظيم الذي هو بصدده، فإن خطره أعظم من خطر غيره، كما أن قدره أعظم من قدر غيره.

وليعلم أيضاً أن الكبر لا يليق إلا بالله سبحانه، وأنه إذا تكبر صار ممقوتاً عند الله تعالى بغيضاً عنده. وقد أحب الله منه أن يتواضع، وكذلك كل سبب يعالجه بنقيضه ويستعمل التواضع .  انتهى من مختصر منهاج القاصدين

مع تحيات

اللجنة العلمية لملتقى الخطيب المؤثر أسد المنابر