السبت ، ٢١ جمادى الأول ، ١٤٤٦ هجري | 23 نوفمبر 2024 ميلادي
حكم الجلوس للعزاء
وصف الخطبة : - كثر الكلام في موضوع الجلوس للعزاء في هذه الأيام فإليكم التفصيل في المسألة

 حكم الجلوس للعزاء 

جمع وترتيب وتنسيق:
د. محمود الحفناوي الأنصاري.

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصخبه وسلم وبعد:
📌 إقراءها حتى النهاية ولا تستعجل ::
كثر الكلام في موضوع الجلوس للعزاء في هذه الأيام فإليكم التفصيل في المسألة .

المقصود من الاجتماع للتعزية : 

أن يجلس أهل الميت ويجتمعوا في مكان معين ، بحيث يقصدهم فيه من أراد العزاء ، سواء اجتمعوا في بيت أهل الميت ، أو في تلك السرادقات التي يقيمونها لهذا الشأن وغيره .
وهذه المسألة من مسائل الخلاف المعتبر بين أهل العلم ، وللعلماء فيها اتجاهان :

💢 القول الأول :يرى عدم الجلوس للعزاء 

لا يرى الاجتماع لأجل العزاء ، وأن هذا الاجتماع مكروه ، وهو مذهب الشافعية والحنابلة وكثير من المالكية ، وصرح بعضهم بالتحريم .
وأقوى ما استدلوا به القائلون بالكراهة أمران :

1) أثر جرير بن عبد الله قَالَ : ( كُنَّا نَعُدُّ الِاجْتِمَاعَ إِلَى أَهْلِ الْمَيِّتِ ، وَصَنِيعَةَ الطَّعَامِ بَعْدَ دَفْنِهِ : مِنْ النِّيَاحَةِ ). رواه أحمد (6866) ، وابن ماجه (1612) .
2) أن هذا الأمر لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه ، فهو من المحدثات ، وفيه مخالفة لهدي السلف الصالح ، الذين لم يجلسوا ويجتمعوا للعزاء .
قال الإمام الشافعي: " وَأَكْرَهُ الْمَأْتَمَ ، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ بُكَاءٌ ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُجَدِّدُ الْحُزْنَ ، وَيُكَلِّفُ الْمُؤْنَةَ مَعَ مَا مَضَى فِيهِ مِنْ الْأَثَرِ" .انتهى من "الأم" (1/318(.
قال النووي : " أَمَّا الْجُلُوسُ لِلتَّعْزِيَةِ ، فَنَصَّ الشَّافِعِيُّ وَالْمُصَنِّفُ وَسَائِرُ الْأَصْحَابِ عَلَى كَرَاهَتِهِ ... قَالُوا : بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَنْصَرِفُوا فِي حَوَائِجِهِمْ ، فَمَنْ صَادَفَهُمْ عَزَّاهُمْ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي كَرَاهَةِ الجلوس لها ..." .انتهى من "المجموع شرح المهذب" (5/306).
وقال المرداوي : "وَيُكْرَهُ الْجُلُوسُ لَهَا ، هَذَا الْمَذْهَبُ ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ ، وَنَصَّ عَلَيْهِ " ، انتهى من " الإنصاف" (2/ 565).
وقال أبو بكر الطُرطوشي : " قال علماؤنَا المالكيون : التصدي للعزاء بدعةٌ ومكروه ، فأَما إن قعد في بيته أَو في المسجد محزوناً من غير أن يتصدى للعزاء ؛ فلا بأس به ، فإنه لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم نعيُّ جعفر ؛ جلس في المسجد محزوناً ، وعزاه الناس". انتهى من "الحوادث والبدع" (ص:170).
وبهذا القول يفتي الشيخ ابن عثيمين رحمه الله حيث يقول : " بالنسبة لأهل الميت لا يشرع لهم الاجتماع في البيت وتلقي المعزين ؛ لأن هذا عدَّه بعض السلف من النياحة ، وإنما يغلقون البيت ، ومَن صادفهم في السوق أو في المسجد عزَّاهم " انتهى من "مجموع الفتاوى" (17/ 103) .

