السبت ، ٢١ جمادى الأول ، ١٤٤٦ هجري | 23 نوفمبر 2024 ميلادي
الصحبة يا رسول الله
وصف الخطبة : -

التعرف على أهمية دراسة السيرة النبوية، وعلى أحداث هجرة النبي صلى الله عليه وسلمَ من خلال الآثار والسنن، وأخذ الدروس والعبر.


سلسلة الخطب المقترحة رقم ((560))

الخطبة الأولى من ذي الحجة لعام 1445 هـ

عنوان الخطبة (الصحبة يا رسول الله))

الغرض من الخطبة: التعرف على أهمية دراسة السيرة النبوية، وعلى أحداث هجرة النبي صلى الله عليه وسلمَ من خلال الآثار والسنن، وأخذ الدروس والعبر.

عناصر الموضوع:

1- أهمية دراسة السيرة.

2- هجرة الحبيب صلى الله عليه وسلم.

3- من دروس الهجرة النبوية.

المقدمة: أما بعد، قال تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.

بين يدي الخطبة:

أهمية دراسة السيرة

إن لدراسة السيرة النبوية أهمية عظيمة وفوائد جليلة، لذا كانت معرفة المغازي والسير من أهم أسس التربية عند السلف الصالح التي يتربى عليها أولادهم، فقد كانوا يعلمونهم السير والمغازي كما يعلمونهم سور القرآن الكريم.

قال علي بن الحسين رضي الله عنهما: كنا نُعلَّم مغازي النبي صلى الله عليه وسلم كما نعلم السورة من القرآن.

وعن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص أنه قال: كان أبي يعلمنا المغازي، ويعدّها علينا، وسراياه، ويقول: يا بني هذه مآثر آبائكم، فلا تضيعوا ذكرها.

وقال الإمام الزهري رحمه الله: في علم المغازي علم الآخرة والدنيا.

ومن فوائد دراسة السيرة ما يلي:

السيرة النبوية من أهم روافد معرفة النبي صلى الله عليه وسلم نسبًا وخُلُقًا وخِلْقة وحالاً وفعالاً.

السيرة هي التطبيق النبوي للوحي من القرآن والسنة، فيجد المتأمل في سيرته صلى الله عليه وسلم ما يعينه على فهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

محبة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن من عرفه حقًا لا يسعه إلا أن يحبه.

محبة الصحابة رضي الله عنهم، الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحملوا هَمَّ الدين، ونشروه في البلاد.

السيرة النبوية من أهم الوسائل المعينة على الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في المجالات المختلفة، والمواقف المختلفة.

السيرة النبوية من أهم وسائل معرفة دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، والتي منها معجزاته.

فهم طبيعة الصراع بين الحق والباطل، وأن الأمر دين وعقيدة في المقام الأول.

فهم طبيعة الطريق إلى الله تعالى، وتبصير الدعاة المخلصين بالطريق وما يعتريه من مواقف وأحوال.

التعرف على أحوال الجاهلية، وطبيعة المجتمع الذي أرسل الله تعالى نبيه محمدًا فيه، وكيف كان الظلم والظلام يسيطر على حياتهم، ثم كيف كانت الحياة بعد ظهور الإسلام.

معرفة أن الدعوة إلى الله تعالى مسئولية عظيمة تحتاج إلى جهد عظيم لتصل إلى الناس صفية نقية خالية من التشويه.

معرفة أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرًا.

معرفة أن النصر والظهور والفلاح هو في التمسك بالوحي والاعتصام بالكتاب والسنة، وأن الهزيمة في مخالفة ذلك وضده.

معرفة أن النصر من عند الله، لا بالكثرة والقوة، ولا بالعدد والعدة، وإنما هي أسباب.

معرفة أن الله تعالى يخرج من يشاء من الظلمات إلى النور، ويهدي من يشاء، ويضل من يشاء.

مواساة السائرين إلى الله تعالى، بأن يعلموا أن ما أصابهم قد أصاب إخوانهم ممن سبقهم.

معرفة أن العاقبة للمتقين، وأتباع رسله.

تسلية نفوس المؤمنين، وأخذ العظات والدروس والعبر.

معرفة طبائع الناس وكيفية التعامل في المواقف المختلفة.

السيرة النبوية بيان للسنن الإلهية، فالسنن الربانية ثابتة لا تتغير، ولا تتبدل، ولا تتحول، ولا تحابي أحدًا. والسيرة ما هي إلا تأريخٌ لأعظم فترة مرت بها البشرية، فيها أعظم تجربة لبناء أمة هي خير أمة أخرجت للناس، فيه تجربةٌ لبناء دولة، هي أعظم دولة ظهرت على كوكب الأرض، فيها تجربةٌ لإنشاء حضارة؛ هي أعظم حضارة ظهرت على مر العصور. وهذه الحصيلة الضخمة من الخبرات والتجارب التي حوتها السيرة لا غنى لذي عقل عنها فضلاً عن الحكام والعلماء والفلاسفة والمصلحين، فالسيرة بمثابة الكشاف الذي تَفهم به الحاضر وتستلهم منه المستقبل.

السيرة النبوية رحلة بناء للفرد والمجتمع والأمة.

السيرة النبوية من أعظم المناهج التربوية، فهي تربية بالقصة، وبالقدوة، وبالمواقف السديدة، والأحداث والأخبار المفيدة، وفيها الغنى عن قراءة القصص والروايات التي ضررها أكثر من نفعها، والتي اتخذها بعض الشباب منهجًا لحياته، فوقع فريسة لكل كاتب -صادق أو كاذب-، وصار وجبة سهلة لبعض دور النشر التي تقتات من نشر فتن الشبهات والشهوات بين الناس، كأخبار الحوادث، والفضائح، والكلام في الأعراض، ونشر الصور الخليعة، والكلمات البذيئة، ونحو ذلك.

