)) العافية في التغافل ))
ما هو التغافل ؟
التغافل معناه : هو تعمد الغفلة أي أنه يُرِيَ الآخر أنه غافل ، مع علمه التام وإحاطته بما هو مُتغافل عنه ترفعاً عن الدنايا وسفاسف الأمور .
والتغافل أدب عظيم وخلق شريف تأدب به الحكماء ونوَّهَ بفضله العلماء ، فيجب على صاحب المروءة أن يتغافل ويتجاوز عن أهله وأصحابه و موظفيه إن هم قصروا بشيء ما ، فلا يستقصي مكامن تقصيرهم فيبرزها لهم ليلومهم ويحاججهم عليها ، ولا يذكرهم بحقوقه الواجبة عليهم تجاهه عند كل زلة 0وإنما يتغافل عن اليسير وهو يعلمه 0
ولا ينبغي لمن رام تقويم نفسه واستكمال فضائلها أن يغفل عن هذا الخلق الرفيع ، فإن مجال استعماله واسع فسيح في حياة الإنسان، فليستعمله مع موظفيه أو زملائه وأصدقائه ، مع زوجه وأبنائه ، مع خدمه وطلابه ، وهو أيضاً يُعد فناً من فنون الأخلاق التي ينبغي الاعتناء بها ،
وقد ذكروا أنَّ الناصر صلاح الدين الأيوبي كان يتحلى كثيراً بأدب التغافل ، وكذلك قتيبة ابن مسلم وغيرهم الكثير .
فما أخلقنا بالتأدب بهذا الأدب والتحلي به في مواقف حياتنا ، فإن استقصاء كل صغيرة وكبيرة يقدح شرارة الغضب والشحناء بين القلوب وهذا ما لا ينبغي على المسلم أن يقع فريسته بحال من الأحوال
وتغافل عن الخطأ ولا تفكر في الوقوف عند الخطأ وتعاتب ، فإن كثرة العتاب تنفر وتفرق
ولا تنسى أن تلتمس العذر وتحسن الظن وتقبل الاعتذار
قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "" لا تظنَّ بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيراً، وأنت تجد لها في الخير محملاً" .
قال الإمام ابن القيم : " من أساء إليك ثم جاء يعتذر من إساءته، فإن التواضع يوجب عليك قبول معذرته، حقاً كانت أو باطلاً، وتكل سريرته إلى الله .. ".
قال الإمام الشافعي: "الكيس العاقل؛ هو الفطن المتغافل"
وقال الأعمش : التغافل يطفئ شراً كثيرا ، وقال سفيان : ما زال التغافل من شِيَم الكرماء 0
وجاء في لامية ابن الوردي الشهيرة :
وتغافل عن أمورٍ إنهُ .. لم يفزْ بالحمدِ إلا مَن غفلْ
و قال عمرو المكي - رحمه الله : من المروءة التغافل عن زلل إخوانك "
وقال الأعمش - رحمه الله : " التغافل يطفئ شراً كثيراً "
و قال جعفر - رحمه الله :" عظموا أقدراكم بالتغافل "
و قال بعض العارفين : " تناسَ مساوئ إخوانك تستدِم ودّهم "
قال الشاعر : أحبُ من الأخوانِ كل مواتيِ **** وكلَ غضيضُ الطرفِ عن هفواتِ
و قال أخر : ويغضُ طرفاً عن إساءةِ من أساءَ **** و يحلمُ عند جهلِ الصاحبِ
وقالوا: وإن أساء مسيءٌ فليكُنْ لك في * عُروضِ زَلّتِه صَفْـحٌ وغُفـرانُ
إنَّ خلق التغافل مُنْسِيّ ٌبيننا رغم أنه ُخلقٌ مُريح مُسْعِد ! ورغم أنَّ ربنا قد أوصانا به كثيرا لفوائده المُسْعِدَة ! فيقول تعالي علي سبيل المثال لا الحصر ممتدحا إياه : {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } [الأعراف: 199] ، يقول الإمام السعدي في تفسيره للآية الكريمة : ” .. هذه الآية جامعة لحُسْن الخلق مع الناس .. أن يأخذ العفو : أي ما سَمَحَت به أنفسهم وما سهل عليهم من الأعمال والأخلاق ، فلا يكلفهم ما لا تسمح به طبائعهم ، بل يشكر من كلّ أحد ٍما قابله به من قول ٍأو فعل ٍجميل ٍأو ما هو دون ذلك ، ويتجاوز عن تقصيرهم ويغضّ طرفه عن نقصهم ، بل يُعامِل الجميع باللطف والمقابَلة بما تقتضيه الحال وتنشرح له صدورهم .
{ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ } أي بكل قول ٍحسن ٍوفعل ٍجميل ٍوُخلق ٍكامل ٍللقريب والبعيد … وأمَرَ الله تعالي أن يُقابَل الجاهل بالإعراض عنه وعدم مقابلته بجهله ، فمن آذاك بقوله أو فعله لا تؤذه ومَن حرمك لا تحرمه ومن قطعك فصِله ومن ظلمك فاعدِل فيه .. ” ويقول الإمام البغوي في تفسيره : ” .. مثل قبول الاعتذار والعفو والمُساهَلة وترك البحث عن الأشياء ونحو ذلك .. “ إنَّ خلق التغاُفل يعني غضّ النظر والتجاوُز والتسامُح عن بعض الأخطاء والسلبيات ، فلا تدقيق وتحليل وترصّد للسوء في كل كلمة ٍوأي تصرّف ، كما يقول تعالي موصيا ومنبّها لخُلق ٍكريم ٍمن أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم لنقتدي به ونفعل مثله : { عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ } [التحريم:3 ] ، والذي قال فيه الإمام الآلوسي في تفسيره : ” … دلالة علي أنه يَحْسُن … التلطفّ في العَتَب والإعراض عن استقصاء الذنب .. ” ، وليس هذا بالتأكيد تسطيحا للأمور وتبسيطا ! وإنما هو في عُمْقها وصَميمها ! لأنه يُعطِي فرصة للمخطئ لكي يُصَوِّبَ هو نفسه بنفسه ، بعقله وإرادته ، فيكون هذا أستر له بعدم فضحه أو تغيير صورته الجيدة لدي الآخرين وأكثر تشجيعا للتقويم ، فيسعد الجميع ، المخطئ بالتصحيح ، ومَنْ حوله بإحسانه وبألا َّيفعلوا خطأه ، كما يُفهَم ضمنا من قوله صلى الله عليه وسلم : ” .. ومَنْ سَتَرَ مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة .. ” جزء من حديث رواه البخاري ، ومن قوله : ” إنَّ الله رفيق يحب الرفق ويُعطي علي الرفق ما لا يُعطي علي العنف وما لا يُعطِي علي سواه ” رواه مسلم ، فكثير من المشاكل في حياتنا يمكن أن تختفي نهائيا، وكثير من النيران التي تشتعل في بيوتنا يمكن أن تنطفئ، وكثير من الخلافات والصراعات الحادة في مجتمعاتنا يمكن أن تزول بعلاج واحد، وخلق فريد ألا وهو خلق التغافل.
من أتقن سياسة "التغافل" أراح نفسه، وأراح الناس من حوله.
مرَّ من أمامي ولم يسلم عليَّ، "أين المشكلة؟"
سلمت عليه ولم يرد عليَّ، هناك ملك فوق رأسه يرد عليك بدلا منه، وشتان بين الردين!؟
قابل إحسانك له بالإساءة، ومعروفك بالجحود، وخيرك بالجفاء،" كل إناء ينضح بما فيه"
دائماً يعارضك، ورأيه عكس رأيك في غالب الأحيان، "الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية".
أعذاره متعددة ومبرراته جاهزة، عُدَّ له حتى السبعين وافعل ما بدا لك.
يتكلمون عنك ويكثر حولك القيل و القال، "دعهم في غيِّهم يعمهون"
يتمنون زوال نعمة من نعم الله عليك، "الحسد ، بدأ بصاحبه فقتله".
يستصغرونك ويحتقرونك ويقللون من شأنك، ذبابة قتلت النمرود ونملة أوقفت نبي الله سليمان، أما وقد رأيت البعوضة تدمي مقلة الأسد.
يثبطون عزيمتك ويطفئون حماسك، إذا عرفت نفسك و قدراتك جيداً فلا يهمك ما يقوله الناس عنك.
يعيبون عليك صمتك ويلومونك على قلة كلامك، "الأواني الفارغة أكثر ضجيجاً من الممتلئة"
تلك إذن :" عشرة كاملة".
وفي الأخير: " أنا لا ابحث عن مكان في قلب كل إنسان بل ابحث عن فردوس عند رب الجنان" .
إحسانك وتعاملك لا يُنسى ، فلا تندم على لحظات أسعدت بها أحدًا حتى وإن لم يكن يستحق ،
كن شيئا جميلاً ﺑحياة من يعرفك و كفى ، إن لنا ربّ ، يجازينا بالإحسان إحسانا .
زرعان يحبهما الله : زرع الشجر وزرع الأثر ..
فإن زرعت الشجر ربحت ظل وثمر .. وإن زرعت طيب الأثر . حصدت محبة الله ثم البشر ..
فهل تعلمنا خلق التغافل ؟ وألزمنا أنفسنا خلق التغافل ؟ فالعافية كل العافية في التغافل .