💢 القول الثاني: يرى بجواز الجلوس للعزاء
فلا يرى حرجاً من الاجتماع والجلوس للتعزية إذا خلا المجلس من المنكرات والبدع ، ومن تجديد الحزن وإدامته ، ومن تكلفة المؤنة على أهل الميت ، وهو قول بعض الحنفية وبعض المالكية وبعض الحنابلة ، ينظر : "البحر الرائق" (2/207) ، "مواهب الجليل" (2/230) .
قال ابن نُجيم الحنفي : " وَلَا بَأْسَ بِالْجُلُوسِ إلَيْهَا ثَلَاثًا مِنْ غَيْرِ ارْتِكَابِ مَحْظُورٍ مِنْ فَرْشِ الْبُسُطِ وَالْأَطْعِمَةِ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ ". انتهى من " البحر الرائق" (2/207).
وهذا القول رواية عن الإمام أحمد ، نقلها حنبل والخلال .
قال المرداوي : " وَعَنْهُ : الرُّخْصَةُ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ عَزَّى وَجَلَسَ ، قَالَ الْخَلَّالُ :
سَهَّلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْجُلُوسِ إلَيْهِمْ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ ...، وَعَنْهُ : الرُّخْصَةُ لِأَهْلِ الْمَيِّتِ ، نَقَلَهُ حَنْبَلٌ وَاخْتَارَهُ الْمَجْدُ [ ابن تيمية ] .
وَعَنْهُ : الرُّخْصَةُ لِأَهْلِ الْمَيِّتِ وَلِغَيْرِهِمْ ، خَوْفَ شِدَّةِ الْجَزَعِ".
انتهى من "الإنصاف" (2/565) .
وقال ابن عبد البر في "الكافي" (1/283) : " وأرجو أن يكون أمر المتجالسة في ذلك خفيفاً " انتهى .
واختار هذا القول من العلماء المعاصرين : 

1) الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى كما في "مجموع الفتاوى" (13/373) - ، 
2) وهو ترجيح الشيخ محمد المختار الشنقيطي في "سلسلة دروس شرح الزاد" .
وأقوى ما استدل به القائلون بالجواز :
1) حديث عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَنَّهَا كَانَتْ إِذَا مَاتَ الْمَيِّتُ مِنْ أَهْلِهَا فَاجْتَمَعَ لِذَلِكَ النِّسَاءُ ، ثُمَّ تَفَرَّقْنَ إِلَّا أَهْلَهَا وَخَاصَّتَهَا ، أَمَرَتْ بِبُرْمَةٍ مِنْ تَلْبِينَةٍ فَطُبِخَتْ ، ثُمَّ صُنِعَ ثَرِيدٌ فَصُبَّتْ التَّلْبِينَةُ عَلَيْهَا ، ثُمَّ قَالَتْ : كُلْنَ مِنْهَا ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( التَّلْبِينَةُ مُجِمَّةٌ لِفُؤَادِ الْمَرِيضِ ، تَذْهَبُ بِبَعْضِ الْحُزْنِ). رواه البخاري (5417) ، ومسلم (3216). [ التلبينة : هي حساء يعمل من دقيق ونخالة ، وربما جعل معه عسل ، وسميت به تشبيها باللبن ، لبياضها ورقتها].
فهذا الحديث فيه الدلالة الواضحة على أنهم كانوا لا يرون في الاجتماع بأساً ، سواء اجتماع أهل الميت ، أو اجتماع غيرهم معهم .
2) وعَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ : " لَمَّا مَاتَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ اجْتَمَعَنْ نِسْوَةُ بَنِي الْمُغِيرَةِ يَبْكِينَ عَلَيْهِ ، فَقِيلَ لِعُمَرَ: أَرْسِلْ إلَيْهِنَّ فَانْهَهُنَّ ، لاَ يَبْلُغُك عَنْهُنَّ شَيْءٌ تَكْرَهُهُ .
3) فَقَالَ عُمَرُ : " وَمَا عَلَيْهِنَّ أَنْ يُهْرِقْنَ مِنْ دُمُوعِهِنَّ عَلَى أَبِي سُلَيْمَانَ ، مَا لَمْ يَكُنْ نَقْعٌ ، أَوْ لَقْلَقَةٌ ". رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (3/ 290) ، وعبد الرزاق الصنعاني (3/ 558) بسند صحيح.
وَالنَّقْعُ: التُّرَابُ عَلَى الرَّأْسِ ، وَاللَّقْلَقَةُ : الصَّوْتُ ، أي ما لم يرفعن أصواتهن أو يضعن التراب على رؤوسهن.