السيرة النبوية متعة للأرواح، وغذاء للأفئدة، وتسلية للصدور، ولذة للأسماع، وتزكية للنفوس.

السيرة النبوية مدخل للعلوم الشرعية، فهي تهيء طالب العلم، وتعده للعلوم الشرعية الأخرى، وتأخذ بيده إليها، وترغبه فيها، لأن السيرة شرح تطبيقي للعقيدة الإسلامية، وفيها مظان الأحكام الشرعية، وأصول الأخلاق النبوية، وهي صدر التاريخ الإسلامي، ومقدمة مهمة لدراسة علم الحديث، وهي درسٌ أساسي لدراسة السياسية الشرعية وأصول الحُكم في الإسلام، وغير ذلك.

هجرة الحبيب صلى الله عليه وسلم

قال الله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}.

لما اشتد إيذاء وتعذيب الكفار للمؤمنين أذن النبي صلى الله عليه وسلمَ للصحابة بالهجرة إلى الحبشة.

قال ابن إسحاق: فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه وما يصيبهم من البلاء والشدة، وأن الله تعالى قد أعفاه من ذلك، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم من قومهم، وأنه ليس في قومهم من يمنعهم كما منعه عمه أبو طالب، أمرهم بالهجرة إلى أرض الحبشة، وقال لهم: "إن بها ملكاً لا يظلم الناس ببلاده في أرض صدق فتحرزوا عنده يأتيكم الله عز وجل بفرج منه، ويجعل لي ولكم مخرجًا"، فهاجر رجال من أصحابه إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة، وفروا إلى الله عز وجل بدينهم، واستخفى آخرون بإسلامهم.

وكان ممن هاجر إلى الحبشة عثمان بن عفان وجعفر بن أبي طالب ورقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلمَ وأم سلمة وأم حبيبة رضي الله عنهم أجمعين.

وفي السنة الثالثة عشرة من بعثة النبي صلى الله عليه وسلمَ أُمر المسلمون بالهجرة إلى المدينة؛ فبدأوا بالرحيل من مكة وتركوا الأهل والديار والأموال؛ فعَن الْبَراء بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه أنه قَالَ: أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا [مِنَ الْمُهَاجِرِينَ] مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ [فَقُلْنَا لَهُ: مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: هُوَ مَكَانَهُ وَأَصْحَابُهُ عَلَى أَثَرِي، ثُمَّ أَتَى بَعْدَهُ عمرو] ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ [فَقُلْنَا: مَا فَعَلَ مَنْ وَرَاءَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ؟ قَالَ: هُمُ الْآنَ عَلَى أَثَرِي]، فَجَعَلَا يُقْرِآنِنَا الْقُرْآنَ، ثُمَّ جَاءَ عَمَّارٌ وَبِلَالٌ وَسَعْدٌ [وَعَبْدُاللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ]، ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي عِشْرِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [رَاكِبًا]، ثُمَّ جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [وَأَبُو بَكْرٍ مَعَهُ] فَمَا رَأَيْتُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ فَرِحُوا بِشَيْءٍ فَرَحَهُمْ بِهِ حَتَّى رَأَيْتُ الْوَلَائِدَ وَالصِّبْيَانَ يَقُولُونَ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَاءَ فَمَا جَاءَ حَتَّى قرأتُ: "سبِّح اسْم ربِّك الْأَعْلَى" فِي سُوَرٍ مِثْلِهَا مِنَ الْمُفَصَّلِ. رَوَاهُ البُخَارِيّ، وما بين المعكوفين فمن رواية ابن حبان وقد صححها الألباني.

قال الله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ، وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ، وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ}.

