خطبة عيد الأضحى 1445 هـ
سلسلة الخطب المقترحة رقم ((خطبة عيد الأضحى 1445 هـ))
عنوان الخطبة ((لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ))
عناصر الخطبة
1) التلبية والتوحيد الخالص .
2) التلبية وتوحيد المتبوع .
3) التلبية والارتباط بالأنبياء.
4) التلبية ودوام الاستجابة
5) التلبية وقضية الولاء والبراء
6) التلبية ووحدة الأمة والارتباط بمقدساتها
7) التلبية ومقام الحمد والملك
التلبية وإخلاص النية
المقدمة:
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد
لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ
إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ
التلبيةُ جواب لدعوةِ إبراهيمَ -عليه السلامُ- حين دعا الناسَ إلى حجِّ بيتِ اللهِ بعد إذ أمَرَه اللهُ بقولِه: ﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ﴾ [الحج: 27]، قال ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: " لَمَّا فَرَغَ إِبْرَاهِيمُ -عليه السلامُ- مِنْ بِنَاءِ الْبَيْتِ قَالَ: رَبِّ، قَدْ فَرَغْتُ، فَقَالَ: أَذِّنِ فِي النَّاسَ بِالْحَجِّ، قَالَ: رَبِّ وَمَا يَبْلُغُ صَوْتِي؟! قَالَ: أَذِّنْ وَعَلَيَّ الْبَلَاغُ، قَالَ: رَبِّ كَيْفَ أَقُولُ؟ قَالَ: قُلْ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْحَجُّ، حَجُّ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ؛ فَسَمِعَهُ مَنْ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يَجِيئُونَ مِنْ أَقْصَى الْأَرْضِ يُلَبُّونَ؟! "؛ رواه الحاكمُ وصحَّحَه ووافقَهُ الذهبيُّ.
وروى مجاهدٌ: " أنّ إبراهيمَ -عليه السلامُ- حين أُمِرَ أنْ يُؤذِّنَ بالحجِّ قام على المقامِ، فقال: يا أيها الناسُ، أجيبوا ربَّكم، قالوا: لبيك لبيك، فمن حجَّ اليومَ فقد أجابَ إبراهيمَ يومئذٍ في أصلابِ آبائِهم "؛ رواه أبو يعلى وصحَّحَه ابنُ تيميةَ.
من هنا غدتِ التلبية من كبرى شعائرِ المناسكِ ذاتِ المعنى والقدْرِ والدَّلَالةِ؛ فما أحوجنا إلى الوقوف على معانيها والتعرف على الدروس والعبر التي تحتوي عليها.
1- التلبية والتوحيد الخالص
"لبيك اللهم لبيك" .. نتعلَّم منها التوحيد الخالص لله ربِّ العالَمين منذ اللحظة الأولى وحتى اللحظة الأخيرة؛ فالحاجُّ تلبيتُه توحيد، وسَعيُه توحيد، ووقوفه بعرفة توحيد، ورميُه الجِمار توحيد، وحَلقُه ونَحره توحيد، وإفاضته توحيد، ووداعه توحيد؛ ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 162، 163]، فلا خير في الدنيا بلا توحيد، ولا نصيب في الآخرة بلا توحيد.
فالتلبية معناه: إنك أنت الله لا شريك لك، أنت أكبر مِن كل شيء، وأعظم مِن كل شيء، وأقوى مِن كل شيء، لا شريك لك في العبادة، ولا شريك لك في التوجُّه وأسمائك وصفاتك؛ فأنت الله الواحد الأحد.
فالدعوة إلى توحيد الله عز وجل هي أول القضايا التي ينبغي للإنسان أن ينشغل بها، فالله عز وجل ما أرسل الرسل إلا من أجلها قال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ }، بل الغاية من خلق الخلق هو تحقيق العبودية والتوحيد قال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }، يقول ابن عباس : " إلا ليوحدون ".
لذلك علينا أن نحذر من الشرك وصوره مثل اعتقاد النفع والضر في أصحاب القبور والاستغاثة بغير الله والذبح والنذر لغير الله وغيرها من صور الشرك فقد قال تعالى: ( وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ).
2- التلبية وتوحيد المتبوع
"لبيك اللهم لبيك" .. من معاني التوحيد أيضًا توحيد المتبوع: باتباع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأوامر والنواهي، قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: 7]
وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا } [النساء: 80] ، وقال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ }[المائدة: 92].
لذلك علينا أن نحذر من الدعوات التي خرجت علينا تخالف سنة النبي صلى الله عليه وسلم لنشر الخرافات والبدع مثل الإذن في الذكر وتخصيص أعداد معينة لأذكار لم ينص عليها الدليل، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بشكل جماعي وغيرها من المحاولات التي تسعى لإحياء الصوفية من جديد، فقد أخرج عبد الرزاق في مصنفه أن سعيد بن المسيب رحمه الله رأى رجلاً يكرر الركوع بعد طلوع الفجر فنهاه، فقال: يا أبا محمد أيعذبني الله على الصلاة؟ قال: لا، ولكن يعذبك على خلاف السنة.
وكذلك نحذر من تلك المراكز التي ينكر رموزها سنة النبي صلى الله عليه وسلم ويشككون في سيرته العطرة وفي علم مصطلح الحديث وطريقة وصول السنة إلينا، بل ومنهم من ينكر الإسراء والمعراج وغيرها، وخرجوا علينا بدعوات الاكتفاء بالقرآن فقط، وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من هؤلاء حيث قال: "يوشِكُ أنْ يقعُدَ الرجلُ مُتَّكِئًا على أَرِيكَتِهِ ، يُحَدَّثُ بحديثٍ مِنْ حديثي ، فيقولُ : بينَنَا وبينَكُمْ كتابُ اللهِ ، فما وجدْنا فيه مِنْ حلالٍ اسْتَحْلَلْناهُ ، وما وجدَنا فيه مِنْ حرامٍ حرَّمْناهُ ، ألَا وإِنَّ ما حرَّمَ رسولُ اللهِ مثلَ ما حرَّمَ اللهُ"، وقال أيضًا مؤكدًا على أهمية السنة مع القرآن: "ألا إنِّي أُوتيتُ القرآن ومثله معه".