💢  وأجاب هؤلاء عن أثر جرير بن عبد الله بجوابين :
الأول :
أن الراجح فيه أنه ضعيف ، فقد أعله الإمام أحمد ، والدراقطني.
فهذا الاثر رواه أحمد بن منيع في "مسنده" ، وابن ماجه في "السنن" (1612) ، والطبراني في "المعجم الكبير" (2/307) من طريق هُشيم عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس ، عن جرير به .
وهذا سند ظاهره الصحة ، فإن رواته أئمة حفاظ ثقات ، لذلك صححه جماعة من أهل العلم كالنووي في "المجموع" (5/320) ، وابن كثير في "إرشاد الفقيه" (1/241) ، والبوصيري في "مصباح الزجاجة" (1/289) ، والشوكاني في "نيل الأوطار" (4/148) ، والشيخ أحمد شاكر في تحقيق المسند (11/126) ، والألباني في "أحكام الجنائز" (ص/210) ، وكذا محققو مسند أحمد (11/505) وغيرهم .
غير أن في الحديث علة خفية بينها الحفاظ والنقاد ، هي تدليس هشيم بن بشير ، فإنه على ثقته كان كثير التدليس والإرسال ، وأحيانا عن الضعفاء والمجاهيل .
يقول الحافظ الذهبي في "تذكرة الحفاظ" (1/249) : " لا نزاع في أنه كان من الحفاظ الثقات ، إلا أنه كثير التدليس ، فقد روى عن جماعة لم يسمع منهم " انتهى.
ولذلك أعل بعض الحفاظ المتقدمين حديث جرير هذا بتدليس هشيم فيه :
قال أبو داود : " ذَكَرْتُ لِأَحْمَدَ حَدِيثَ هُشَيْمٍ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ ، عَنْ قَيْسٍ ، عَنْ جَرِيرٍ: " كُنَّا نَعُدُّ الِاجْتِمَاعَ عِنْدَ أَهْلِ الْمَيِّتِ وَصَنْعَةَ الطَّعَامِ لَهُمْ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ ".
قال : زعموا أنه سمعه من شريك ، قَالَ أَحْمَدُ: وَمَا أُرَى لِهَذَا الْحَدِيثِ أَصْلاً".
انتهى من "مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود السجستاني" (ص: 388).
وجاء في "العلل" (13/462) للدارقطني ما يشعر باحتمال تدليس هشيم له .
فإن كان المدلَّس هو شريك بن عبد الله النخعي الكوفي القاضي فهي رواية ضعيفة ، فإنه ضعيف الحديث عند عامة المحدثين ، ومثله لا يقبل تفرده بحديث ينبني عليه حكم شرعي بالتحليل أو التحريم .
نعم، تابعه نصر بن باب كما في مسند أحمد (6905) غير أن نصراً هذا جاء في ترجمته في "تعجيل المنفعة" (ص/420) : " قال البخاري : يرمونه بالكذب ، وقال ابن معين : ليس حديثه بشيء ، وقال علي بن المديني : رميتُ حديثه ، وقال أبو حاتم الرازي : متروك الحديث ، وقال أبو خيثمة زهير بن حرب : كذاب ". انتهى.
فلا تقوى متابعته على تحسين رواية شريك ، بل هناك احتمال قوي بأن المدلَّس في رواية هشيم هو نصر بن باب نفسه وليس شريكاً .
🔴  والخلاصة : أن قول جرير بن عبد الله البجلي لم يثبت من طريق صحيح ، والرواية المشهورة معلة بالتدليس ، وللاستزادة ينظر كتاب : " التجلية لحكم الجلوس للتعزية" للشيخ ظافر آل جبعان صـ 27 .

 الثاني :
على القول بصحته فالمقصود منه : الاجتماع الذي يكون فيه صنعٌ للطعام من أهل الميت لإكرام من يأتيهم ومن يجتمع عندهم .
ولذلك نص في الأثر على الأمرين : ( كُنَّا نَعُدُّ الِاجْتِمَاعَ إِلَى أَهْلِ الْمَيِّتِ ، وَصَنِيعَةَ الطَّعَامِ بَعْدَ دَفْنِهِ : مِنْ النِّيَاحَةِ ) ، فاجتماع هذين الوصفين معاً ، هو الذي يعد من النياحة .
قال الشوكاني:‏ ‏"‏ يَعْنِي أَنَّهُمْ كَانُوا يَعُدُّونَ الِاجْتِمَاعَ عِنْدَ أَهْلِ الْمَيِّتِ بَعْدَ دَفْنِهِ وَأَكْلَ الطَّعَامِ عَنْدَهُمْ نَوْعًا مِنْ النِّيَاحَةِ ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ التَّثْقِيلِ عَلَيْهِمْ وَشَغْلِهِمْ مَعَ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ شُغْلَةِ الْخَاطِرِ بِمَوْتِ الْمَيِّتِ وَمَا فِيهِ مِنْ مُخَالِفَةِ السُّنَّةِ ؛ لِأَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِأَنْ يَصْنَعُوا لِأَهْلِ الْمَيِّتِ طَعَامًا فَخَالَفُوا ذَلِكَ وَكَلَّفُوهُمْ صَنْعَةَ الطَّعَامِ لِغَيْرِهِمْ ".
انتهى من " نيل الأوطار" (4/ 118) .