نقل ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية عن ابن إسحاق عن ابن عباس أَنَّ نَفَرًا مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ أَشْرَافِ كُلِّ قَبِيلَةٍ اجْتَمَعُوا لِيَدْخُلُوا دَارَ النَّدْوَةِ، فَاعْتَرَضَهُمْ إِبْلِيسُ فِي صُورَةِ شَيْخٍ جَلِيلٍ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: شَيْخٌ مِنْ نَجْدٍ، سَمِعْتُ أَنَّكُمُ اجْتَمَعْتُمْ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَحْضُرَكُمْ وَلَنْ يُعْدِمَكُمْ رَأْيِي وَنُصْحِي. قَالُوا: أَجَلْ ادْخُلْ، فَدَخَلَ مَعَهُمْ، فَقَالَ: انْظُرُوا فِي شَأْنِ هَذَا الرَّجُلِ، وَاللَّهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يُوَاثِبَكُمْ فِي أَمْرِكُمْ بِأَمْرِهِ. قَالَ: فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: احْبِسُوهُ فِي وِثَاقٍ ثُمَّ تَرَبَّصُوا بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ حَتَّى يَهْلِكَ كَمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ مِنَ الشُّعَرَاءِ: زُهَيْرٌ وَالنَّابِغَةٌ إِنَّمَا هُوَ كَأَحَدِهِمْ قَالَ: فَصَرَخَ عَدُوُّ اللَّهِ الشَّيْخُ النَّجْدِيُّ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا هَذَا لَكُمْ بِرَأْيٍ وَاللَّهِ لَيُخْرِجَنَّهُ رَبُّهُ مِنْ مَحْبِسِهِ إِلَى أَصْحَابِهِ فَلَيُوشِكَنَّ أَنْ يَثِبُوا عَلَيْهِ حَتَّى يَأْخُذُوهُ مِنْ أَيْدِيكُمْ، فَيَمْنَعُوهُ مِنْكُمْ، فَمَا آمَنُ عَلَيْكُمْ أَنْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ بِلَادِكُمْ. قَالَ: فَانْظُرُوا فِي غَيْرِ هَذَا. قَالَ: فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: أَخْرِجُوهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِكُمْ تَسْتَرِيحُوا مِنْهُ، فَإِنَّهُ إِذَا خَرَجَ لَنْ يَضُرَّكُمْ مَا صَنَعَ وَأَيْنَ وَقَعَ، إِذَا غَابَ عَنْكُمْ أَذَاهُ وَاسْتَرَحْتُمْ، وَكَانَ أَمْرُهُ فِي غَيْرِكُمْ، فَقَالَ الشَّيْخُ النَّجْدِيُّ: وَاللَّهِ مَا هَذَا لَكُمْ بِرَأْيٍ، أَلَمْ تَرَوْا حَلَاوَةَ قَوْلِهِ وَطَلَاوَةَ لِسَانِهِ، وَأَخْذَ الْقُلُوبِ مَا تَسْمَعُ مِنْ حَدِيثِهِ؟ وَاللَّهِ لَئِنْ فَعَلْتُمْ، ثُمَّ اسْتَعْرَضَ الْعَرَبَ، لَيَجْتَمِعَنَّ عَلَيْكُمْ ثُمَّ لَيَأْتِيَنَّ إِلَيْكُمْ حَتَّى يُخْرِجَكُمْ مِنْ بِلَادِكُمْ وَيَقْتُلَ أَشْرَافَكُمْ. قَالُوا: صَدَقَ وَاللَّهِ، فَانْظُرُوا بَابًا غَيْرَ هَذَا . قَالَ: فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ: وَاللَّهِ لَأُشِيرَنَّ عَلَيْكُمْ بِرَأْيٍ مَا أَرَاكُمْ تَصْرِمُونَهُ بَعْدُ، مَا أَرَى غَيْرَهُ. قَالُوا: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: نَأْخُذُ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ غُلَامًا شَابًّا وَسِيطًا نَهِدًا، ثُمَّ يُعْطَى كُلُّ غُلَامٍ مِنْهُمْ سَيْفًا صَارِمًا، ثُمَّ يَضْرِبُونَهُ ضَرْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَإِذَا قَتَلُوهُ تَفَرَّقَ دَمُهُ فِي الْقَبَائِلِ كُلِّهَا فَلَا أَظُنُّ هَذَا الْحَيَّ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ يَقْوَوْنَ عَلَى حَرْبِ قُرَيْشٍ كُلِّهَا. فَإِنَّهُمْ إِذَا رَأَوْا ذَلِكَ قَبِلُوا الْعَقْلَ، وَاسْتَرَحْنَا وَقَطَعْنَا عَنَّا أَذَاهُ . قَالَ: فَقَالَ الشَّيْخُ النَّجْدِيُّ: هَذَا وَاللَّهِ الرَّأْيُ. الْقَوْلُ مَا قَالَ الْفَتَى لَا رَأْيَ غَيْرَهُ، قَالَ: فَتَفَرَّقُوا عَلَى ذَلِكَ وَهُمْ مُجْمِعُونَ لَه؛ فَأَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَهُ أَلَّا يَبِيتَ فِي مَضْجَعِهِ الَّذِي كَانَ يَبِيتُ فِيهِ، وَأَخْبَرَهُ بمكر القوم. انتهى.

ونقل عن ابن إسحاق أيضًا: فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَأَمَرَهُ أَنْ يَبِيتَ عَلَى فِرَاشِهِ وَأَنْ يَتَسَجَّى ببُرد لَهُ أَخْضَرَ فَفَعَلَ ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْقَوْمِ وَهُمْ عَلَى بَابِهِ وخَرَج مَعَهُ بِحَفْنَةٍ مِنْ تُرَابٍ فَجَعَلَ يذرها على رؤوسهم وَأَخَذَ اللَّهُ بِأَبْصَارِهِمْ عَنْ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقْرَأُ: {يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} إِلَى قَوْلِهِ: {فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ}.

وأخرج البيهقي من طريق محمد بن إسحاق بسنده: فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَقَامَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ثَلَاثَ لَيَالٍ وَأَيَّامَهَا؛ حَتَّى أَدَّى عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَدَائِعَ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَهُ لِلنَّاسِ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهَا لَحِقَ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حسنه الألباني، وعن ابن عباس قَالَ: وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَرْمُونَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ، وَعَلِيٌّ نَائِمٌ، قَالَ: وَأَبُو بَكْرٍ يَحْسَبُ أَنَّهُ نَبِيُّ اللهِ، قَالَ: فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ. قَالَ: فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: إِنَّ نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِ انْطَلَقَ نَحْوَ بِئْرِ مَيْمُونٍ، فَأَدْرِكْهُ. قَالَ: فَانْطَلَقَ أَبُو بَكْرٍ، فَدَخَلَ مَعَهُ الْغَارَ. أخرجه أحمد وصححه الشيخ أحمد شاكر والأرناؤوط.

فقام علي رضي الله عنه بثلاثة أمور: المبيت في الفراش، ورد الودائع، وإخبار أبا بكر بمكان رسول الله صلى الله عليه وسلمَ.

