بيان فضل يوم عاشوراء وأنه يوم عظيم نجّى الله تعالى فيه موسى عليه السلام وقومَه من بطش فرعون وجنده، والتحذير من سلوك سبيل المجرمين وأهل البدع كالروافض.
سلسلة الخطب المقترحة رقم ((561))
الخطبة الأولى من محرم لعام 1446 هـ
عنوان الخطبة (إن معي ربي سيهدين))
الغرض من الخطبة:بيان فضل يوم عاشوراء وأنه يوم عظيم نجّى الله تعالى فيه موسى عليه السلام وقومَه من بطش فرعون وجنده، والتحذير من سلوك سبيل المجرمين وأهل البدع كالروافض.
عناصر الموضوع:
1) العاقبة للمتقين.
2) عاشوراء بين أهل السنة وأهل البدع.
المقدمة
أما بعد، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم: 5].
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: يَقُولُ تَعَالَى: وَكَمَا أَرْسَلْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ وأَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ، لِتُخْرِجَ النَّاسَ كُلَّهُمْ، تَدْعُوهُمْ إِلَى الْخُرُوجِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، كَذَلِكَ أَرْسَلْنَا مُوسَى فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ بِآيَاتِنَا.
{أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ} أَيْ: أَمَرْنَاهُ قَائِلِينَ لَهُ: {أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} أَيِ: ادْعُهُمْ إِلَى الْخَيْرِ، لِيَخْرُجُوا مِنْ ظُلُمَاتِ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ إِلَى نُورِ الْهُدَى وَبَصِيرَةِ الْإِيمَانِ.
{وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} أَيْ: بِأَيَادِيهِ ونعَمه عَلَيْهِمْ، فِي إِخْرَاجِهِ إِيَّاهُمْ مِنْ أَسْرِ فِرْعَوْنَ وَقَهْرِهِ وَظُلْمِهِ وَغَشْمِهِ، وَإِنْجَائِهِ إِيَّاهُمْ مِنْ عَدْوِهِمْ، وَفَلْقِهِ لَهُمُ الْبَحْرَ، وَتَظْلِيلِهِ إِيَّاهُمْ بِالْغَمَامِ، وَإِنْزَالِهِ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ النِّعَمِ.
وَقَوْلُهُ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} أَيْ: إِنَّ فِيمَا صَنَعْنَا بِأَوْلِيَائِنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ حِينَ أَنْقَذْنَاهُمْ مِنْ يَدِ فِرْعَوْنَ، وَأَنْجَيْنَاهُمْ مِمَّا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ، لَعِبْرَةٌ لِكُلِّ صَبَّار، أَيْ: فِي الضَّرَّاءِ، شَكُورٌ، أَيْ: فِي السَّرَّاءِ، كَمَا قَالَ قَتَادَةُ: نِعْمَ الْعَبْدُ، عَبْدٌ إِذَا ابتُلِي صَبَر، وَإِذَا أُعْطِيَ شَكَرَ. انتهى باختصار.
بين يدي الخطبة:
العاقبة للمتقين
إن من سنن الله التي لا تتغير أن النجاة وحسن العاقبة إنما هي للمتقين، وأن الهلاك وسوء العاقبة للظالمين.
قال تعالى: (إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ)، وقال تعالى: (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)، وقال تعالى: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).
وتأمل كيف كانت نجاة موسى عليه السلام وقومه، وكيف كان هلاك فرعون وقومه، بعد ما كان من صراع طويل بين الحق والباطل حتى ظهر الحق وانتصر؟
نجّى الله تعالى موسى عليه السلام ومن معه من المؤمنين، وأهلك فرعون ومن معه من الجنود الظالمين، وظهر الحق الذي لا يسع أحد تركه، فاستكبر فرعون وملؤه عن الإذعان والاستسلام، (وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ)، أوحى الله تعالى إلى موسى أن يخرج هو ومن معه من المؤمنين، (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ)، وأرسل فرعون في المدائن بالتنكيل والتحذير، (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ . إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ . وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ . وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ)، فخرج موسى بالمؤمنين وبشرهم بنصر الله وفرجه، (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ . قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)، توجه موسى عليه السلام ومن معه إلى البحر، وكله يقين ورجاء وحسن ظن بالله تعالى، واتبعه فرعون وجنوده ظلمًا وبغيًا وعدوانًا، فأمر الله تعالى موسى عليه السلام أن يضرب بعصاه البحر وأن يعبر هو ومن معه، وأمر البحر أن يطبق على فرعون ومن معه، قال تعالى: (فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ . فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ . قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ . فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ . وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ . وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ . ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ . إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ . وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)، وقال سبحانه: (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ . وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى)، وقال عز وجل: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ . آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ . فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ)، وهذا اليوم العظيم الذي نجّى الله تعالى فيه موسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقومَه من بطش فرعون وجنودِه هو يوم عاشوراء، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ الْمَدِينَةِ فَوَجَدَ الْيَهُودَ صِيَامًا يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي تَصُومُونَهُ؟» فَقَالُوا: هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ أَنْجَى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى وَقَوْمَهُ وَغَرَّقَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ فَصَامَهُ مُوسَى شُكْرًا فَنَحْنُ نَصُومُهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَنَحْنُ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ». فَصَامَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَ بصيامه. متفق عليه.