📌 وقال الشيخ ابن باز : " المقصود أن كونهم يجمعونهم ليقرؤوا ويأكلوا هذا لا أصل له، بل هي من البدع ، أما لو زارهم إنسان يسلم عليهم ، ويدعو لهم ويعزيهم ، وقرأ في المجلس قراءة عارضة ليست مقصودة ، لأنهم مجتمعون فقرأ آية أو آيات لفائدة الجميع ونصيحة الجميع فلا بأس ، أما أن أهل الميت يجمعون الناس أو يجمعون جماعة معنية ليقرؤوا أو يطعموهم أو يعطوهم فلوساً ، فهذا بدعة لا أصل له".
انتهى من " فتاوى نور على الدرب " (14/ 202).

📌 وأما القول بأن الاجتماع للعزاء لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فهو من البدع المحدثة .
فيجاب عنه :
بأن الاجتماع للعزاء من العادات، وليس من العبادات، والبدع لا تكون في العادات، بل الأصل في العادات: الإباحة .
ثم إن التعزية أمر مقصود شرعاً، ولا وسيلة لتحصيلها في مثل هذه الأزمنة إلا باستقبال المعزين، والجلوس لذلك، فإن ذلك مما يعينهم على أداء السنة .

📌 وقد سئل الشيخ ابن باز عن استقبال المعزين والجلوس للتعزية ، فقال : "
لا أعلم بأساً فيمن نزلت به مصيبة بموت قريب ، أو زوجة ، ونحو ذلك ، أن يستقبل المعزين في بيته في الوقت المناسب ؛ لأن التعزية سنة ، واستقبال المعزين مما يعينهم على أداء السنة ؛ وإذا أكرمهم بالقهوة ، أو الشاي ، أو الطيب ، فكل ذلك حسن " انتهى من "مجموع فتاوى ومقالات متنوعة" (13/373).

📌 وقال الشيخ صالح آل الشيخ : " والذي رأيناه من علمائنا في هذا البلد وفي غيره حتى علماء الدعوة من قبل أنهم كانوا يجلسون ؛ لأنه لا تكون المصلحة إلا بذلك ، إذا فات ذلك فاتت سنة التعزية .
وحتى على القول بالكراهة ، فإن الكراهة تزول عند وجود الحاجة كما هو معلوم عند العلماء ، ولا شك أن الجلوس للتعزية تشتد لها الحاجة في هذا الزمن لما فيها من تيسير على المعزين ورفع للحرج عنهم .

💢 فقد يكون أبناء الميت وأقاربه في أصقاع مختلفة أو في نواح متباعدة داخل المدينة الواحدة مما يصعب فيه على من أراد التعزية التنقل بينهم .
وقد علل بهذا التعليل الشيخ عبد العزيز بن باز حينما سئل عن حكم الجلوس للتعزية، فأجاب بالجواز قائلاً : " إذا جلسوا حتى يعزيهم الناس فلا حرج إن شاء الله حتى لا يتعبوا الناس ، لكن من دون أن يصنعوا للناس وليمة " .
انتهى من "مجموع الفتاوى" (13/382).

📌 وقال الشيخ محمد المختار الشنقيطي : " كان السلف يمنعون ذلك ، وكان الإمام مالك رحمة الله عليه يشدد في ذلك كثيراً ويمنع منه ، وعلى ذلك درج فعل السلف ، لكن أفتى المتأخرون من العلماء والفقهاء أنه لا حرج في هذه العصور المتأخرة .
والسبب في ذلك : أن العصور المتقدمة كان الناس قليلين ، ويمكنك أن ترى آل الميت في المسجد ، وأن تراهم في الطريق ، وأن تراهم في السابلة وتعزي ، وكان الأمر رِفقاً ، بل قل أن يموت ميت إلا وعلم أهل القرية كلهم وشهدوا دفنه ، فكان العزاء يسيراً .