قالت عَائِشَةُ رضي الله عنها: لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ قَطُّ إِلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلَّا يَأتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلمَ طَرَفَيْ النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً, فَلَمَّا ابْتُلِيَ الْمُسْلِمُونَ, خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا قِبَلَ الْحَبَشَةِ, حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَرْكَ الْغِمَادِ, لَقِيَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ، وَهُوَ سَيِّدُ الْقَارَةِ، فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَخْرَجَنِي قَوْمِي فَأُرِيدُ أَنْ أَسِيحَ فِي الْأَرْضِ فَأَعْبُدَ رَبِّي، قَالَ ابْنُ الدَّغِنَةِ: إِنَّ مِثْلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ لَا يَخْرُجُ, وَلَا يُخْرَجُ، إِنَّكَ تَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ، فَارْجِعْ فَاعْبُدْ رَبَّكَ بِبَلَدِكَ, وَأَنَا لَكَ جَارٌ، فَرَجَعَ, وَارْتَحَلَ مَعَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ، فَطَافَ ابْنُ الدَّغِنَةِ عَشِيَّةً فِي أَشْرَافِ قُرَيْشٍ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لَا يَخْرُجُ مِثْلُهُ, وَلَا يُخْرَجُ، أَتُخْرِجُونَ رَجُلًا يَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَيَصِلُ الرَّحِمَ، وَيَحْمِلُ الْكَلَّ، وَيَقْرِي الضَّيْفَ، وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ ؟! فَلَمْ تُكَذِّبْ قُرَيْشٌ بِجِوَارِ ابْنِ الدَّغِنَةِ، وَقَالُوا لِابْنِ الدَّغِنَةِ: مُرْ أَبَا بَكْرٍ فَلْيَعْبُدْ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، فَلْيُصَلِّ فِيهَا وَلْيَقْرَأ مَا شَاءَ، وَلَا يُؤْذِينَا بِذَلِكَ وَلَا يَسْتَعْلِنْ بِهِ، فَإِنَّا نَخْشَى أَنْ يَفْتِنَ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا، فَقَالَ ذَلِكَ ابْنُ الدَّغِنَةِ لِأَبِي بَكْرٍ، فَلَبِثَ أَبُو بَكْرٍ بِذَلِكَ يَعْبُدُ رَبَّهُ فِي دَارِهِ وَلَا يَسْتَعْلِنُ بِصَلَاتِهِ، وَلَا يَقْرَأُ فِي غَيْرِ دَارِهِ, ثُمَّ بَدَا لِأَبِي بَكْرٍ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ, وَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ, وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَيَقِفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ, وَهُمْ يَعْجَبُونَ مِنْهُ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا بَكَّاءً, لَا يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، فَأَرْسَلُوا إِلَى ابْنِ الدَّغِنَةِ, فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا: إِنَّا كُنَّا أَجَرْنَا أَبَا بَكْرٍ بِجِوَارِكَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَقَدْ جَاوَزَ ذَلِكَ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ، فَأَعْلَنَ بِالصَلَاةِ وَالْقِرَاءَةِ فِيهِ، وَإِنَّا قَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا، فَانْهَهُ، فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَعَلَ، وَإِنْ أَبَى إِلَّا أَنْ يُعْلِنَ بِذَلِكَ، فَسَلْهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْكَ ذِمَّتَكَ، فَإِنَّا قَدْ كَرِهْنَا أَنْ نُخْفِرَكَ، وَلَسْنَا مُقِرِّينَ لِأَبِي بَكْرٍ الِاسْتِعْلَانَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَتَى ابْنُ الدَّغِنَةِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: قَدْ عَلِمْتَ الَّذِي عَاقَدْتُ لَكَ عَلَيْهِ، فَإِمَّا أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِمَّا أَنْ تُرْجِعَ إِلَيَّ ذِمَّتِي، فَإِنِّي لَا أُحِبُّ أَنْ تَسْمَعَ الْعَرَبُ أَنِّي أُخْفِرْتُ فِي رَجُلٍ عَقَدْتُ لَهُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَإِنِّي أَرُدُّ إِلَيْكَ جِوَارَكَ، وَأَرْضَى بِجِوَارِ اللهِ عَز وجل، وَرَسُولُ اللهِ صَلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلى الله عليه وسلم لِلْمُسْلِمِينَ: "إِنِّي أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لَابَتَيْنِ" وَهُمَا الْحَرَّتَانِ, فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ الْمَدِينَةِ، وَرَجَعَ عَامَّةُ مَنْ كَانَ هَاجَرَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَاسْتَأذَنَ أَبُو بَكْرٍ النَّبِيَّ صَلى الله عليه وسلم فِي الْخُرُوجِ حِينَ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْأَذَى، فَقَالَ لَهُ رَسُول اللهِ صَلى الله عليه وسلم: "لَا تَعْجَلْ، لَعَلَّ اللهَ يَجْعَلُ لَكَ صَاحِبًا، فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي"، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَلْ تَرْجُو ذَلِكَ بِأَبِي أَنْتَ ؟ قَالَ: "نَعَمْ، إِنِّي لَأَرْجُو ذَلِكَ", فَحَبَسَ أَبُو بَكْرٍ نَفْسَهُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلى الله عليه وسلم لِيَصْحَبَهُ, وَعَلَفَ رَاحِلَتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَهُ وَرَقَ السَّمُرِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ -وَهُوَ الْخَبَطُ-، قَالَتْ: فَلَمَّا أُذِنَ لَهُ فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْمَدِينَةِ أَتَاهُ رَسُولُ اللهِ صَلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ ظُهْرًا مُتَقَنِّعًا فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأتِينَا فِيهَا، فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ جَاءَ ظُهْرًا قَالَ: مَا جَاءَنَا رَسُولُ اللهِ صَلى الله عليه وسلم فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلَّا لِأَمْرٍ حَدَثَ, فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: "أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ", فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُول اللهِ لَيْسَ عَلَيْكَ عَيْنٌ إِنَّمَا هُمَا ابْنَتَايَ -يَعْنِي عَائِشَةَ وَأَسْمَاءَ-، وفي رواية: (إِنَّمَا هُمْ أَهْلُكَ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُول اللهِ, قَالَ: "فَإِنِّي قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْمَدِينَةِ"، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُول اللهِ الصُّحْبَةَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلمَ: "الصُّحْبَةَ"، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ يَبْكِي مِنَ الْفَرَحِ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، عِنْدِي نَاقَتَانِ قَدْ كُنْتُ أَعْدَدْتُهُمَا لِلْخُرُوجِ فَخُذْ إِحْدَاهُمَا، قَالَ: "قَدْ أَخَذْتُهَا بِالثَّمَنِ"، فَأَعْطَى النَّبِيَّ صَلى الله عليه وسلم إِحْدَاهُمَا -وَهِيَ الْجَدْعَاءُ-.