وتجدر لإشارة هنا إلى عدة قضايا مهمة، ومنها:
القضية الأولى: الولاء والبراء: فإن المؤمن يوالي اللهَ ورسولَه والمؤمنين، ويتبرأ من الكفرِ والكافرين، قال الله تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ . وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ . يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)، فنحن مأمورون بمخالفة المشركين واليهود والنصارى، قال الله عز وجل: (لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ)، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فإنهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)، وقال سبحانه: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ)، وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَتَتَّبِعُنَّ سننَ مَنْ قبلكُمْ شبْرًا بشبرٍ وذراعاً بذراعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ.» قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: «فَمَنْ؟» مُتَّفق عَلَيْهِ، وهذا من باب الذم، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ». رَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وحسنه الألباني، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يَصبِغون فخالفوهم». متفق عليه، وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رضي الله عنه أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَالِفُوا الْيَهُودَ فَإِنَّهُمْ لَا يُصَلُّونَ فِي نِعَالِهِمْ وَلَا خِفَافِهِمْ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وصححه الألباني، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ: أَوْفِرُوا اللِّحَى وَأَحْفُوا الشَّوَارِبَ". متفق عليه، وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا إِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ فِيهِمْ لَمْ يُؤَاكِلُوهَا وَلَمْ يُجَامِعُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ، فَسَأَلَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ) إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا النِّكَاحَ»، فَبَلَغَ ذَلِكَ الْيَهُودَ، فَقَالُوا: مَا يُرِيدُ هَذَا الرَّجُلُ أَنْ يَدَعَ مِنْ أَمْرِنَا شَيْئًا إِلَّا خَالَفَنَا فِيهِ.. الحديث. رَوَاهُ مُسلم.
ولأن اليهود يعظمون يوم عاشوراء فنحن نخالفهم في هيئة التعبد، فإن كانوا يخصونه ويفردونه بالصيام فنحن نصوم يومًا قبله مخالفة لهم، فعَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أنه قَالَ: حِينَ صَامَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ يَوْمٌ يُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ إِنْ شَاءَ اللهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ»، قَالَ: فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. رَوَاهُ مُسلم، وفي رواية: «لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ لأصومن التَّاسِع»، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: صوموا التاسع والعاشر، وخالفوا اليهود. رواه الترمذي وصححه الألباني.
القضية الثانية: قضية أولى الناس بأنبياء الله وأحقهم برسله: إن أولى الناس بأنبياء الله تعالى ورسله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأمته وأتباعه، فنحن أولى بالأنبياء من غيرنا، ونحن أتباع الأنبياء وأنصارهم، وليس على وجه الأرض اليوم من يتبع الأنبياء حقًا سوى أهل الإسلام أهل التوحيد الخالص، قال تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ}، وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: «فَنَحْنُ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ». متفق عليه.
القضية الثالثة: قضية اليقين بموعود الله، والثقة فيما عند الله، والتعلق بالله والتوكل عليه وتفويض الأمور إليه، مع الأخذ بالأسباب المشروعة الممكنة، وعدم الاعتقاد فيها: قال الله عز وجل: {فلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ . قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ . فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ . وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ . وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ . ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ}.
فما أعظم يقين موسى عليه السلام! وما أعظم ثقته بالله وتوكله على الله! وما أعظم تعلقه بربه وحسن ظنه به!
إن الأسباب مهما بلغت فإنها خذالة، إلا أن ترتبط بالوحي، فلا يجوز الاتكال عليها، وإسناد الأمر إليها، وفي الحديث: «مَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِليهِ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وحسنه الألباني، ومعناه: أَن مَنْ تَعَلَّقَ بِشَيْءٍ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى وُكِلَ إِلَيْهِ وَجُعِلَ أَمْرُهُ لَدَيْهِ، وَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ كَفَاهُ أَمْرَ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، وَأَغْنَاهُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ مِمَّا سِوَاهُ.