لكن في هذه الأزمنة اتسع العمران ، وصعُب عليك أن تذهب لكل قريب في بيته ، ويحصل بذلك من المشقة ما الله به عليم ، وفيه عناء ؛ لذلك لو اجتمعوا في بيت قريبٍ منهم كان أرفق بالناس وأرفق بهم ، وأدعى لحصول المقصود من تعزية الجميع والجبر بخواطر الجميع ؛ ولذلك أفتوا بأنه لا حرج -في هذه الحالة- من جلوسهم ، ولا يعتبر هذا من النياحة ، بل إنه مشروع لوجود الحاجة له ".
انتهى من "سلسلة دروس شرح الزاد" (86/ 16، بترقيم الشاملة آليا) .

📌 وكثير من العلماء إنما أنكر الاجتماع لما يحدث فيه غالباً من البدع والمنكرات ، وأما مع الخلو من ذلك ، فلا حرج فيه .
قال شمس الدين المنبجي الحنبلي : " إن كان الاجتماع فيه موعظة للمعزَّى بالصبر والرضا وحصل له من الهيئة الاجتماعية تسلية بتذاكرهم آيات الصبر ، وأحاديث الصبر والرضا ، فلا بأس بالاجتماع على هذه الصفة ، فإن التعزية سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لكن على غير الصفة التي تفعل في زماننا من الجلوس على الهيئة المعروفة اليوم ، لقراءة القرآن ، تارةً عند القبر في الغالب ، وتارةً في بيت الميت ، وتارة في المجامع الكبار ، فهذا بدعة محدثة ، كرهها السلف ".
انتهى من " تسلية أهل المصائب " (ص: 121) .

🔴  والخلاصة : أن مسألة الجلوس الخالي من المنكر وتهييج الأحزان مسألة دار فيها الخلاف ، وهي محل نظر، والأمر فيها واسع ، وأما مع وجود المنكرات والبدع فممنوعة .

وأما مع الخلو منها ، فأدلة القول الثاني – وهو القول بالجواز – أصح إسناداً ، وأظهر دلالةً ، وأما أدلة المنع فهي آثار ضعيفة ، ليس منها شيء صريح الرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، كما أن دلالتها محتملة ، إذ يبدو أن المنع فيها ليس عن الجلوس للتعزية المجردة ، بل عن تكلف أهل الميت للناس بصنع الطعام وقد جاءهم ما يشغلهم بالمصيبة .
ثم لا يخفى أن القول بالجواز هو الأقرب إلى اليسر ورفع الحرج ، وخاصة مع اختلاف الزمان وتنوع مشاغل الناس ، مما اضطرهم إلى اتخاذ بعض الأعراف التي تساعدهم على تنظيم أمور حياتهم ، ومنها اجتماع أهل الميت لتلقي مواساة الناس وتعزيتهم في بداية هذه المصيبة ، فلا يضطر المعزون إلى التفتيش عن أهل المتوفى واحدا واحدا في أماكن عملهم أو مساجدهم أو حتى بيوتهم ، ولا يلجؤون إلى ترك أعمالهم أياما كثيرة لإدراك ذلك مع بعد المسافات واختلاف الظروف والأوقات .
فلو لم يكن في القول بالجواز إلا رفع المشقة والحرج عن الناس لكان كافياً في ترجيحه ، فكيف وقد عضدته الأدلة الصريحة الصحيحة !

💢  وفي النهاية 
أقول وبالله التوفيق والسداد والرشاد المسألة خلافية ، والخلاف فيها سائغ معتبر، فلماذا نحمل الناس على الرأي الواحد الذي يرى بعدم الجلوس والمنع منه ، مع العلم أن هذا الرأي ضعيف ولا دليل قوي عليه كما قرأت في البحث، والقول بالجواز هو الراجح وهو القوي .
والعلماء متفقون على أنه لا يجوز الإنكار في المسائل الخلافية ، التي فيها الخلاف سائغ معتبر كهذه المسألة .
فمن قلد العلماء الذين يرون بعدم جواز الجلوس للعزاء فلا ننكر عليه، ومن قلد العلماء الذين يرون بجواز الجلوس للعزاء وهو الأقوى فلا ننكر عليه ولا نتهمه بالبدعة .
والله أعلم .