قالت عائشة رضي الله عنها: فَجَهَّزْنَاهُمَا أَحَثَّ الْجِهَازِ، وَضَعْنَا لَهُمَا سُفْرَةً فِي جِرَابٍ، فَقَطَعَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ قِطْعَةً مِنْ نِطَاقِهَا، فَرَبَطَتْ بِهِ عَلَى فَمِ الْجِرَابِ -فَبِذَلِكَ سُمِّيَتْ ذَاتَ النِّطَاقِيْنِ-. أخرجه أحمد والبخاري.

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ حَمْرَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقِفًا عَلَى الْحَزْوَرَةِ فَقَالَ: «وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ وَأَحَبُّ أرض اللَّهِ إِلَى اللَّهِ وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خرجْتُ»، وفي رواية: "وَلَوْلَا أَنَّ أَهْلَكِ أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا خَرَجْتُ"، وفي رواية: «وَاللَّهِ إِنَّكِ، لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَيَّ». أخرجه أحمد والترمذيُّ وَابْن مَاجَه وصححه الألباني.

قال تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.

قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: ثُمَّ لَحِقَ رَسُولُ اللهِ صَلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ بِغَارٍ فِي جَبَلِ ثَوْرٍ، فَتَوَارَيَا فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ، يَبِيتُ عِنْدَهُمَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَهُوَ غُلَامٌ شَابٌّ, ثَقِفٌ, لَقِنٌ، فَيَرْحَلُ مِنْ عِنْدِهِمَا سَحَرًا، فَيُصْبِحُ مَعَ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ كَبَائِتٍ، فلَا يَسْمَعُ أَمْرًا يُكَادَانِ بِهِ إِلَّا وَعَاهُ، حَتَّى يَأتِيَهُمَا بِخَبَرِ ذَلِكَ حِينَ يَخْتَلِطُ الظَّلَامُ، وَيَرْعَى عَلَيْهِمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ, مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ, مِنْحَةً مِنْ غَنَمٍ، فَيُرِيحُهَا عَلَيْهِمَا حِينَ تَذْهَبُ سَاعَةٌ مِنْ الْعِشَاءِ، فَيَبِيتَانِ فِي رِسْلِهِمَا، ثُمَّ يَسْرَحُ بِهَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ بِغَلَسٍ، فلَا يَفْطُنُ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الرِّعَاءِ، يَفْعَلُ ذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ مِنْ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلَاثِ، وَاسْتَأجَرَ رَسُولُ اللهِ صَلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ رَجُلًا مِنْ بَنِي الدِّيلِ هَادِيًا خِرِّيتًا، قَدْ غَمَسَ يَمِينَ حِلْفٍ فِي آلِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ، وَهُوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَأَمِنَاهُ, فَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا، وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ. أخرجه أحمد والبخاري.

وأخرج البخاري في صحيحه أن أبا بكر رضي الله عنه قال: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الغَارِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِأَقْدَامِ القَوْمِ، فَرَأَيْتُ آثَارَ المُشْرِكِين، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ رَفَعَ قَدَمَهُ رَآنَا، فَقَالَ: «مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا».

وأخرج ابن سعد في الطبقات والطبراني في الكبير والبيهقي في الدلائل: أَمَرَ اللهُ شَجَرَةً لَيْلَةَ الْغَارِ فَنَبَتَتْ فِي وَجْهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَأَمَرَ اللهُ الْعَنْكَبُوتَ فَنَسَجَتْ فِي وَجْهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَأَمَرَ حَمَامَتَيْنِ وَحْشِيَّتَيْنِ فَوَقَفتَا بِفَمِ الْغَارِ, وَأَقْبَلَ فَتَيَانُ قُرَيْشٍ - مِنْ كُلِّ بَطْنٍ رَجُلٌ - بِعِصِيِّهِمْ وهَرَاوَاتِهِمْ وَسُيُوفِهِمْ, حَتَّى إِذَا كَانُوا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْرَ أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا تَعَجَّلَ بَعْضُهُمْ يَنْظُرُ فِي الْغَارِ فَرَأَى حَمَامَتَيْنِ بِفَمِ الْغَارِ, فَرَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالُوا لَهُ: مَا لَكَ لَمْ تَنْظُرْ فِي الْغَارِ؟ فَقَالَ: رَأَيْتُ حَمَامَتَيْنِ بِفَمِ الْغَارِ فَعَرَفْتُ أَنْ لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ, فَسَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَ فَعَرَفَ أَنَّ اللهَ قَدْ دَرَأَ عَنْهُ بِهِمَا, فَدَعَا لَهُنَّ وَسَمَّى عَلَيْهِنِّ, وَفَرَضَ جَزَاءَهُنَّ وَأُقْرِرْنَ فِي الْحَرَمِ. قال الألباني: منكر.