فمن تعلق بالأسباب أيًا كانت تُرك إليها فهل تغني عنه من الله شيئًا؟! كلا؛ بخلاف تعلق بالله فذاك الذي يفوز برضوان الله وفضله وإنعامه وإحسانه.
إن أمة مكلومة كأمتنا ما أحوجها إلى اليقين فيما عند الله والتوكل عليه، قَالَ تَعَالَى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزُّمَرِ: 36] وَقَالَ: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطَّلَاقِ: 3].
حينما يعظم اليقين والتوكل تَحِلُّ الرحمات وتتنزل البركات، وتُغفر الزلات، وتُحَلُّ العقد، وتنفرج الكُرَب، ويرفع البلاء، وتُدبر الضراء، وتُقبل السراء، وتنجلي الظلمات، ويشع النور، ويظهر الحق ويزهق الباطل.
إن الأمة تحتاج إلى الإيمان الصادق واليقين الأكيد، حينها تنتصر على الأعداء، وتحرر الأقصى، وتغيث أهله، وتفك قيد أسارى المسلمين في كل مكان، وقيد البلاد المحتلة، وتعود الأمة إلى سابق عهدها ومجدها.
نسأل الله تعالى أن يفرج كرب أمتنا، وينتقم من أعدائنا.
عاشوراء بين أهل السنة وأهل البدع
إن من تأمل شريعتنا والتمس الهدى فيها وجده ظاهرًا في كل جوانبها يفصح عن نفسه بجلاء، ومن ذلك وضوح قضية الاتباع وعدم الابتداع، والتمسك بالسنة ومخالفة أهل البدع، فنحن مأمورون بالاتباع وعدم الابتداع، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}، وقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، وعن العِرباض بنِ ساريةَ رضي الله عنه أنه قال: وعَظنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ موعظةً وَجِلتْ منها القلوبُ، وذَرَفَتْ منها العيونُ، فقلنا: يا رسولَ الله! كأنها موعظةُ مودِّعٍ، فأوصنا. قال: "أوصيكم بتقوى اللهِ، والسمع والطاعةِ، وإنْ تَأمَّر عليكم عبدٌ، وإنَّه من يعِشْ منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي، وسنةِ الخلفاء الراشدين المَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عليها بالنواجذِ، وإيَّاكم ومحدَثات الأمور، فإن كلَّ بدعة ضلالةٌ". رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وصححه الألباني، وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من أحْدَثَ في أمرِنا هذا ما ليس منه؛ فهو ردٌّ". رواه البخاري ومسلم.
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كُفِيْتُم، عليكم بالأمر العتيق.
وللمسلم أن يكثر من الصيام في شهر الله المحرم لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمِ وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ». رَوَاهُ مُسلم.
وله أن يخص يوم العاشر منه بالصيام، وهو يوم عاشوراء، لحديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أنه قَالَ: مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ إِلَّا هَذَا الْيَوْمَ: يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَهَذَا الشَّهْرُ يَعْنِي شَهْرَ رَمَضَان. متفق عليه.
فإن من فضائل يوم عاشوراء أن صيامه يكفر ذنوب سنة كاملة: فعَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ». رَوَاهُ مُسلم، وقد كان صيامه واجبًا ثم نُسخ الوجوب بفرض رمضان، وبَقِيَّ استحباب يوم عاشوراء، بدليل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ إِنْ شَاءَ اللهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ». رواه مسلم.
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله: وكان للنبي صلى الله عليه وسلم في صيامه أربع حالات:
الحالة الأولى: أنه كان يصومه بمكة ولا يأمر الناس بالصوم، ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان عاشوراء يومًا تصومه قريش في الجاهلية، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصومه، فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه، فلما نزلت فريضة شهر رمضان كان رمضان هو الذي يصومه، فترك يوم عاشوراء، فمن شاء صامه ومن شاء أفطره. وفي رواية للبخاري: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شاء فليصمه ومن شاء أفطر".
الحالة الثانية: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة ورأى صيام أهل الكتاب له وتعظيمهم له وكان يحب موافقتهم فيما لم يؤمر به صامه وأمر الناس بصيامه، وأكد الأمر بصيامه والحث عليه حتى كانوا يصومونه أطفالهم، ففي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما هذا اليوم الذي تصومونه؟" قالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرًا فنحن نصومه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فنحن أحق وأولى بموسى منكم"، فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه.