وهنا ننبه على أنه لم يثبت في هذا المقام إلا رؤية الصديق لأقدام المشركين وجواب النبي صلى الله عليه وسلم عليه وتأييد الله تعالى له بجنود لم تُرى، أما قصة نسج العنكبوت، والحمامتين الوحشيتين، ونبات الشجرة على فم الغار، فلا يصح منها شيء، بل ويردها قول الله تعالى: "فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها"، فإن العنكبوت والحمام والشجرة من المحسوس الذي يُرى، وجاء في الروايات أن المشركين رأوها، وقد نصت الآية أن الله تعالى أيّد رسوله صلى الله عليه وسلم بجنود لم يروها، فردت تلك الروايات سندًا ومتنًا.

وكذا يردها ما ثبت عن أبي بكر رضي الله عنه من وقوفهم على فم الغار حتى لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لرأى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبا بكر، فدل على قربهم وعلى عدم وجود ما يمنع الرؤية؛ لذا قال البغوي رحمه الله عن تلك الجنود في الآية: وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ نَزَلُوا يَصْرِفُونَ وَجُوهَ الْكَفَّارِ وَأَبْصَارَهُمْ عَنْ رُؤْيَتِهِ. وَقِيلَ: أَلْقَوُا الرُّعْبَ فِي قُلُوبِ الْكُفَّارِ حَتَّى رَجَعُوا.

قالت عائشة رضي الله عنها: فَأَتَاهُمَا –يعني الدليل- بِرَاحِلَتَيْهِمَا صَبِيحَةَ لَيَالٍ ثَلَاثٍ، فَارْتَحَلَا وَانْطَلَقَ مَعَهُمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ, وَالدَّلِيلُ الدِّيلِيُّ، فَأَخَذَ بِهِمْ أَسْفَلَ مَكَّةَ، وَهُوَ طَرِيقُ السَّاحِلِ. أخرجه أحمد والبخاري.

قَالَ أنس بن مالك رضي الله عنه: أَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى المَدِينَةِ وَهُوَ مُرْدِفٌ أَبَا بَكْرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ شَيْخٌ يُعْرَفُ، وَنَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَابٌّ لاَ يُعْرَفُ، قَالَ: فَيَلْقَى الرَّجُلُ أَبَا بَكْرٍ فَيَقُولُ يَا أَبَا بَكْرٍ مَنْ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْكَ؟ فَيَقُولُ: هَذَا الرَّجُلُ يَهْدِينِي السَّبِيلَ، قَالَ: فَيَحْسِبُ الحَاسِبُ أَنَّهُ إِنَّمَا يَعْنِي الطَّرِيقَ، وَإِنَّمَا يَعْنِي سَبِيلَ الخَيْرِ، فَالْتَفَتَ أَبُو بَكْرٍ فَإِذَا هُوَ بِفَارِسٍ قَدْ لَحِقَهُمْ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا فَارِسٌ قَدْ لَحِقَ بِنَا، فَالْتَفَتَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ اصْرَعْهُ»، فَصَرَعَهُ الفَرَسُ، ثُمَّ قَامَتْ تُحَمْحِمُ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، مُرْنِي بِمَا شِئْتَ، قَالَ: «فَقِفْ مَكَانَكَ، لاَ تَتْرُكَنَّ أَحَدًا يَلْحَقُ بِنَا». قَالَ: فَكَانَ أَوَّلَ النَّهَارِ جَاهِدًا عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ آخِرَ النَّهَارِ مَسْلَحَةً لَهُ. رواه البخاري.

قَالَ سُرَاقَةَ بْنَ جُعْشُمٍ رضي الله عنه: جَاءَنَا رُسُلُ كُفَّارِ قُرَيْشٍ يَجْعَلُونَ فِي رَسُولِ اللهِ صَلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ دِيَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، مَنْ قَتَلَهُ أَوْ أَسَرَهُ، فَبَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ قَوْمِي بَنِي مُدْلِجٍ، أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ حَتَّى قَامَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ جُلُوسٌ، فَقَالَ: يَا سُرَاقَةُ, إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ آنِفًا أَسْوِدَةً بِالسَّاحِلِ، أُرَاهَا مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ، قَالَ سُرَاقَةُ: فَعَرَفْتُ أَنَّهُمْ هُمْ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِهِمْ وَلَكِنَّكَ رَأَيْتَ فُلَانًا وَفُلَانًا، انْطَلَقُوا بِأَعْيُنِنَا، ثُمَّ لَبِثْتُ فِي الْمَجْلِسِ سَاعَةً، ثُمَّ قُمْتُ فَدَخَلْتُ، فَأَمَرْتُ جَارِيَتِي أَنْ تَخْرُجَ بِفَرَسِي وَهِيَ مِنْ وَرَاءِ أَكَمَةٍ, فَتَحْبِسَهَا عَلَيَّ، وَأَخَذْتُ رُمْحِي، فَخَرَجْتُ بِهِ مِنْ ظَهْرِ الْبَيْتِ فَحَطَطْتُ بِزُجِّهِ الْأَرْضَ، وَخَفَضْتُ عَالِيَهُ، حَتَّى أَتَيْتُ فَرَسِي فَرَكِبْتُهَا، فَرَفَعْتُهَا تُقَرِّبُ بِي, حَتَّى دَنَوْتُ مِنْهُمْ, فَعَثَرَتْ بِي فَرَسِي فَخَرَرْتُ عَنْهَا، فَقُمْتُ فَأَهْوَيْتُ يَدِي إِلَى كِنَانَتِي، فَاسْتَخْرَجْتُ مِنْهَا الْأَزْلَامَ، فَاسْتَقْسَمْتُ بِهَا, أَضُرُّهُمْ أَمْ لَا ؟ فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهُ أَنْ لَا أَضُرَّهُمْ، فَعَصَيْتُ الْأَزْلَامَ, وَرَكِبْتُ فَرَسِي تُقَرِّبُ بِي, حَتَّى إِذَا سَمِعْتُ قِرَاءَةَ رَسُولِ اللهِ صَلى الله عليه وسلم وَهُوَ لَا يَلْتَفِتُ, وَأَبُو بَكْرٍ يُكْثِرُ الِالْتِفَاتَ سَاخَتْ يَدَا فَرَسِي فِي الْأَرْضِ, حَتَّى بَلَغَتَا الرُّكْبَتَيْنِ فَخَرَرْتُ عَنْهَا، ثُمَّ زَجَرْتُهَا فَنَهَضَتْ، فَلَمْ تَكَدْ تُخْرِجُ يَدَيْهَا، فَلَمَّا اسْتَوَتْ قَائِمَةً, إِذَا لِأَثَرِ يَدَيْهَا عُثَانٌ سَاطِعٌ فِي السَّمَاءِ مِثْلَ الدُّخَانِ، فَاسْتَقْسَمْتُ بِالْأَزْلَامِ, فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهُ، فَنَادَيْتُهُمْ بِالْأَمَانِ فَوَقَفُوا، فَرَكِبْتُ فَرَسِي حَتَّى جِئْتُهُمْ، وَوَقَعَ فِي نَفْسِي حِينَ لَقِيتُ مَا لَقِيتُ مِنْ الْحَبْسِ عَنْهُمْ أَنْ سَيَظْهَرُ أَمْرُ رَسُولِ اللهِ صَلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ قَوْمَكَ قَدْ جَعَلُوا فِيكَ الدِّيَةَ، وَأَخْبَرْتُهُمْ أَخْبَارَ مَا يُرِيدُ النَّاسُ بِهِمْ، وَعَرَضْتُ عَلَيْهِمْ الزَّادَ وَالْمَتَاعَ، فَلَمْ يَرْزَآنِي وَلَمْ يَسْأَلَانِي شَيْئًا، إِلَّا أَنْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلى الله عليه وسلم: "أَخْفِ عَنَّا"، فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَكْتُبَ لِي كِتَابَ مُوَادَعَةٍ آمَنُ بِهِ، فَأَمَرَ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ, فَكَتَبَ لِي فِي رُقْعَةٍ مِنْ أَدِيمٍ، ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللهِ صَلى الله عليه وسلم.

قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلى الله عليه وسلم لَقِيَ الزُّبَيْرَ فِي رَكْبٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ, كَانُوا تِجَارًا قَافِلِينَ مِنْ الشَّامِ, فَكَسَا الزُّبَيْرُ رَسُولَ اللهِ صَلى الله عليه وسلم وَأَبَا بَكْرٍ ثِيَابَ بَيَاضٍ، وَسَمِعَ الْمُسْلِمُونَ بِالْمَدِينَةِ مَخْرَجَ رَسُولِ اللهِ صَلى الله عليه وسلم مِنْ مَكَّةَ، فَكَانُوا يَغْدُونَ كُلَّ غَدَاةٍ إِلَى الْحَرَّةِ فَيَنْتَظِرُونَهُ، حَتَّى يَرُدَّهُمْ حَرُّ الظَّهِيرَةِ، فَانْقَلَبُوا يَوْمًا بَعْدَمَا أَطَالُوا انْتِظَارَهُمْ، فَلَمَّا أَوَوْا إِلَى بُيُوتِهِمْ, أَوْفَى رَجُلٌ مِنْ يَهُودَ عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِهِمْ لِأَمْرٍ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَبَصُرَ بِرَسُولِ اللهِ صَلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ مُبَيَّضِينَ يَزُولُ بِهِمْ السَّرَابُ، فَلَمْ يَمْلِكْ الْيَهُودِيُّ أَنْ قَالَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعَاشِرَ الْعَرَبِ, هَذَا جَدُّكُمْ الَّذِي تَنْتَظِرُونَ، فَثَارَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى السِّلَاحِ, فَتَلَقَّوْا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلمَ بِظَهْرِ الْحَرَّةِ وأبو بكر، فَسَلَّمُوا عَلَيْهِمَا، وَقَالُوا: ارْكَبَا آمِنَيْنِ مُطَاعَيْنِ، فَرَكِبَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ، وَحَفُّوا دُونَهُمَا بِالسِّلاَحِ، فَقِيلَ فِي المَدِينَةِ: جَاءَ نَبِيُّ اللَّهِ، جَاءَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَشْرَفُوا يَنْظُرُونَ وَيَقُولُونَ: جَاءَ نَبِيُّ اللَّهِ جَاءَ نَبِيُّ اللَّهِ؛ فَعَدَلَ بِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ حَتَّى نَزَلَ بِهِمْ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَذَلِكَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّاسِ، وَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ صَلى الله عليه وسلم صَامِتًا، فَطَفِقَ مَنْ جَاءَ مِنْ الْأَنْصَارِ مِمَّنْ لَمْ يَرَ رَسُول اللهِ صَلى الله عليه وسلم يُحَيِّي أَبَا بَكْرٍ، حَتَّى أَصَابَتْ الشَّمْسُ رَسُولَ اللهِ صَلى الله عليه وسلم، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى ظَلَّلَ عَلَيْهِ بِرِدَائِهِ، فَعَرَفَ النَّاسُ رَسُولَ اللهِ صَلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ, فَلَبِثَ رَسُولُ اللهِ صَلى الله عليه وسلم فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً وَأَسَّسَ الْمَسْجِدَ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، وَصَلَّى فِيهِ رَسُول اللهِ صَلى الله عليه وسلم، ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ, فَسَارَ يَمْشِي مَعَهُ النَّاسُ، حَتَّى بَرَكَتْ عِنْدَ مَسْجِدِ الرَّسُولِ بِالْمَدِينَةِ, وَهُوَ يُصَلِّي فِيهِ يَوْمَئِذٍ رِجَالٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ مِرْبَدًا لِلتَّمْرِ لِسُهَيْلٍ وَسَهْلٍ غُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي حجْرِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، فَقَالَ رَسُول اللهِ صَلى الله عليه وسلم حِينَ بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ: "هَذَا إِنْ شَاءَ اللهُ الْمَنْزِلُ"، ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللهِ صَلى الله عليه وسلم الْغُلَامَيْنِ, فَسَاوَمَهُمَا بِالْمِرْبَدِ لِيَتَّخِذَهُ مَسْجِدًا, فَقَالَا: لَا، بَلْ نَهَبُهُ لَكَ يَا رَسُولَ اللهِ, فَأَبَى رَسُولُ اللهِ صَلى الله عليه وسلم أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُمَا هِبَةً حَتَّى ابْتَاعَهُ مِنْهُمَا، ثُمَّ بَنَاهُ مَسْجِدًا، وَطَفِقَ رَسُول اللهِ صَلى الله عليه وسلم يَنْقُلُ مَعَهُمْ اللَّبِنَ فِي بُنْيَانِهِ، وَيَقُولُ وَهُوَ يَنْقُلُ اللَّبِنَ: "هَذَا الْحِمَالُ لَا حِمَالَ خَيْبَرْ، هَذَا أَبَرُّ رَبَّنَا وَأَطْهَرْ", وَيَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنَّ الْأَجْرَ أَجْرُ الْآخِرَةِ , فَارْحَمْ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَةِ"، فَتَمَثَّلَ بِشِعْرِ رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ, لَمْ يُسَمَّ لِي. أخرجه أحمد والبخاري.