وفي الصحيحين عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلا من أسلم أن أذن في الناس: "من أكل فليصم بقية يومه، ومن لم يكن أكل فليصم، فإن اليوم يوم عاشوراء". وفيهما أيضا عن الربيع بنت معوذ قالت: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة: "من كان أصبح صائما فليتم صومه، ومن كان أصبح مفطرا فليتم بقية يومه"، فكنا بعد ذلك نَصُومه ونُصَوِّم صبياننا الصغار منهم، ونذهب إلى المسجد فنجعل لهم اللعبة من العهن، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه إياها حتى يكون عند الإفطار. وفي رواية: فإذا سألونا الطعام أعطيناهم اللعبة نلهيهم حتى يتموا صومهم. وفي الباب أحاديث كثيرة جدا.
الحالة الثالثة: أنه لما فرض صيام شهر رمضان ترك النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة بصيام عاشوراء وتأكيده فيه، وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: صام النبي صلى الله عليه وسلم عاشوراء وأمر بصيامه فلما فرض رمضان ترك ذلك، وكان عبد الله لا يصومه إلا أن يوافق صومه، وفي رواية لمسلم: إن أهل الجاهلية كانوا يصومون يوم عاشوراء وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صامه والمسلمون قبل أن يفرض رمضان، فلما فرض رمضان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن عاشوراء يوم من أيام الله فمن شاء صامه ومن شاء تركه"، وفي رواية له أيضا: "فمن أحب منكم أن يومه فليصمه ومن كره فليدعه"، وفي الصحيحين أيضا عن معاوية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "هذا يوم عاشوراء ولم يكتب الله عليكم صيامه، وأنا صائم فمن شاء فليصم ومن شاء فليفطر".
وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود أنه قال في يوم عاشوراء: هو يوم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه قبل أن ينزل رمضان فلما نزل شهر رمضان ترك وفي رواية أنه تركه وفيه أيضا عن جابر بن سمرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بصيام يوم عاشوراء ويحثنا عليه ويتعاهدنا عنده فلما فرض رمضان لم يأمرنا ولم ينهنا عنه ولم يتعاهدنا عنده.
الحالة الرابعة: أن النبي صلى الله عليه وسلم عزم في آخر عمره على أن لا يصومه مفردا بل يضم إليه يوما آخر مخالفة لأهل الكتاب في صيامه، ففي صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال حين صام رسول الله صلى الله عليه وسلم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع"، قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي رواية له أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع مع العاشر"، يعني عاشوراء، وخرجه الطبراني ولفظه "إن عشت إلى قابل صمت التاسع مخافة أن يفوتني عاشوراء".
وفي مسند الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صوموا يوم عاشوراء وخالفوا اليهود صوموا قبله يوما وبعده يوما" وجاء في رواية: "أو بعده"، وقد صح عن ابن عباس يقول في يوم عاشوراء: خالفوا اليهود صوموا التاسع والعاشر. قال الإمام أحمد أنا أذهب إليه. انتهى باختصار من لطائف المعارف.
وقال رحمه الله: وكان اليهود من أهل المدينة وخيبر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخذونه عيدا، وكان أهل الجاهلية يقتدون بهم في ذلك، وكانوا يسترون فيه الكعبة، ولكن شرعنا ورد بخلاف ذلك، ففي الصحيحين عن أبي موسى قال: كان يوم عاشوراء يوما تعظمه اليهود وتتخذه عيدا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صوموه أنتم"، وفي رواية لمسلم: كان أهل خيبر يصومون يوم عاشوراء يتخذونه عيدا ويلبسون نساءهم فيه حليهم وشارتهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فصوموه أنتم"، وخرجه النسائي وابن حبان وعندهما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خالفوهم فصوموه"، وهذا يدل على النهي عن اتخاذه عيدا، وفي صيامه مع صيام يوم آخر معه مخالفة لهم في كيفية صيامه أيضا، فلا تبقى فيه موافقة لهم في شيء بالكلية، وعلى مثل هذا يحمل ما خرجه الإمام أحمد والنسائي وابن حبان من حديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم يوم السبت ويوم الأحد أكثر ما يصوم من الأيام ويقول: "إنهما يوما عيد للمشركين فأنا أحب أن أخالفهم" فإنه إذا صام اليومين معا خرج بذلك عن مشابهة اليهود والنصارى في تعظيم كل طائفة ليومها منفردا، وصيامه فيه مخالفة لهم في اتخاذه عيدا، ويجمع بذلك بين هذا الحديث وبين حديث النهي عن صيام يوم السبت.
وأما اتخاذه مأتما كما تفعله الرافضة لأجل قتل الحسين بن علي رضي الله عنه فهو من عمل من ضل سعيه في الحياة الدنيا وهو يحسب أنه يحسن صنعا ولم يأمر الله ولا رسوله باتخاذ أيام مصائب الأنبياء وموتهم مأتما فكيف بمن دونهم. انتهى بتصرف من لطائف المعارف.
إذن السنة والهدي في يوم عاشوراء الصوم، ولا يصح الزيادة على هذا بنحو اتخاذه يوم عيد أو فرح أو تخصيصه بشيء من العبادات التي لم تشرع فيه، بل هذا من فعل اليهود ثم النواصب فرحًا بمقتل الحسين رضي الله عنه، وكذا لا يشرع اتخاذه يوم حزن وكرب وشق للجيوب ولطم للخدود وجرح للأبدان وتقييدًا لها بالسلاسل، كما يفعل الشيعة الروافض.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وَصَارَ الشَّيْطَانُ بِسَبَبِ قَتْلِ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُحْدِثُ لِلنَّاسِ بِدْعَتَيْنِ: بِدْعَةَ الْحُزْنِ وَالنَّوْحِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، مِنَ اللَّطْمِ وَالصُّرَاخِ وَالْبُكَاءِ وَالْعَطَشِ وَإِنْشَادِ الْمَرَاثِي، وَمَا يُفْضِي إِلَيْهِ ذَلِكَ مِنْ سَبِّ السَّلَفِ وَلَعْنَتِهِمْ، وَإِدْخَالِ مَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ مَعَ ذَوِي الذُّنُوبِ، حَتَّى يُسَبَّ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ، وَتُقْرَأَ أَخْبَارُ مَصْرَعِهِ الَّتِي كَثِيرٌ مِنْهَا كَذِبٌ. وَكَانَ قَصْدُ مَنْ سَنَّ ذَلِكَ فَتْحَ بَابِ الْفِتْنَةِ وَالْفُرْقَةِ بَيْنَ الْأُمَّةِ ; فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ وَاجِبًا وَلَا مُسْتَحَبًّا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ إِحْدَاثُ الْجَزَعِ وَالنِّيَاحَةِ لِلْمَصَائِبِ الْقَدِيمَةِ مِنْ أَعْظَمِ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَكَذَلِكَ بِدْعَةُ السُّرُورِ وَالْفَرَحِ. انتهى كلامه ويقصد به الرافضة والناصبة.
وكذا لا يجوز فيه ولا في غيره شد الرحال إلى القبور والأضرحة، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَمَسْجِدِي هَذَا». متفق عليه، وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي لَمْ يَقُمْ مِنْهُ: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِد». يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا. رواه البخاري، وَعَن جُنْدُب رضي الله عنه أنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «أَلَا وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ». رَوَاهُ مُسلم.
إن الأموات لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًا فضلاً عن أن يملكوه لغيرهم، فلا يجوز أن تشد إليهم الرحال، ولا يصرف لهم شيء من العبادات، فلا يدعون مع الله، ولا يتوسل بهم، ولا يستغاث بهم، ولا يطلب منهم قضاء الحاجات وكشف الكربات، ولا يذبح لهم ولا عندهم، ولا ينذر لهم، ولا يتبرك بهم، ونحو ذلك، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ . إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}.
وكذا لا يجوز تخصيص أول ليلة من الشهر ولا أول يوم بعبادة ما، بنية العام الجديد مثلاً وافتتاحه بطاعة أو نحو ذلك، كما لا يجوز هذا في آخر يوم من السنة، وكذا لا يجوز اتخاذه عيدًا على نحو اتخاذ النصارى لرأس السنة، فهذا بدعة وتشبه واتباع لسنن الضالين، فليس لبداية السنة الهجرية عبادة ولا عيد ولا احتفال، ولم يُؤثر عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ولا عن أحدٍ من أصحابِهِ رضوان الله عليهم ولا عن السَّلفِ الصَّالحِ من التابعين وتابعيهم، ولا عن أئمة الأمة وعلمائِها من الأئمةِ الأربعةِ وغيرهم رحمهم الله؛ فلم يثبت عنهم قط أنهم احتفلوا بهذا، ولكن حدث ذلك بعد القرون المفضلة، وأول من احتفل برأس السنة الهجرية حكام الدولة العُبيديَّةِ -الفاطميَّةِ- في مصر. ذكر ذلك المقريزيُّ في خِطَطه ضمن الأيام التي كان العُبيديُّون يتخذونها أعياداً ومواسم.
مع تحيات
اللجنة العلمية لملتقى الخطيب المؤثر أسد المنابر