قال عَبْد اللَّهِ بْن سَلَامٍ رضي الله عنه: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المَدِينَةَ انْجَفَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ، وَقِيلَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجِئْتُ فِي النَّاسِ لِأَنْظُرَ إِلَيْهِ فَلَمَّا اسْتَبَنْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ وَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ! أَفْشُوا السَّلَامَ وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ وَصَلُّوا وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَدْخُلُونَ الجَنَّةَ بِسَلَامٍ". رواه الترمذي وصححه الألباني.

فَصَعِدَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فَوْقَ الْبُيُوتِ وَتَفَرَّقَ الْغِلْمَانُ وَالْخَدَمُ فِي الطُّرُقِ يُنَادُونَ: يَا مُحَمَّدُ يَا رَسُولَ اللهِ يَا مُحَمَّدُ يَا رَسُولَ اللهِ. أخرجه مسلم.

من دروس الهجرة النبوية

لقد اشتملت الهجرة النبوية على دروس كثيرة وفوائد نافعة، التي ينبغي على المسلم أن يتعلمها، ويعتبر منها، ويقتدي بالرسول صلى الله عليه وسلم ويأتسي بسنته ويعمل بشريعته، ومن الدروس والفوائد المستفادة من هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم ما يلي:

يقين المشركين بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ودينه، وأنه رسول الله حقًا.

شدة ما كان عليه أهل الجاهلية من الكفر والعناد والعصبية الجاهلية والعدواة للرسول صلى الله عليه وسلم وللإسلام والمسلمين.

شدة البلاء الذي تعرض له المسلمون قبل الهجرة.

عظيم صبر أهل الإيمان على إيذاء أهل الكفر والطغيان.

أن النصر مع الصبر والفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرًا.

شدة عداوة الشيطان لأهل الإيمان، ومكره بهم.

أدب الاستئذان.

الصاحب والرفيق قبل السفر والطريق.

التوكل على الله تعالى لا ينافي الأخذ بالأسباب، بل هي منه.

الأخذ بالأسباب الممكنة المشروعة.

فضل مكة والبلد الحرام، وأنها أحب البلاد إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم.

العمل لدين الله تعالى من أعظم الغايات.

أهمية العقيدة الصحيحة في بعث النفوس المؤمنة.

أهمية تحمل المسئولية وهم الدين في بعث النفوس المؤمنة.

التضحية من أجل نصرة الدين ونشره.

توظيف الطاقات، والكوادر في العمل لدين الله تعالى.

أهمية دور الشباب في نصرة الدين.

أهمية دور المرأة في نصرة الدين.

جواز استئجار المشرك في مصلحة المسلمين.

لا يحيق المكر السيء إلا بأهله.

أهمية فقه الموازانات والمآلات، وعلم المصالح والمفاسد، والعلم بالشرع والواقع، والتطبيق الصحيح.

رد الأمانات والودائع إلى أهلها ولو كانوا كافرين.

تأييد الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم ونصره له.

حال النبي صلى الله عليه وسلم أثناء الهجرة من التوكل واليقين وقراءة القرآن.

حال أبي بكر الصديق رضي الله عنه من حراسة النبي صلى الله عليه وسلم والخوف عليه، وتحمل المسئولية تجاه الدين.

خذلان المشركين بتهجير أهل الإيمان، ثم برد كيدهم عليهم.

فضل المهاجرين وتحملهم الأذى.

فضل الأنصار وكفايتهم للمهاجرين وإيثارهم لهم على أنفسهم.

حسن استقبال الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم وحفاوتهم له، واستعدادهم للفداء دونه بالنفس والأهل.

أهمية قول الأنصار: اركبا آمنين مطاعين، وما اشتملت عليه من معاني السمع والطاعة والفداء.

أهمية المؤاخاة بين المؤمنين.

أهمية دور المسجد في بناء الفرد والمجتمع والأمة.

أهمية أول موعظة قالها النبي صلى الله عليه وسلم لما وصل المدينة: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ! أَفْشُوا السَّلَامَ وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ وَصَلُّوا وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَدْخُلُونَ الجَنَّةَ بِسَلَامٍ".

مع تحيات

اللجنة العلمية لملتقى الخطيب المؤثر أسد المنابر