وتوحيد المعبود مع توحيد المتبوع هي معنى شهادة لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
3- التلبية والارتباط بالأنبياء
"لبيك اللهم لبيك" .. لبى بها الأنبياء من قبل، ففي صحيح مسلم عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مر في حجه بوادي الأزرق فقال: "أي وادٍ هذا؟" قالوا: هذا وادي الأزرق، قال: "كأني أنظر إلى موسى -عليه الصلاة والسلام- هابطًا من الثنية له جؤار إلى -تعالى- بالتلبية"، ثم أتى على ثنية يقال لها ثنية هرشي فقال: "أي ثنية هذه؟" قالوا: ثنية هرشي، قال: "كأني أنظر إلى يونس بن متى -عليه الصلاة والسلام- على ناقة حمراء جعدة -أي: مكتنزة لحمًا- عليه جبة من صوف، خطام ناقته خُلبة -أي: من الليف- وهو يلبي".
نحجّ لبيت حجّه الرسل قبلنا *** ونشهد نفعًا في الكتاب وعدناه
وعن أبى هريرة رضي الله عنه، أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: "والأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد" متفق عليه
""لبيك اللهم لبيك" .. تربطنا بسيدنا إبراهيم عليه السلام فالتلبيةُ ما هي إلا جواب لدعوةِ إبراهيمَ -عليه السلامُ- حين دعا الناسَ إلى حجِّ بيتِ اللهِ بعد إذ أمَرَه اللهُ بقولِه: ﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ﴾ [الحج: 27],
والتلبية تذكرنا بمواقف حياة الخليل وما فيها من دروس وعبر، وتدفعنا للتعرف على الصفات والمقومات التي أهلته للإمامة حيث ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إب راهيم رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾. ومعنى الأمة: هو الإمام الذي يُقتدى به؛ قال عبدالله بن مسعود: الأمة مُعلِّم الخير، وقال ابن عمر: الأمة الذي يُعلِّم الناس دينَهم، وقال مجاهد: أي: أمة وحده.
4- التلبية ودوام الاستجابة
" لبيك اللهم لبيك " .. من معانيها إجابة بعد إجابة ، وكُررت إيذانا بدوام الإجابة واستمرارها .وقيل: " لبيك اللهم لبيك " أي انقدت لك بعد انقياد.
فالمسلم إذن يلبي أمر الله عز وجل تلبية بعد تلبية، لأن هذه طبيعة المسلم دائمًا، إذا طلب الله منه شيئًا فإنه يسارع بتنفيذ هذه الأوامر فيقول: (( لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ ))، وهذا مطلوب من الحاجّ، ومطلوب من كل مسلم في أي مكان في العالم فقد عاهد ربه وجعل شعاره ﴿ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾ (البقرة: 285)، وحين يقول (( لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ ))؛ يعني: أُلبّي أمرك وحدك، بحيث إذا تعارض ما يطلبه الخَلْق مع ما يطلبه الخالق، فإن تلبيتنا لأمر الخالق وحده، فلا طَاعَةَ لَمِخْلُوقٍ فِي مَعْصِيةِ الخَالِقِ.
وليست الإجابة لله -سبحانه- مرّة واحدة ثم تنقطع، بل هي إجابة بعد إجابة، وإقامة بعد إقامة، على طاعته وعبادته والانقياد لأمره -سبحانه- مرة بعد مرة، أي هو قد أعلن الإجابة وواظب عليها، وأقرّ بالطاعة وامتثال الأمر وواظب على ذلك، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لمن سأله النصيحة: "قل آمنت بالله ثم استقم"، كما أخبر سبحانه عن عباده المؤمنين: "إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ توعدون".
لذا يجب على كل مسلم أن يستجيب لأمر الله عز وجل، كما قال - سبحانه -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾ [الأنفال: 24]، والاستجابةُ لله والرسول هي الاستجابةُ للإسلام بكل ما فيه، استِجابةٌ شاملةٌ واسعةٌ في كل شيءٍ دعانا إليه ربُّنا ورسولُنا - صلى الله عليه وسلم -.
يستجيبُ المسلم لله في كل شؤون حياتِه، في الصلاة، والزكاة، والصيام، في طاعة الوالدَين، وصِلة الأرحام، والمُعاملات، في لِباسِه وهيئتِه وعملِه. والمرأةُ تستجيبُ لله في سترها، وزينتها، ومنزلها، وعلاقتها مع زوجِها وأطفالِها.
والمُستجِيبُون لله ورسوله هم أهلُ الفلاح، وهم المؤمنون حقًّا، الفائِزون بالمطلوب، النَّاجُون من الكُرُوب، فتقرُّ أعينُهم، وتسعَدُ أرواحُهم، قال الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 51].
5- التلبية وقضية الولاء والبراء
"لبيك اللهم لبيك".. لما نزل فرض الحج على النبي -صلى الله عليه وسلم- في السنة السادسة أو التاسعة -على الخلاف المشهور- أرسل أبا بكر -رضي الله عنه- على رأس ثلاثمائة مِن أصحابه في موسم الحج للعام التاسع، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ فِي تِلْكَ الحَجَّةِ فِي مُؤَذِّنِينَ بَعَثَهُمْ يَوْمَ النَّحْرِ يُؤَذِّنُونَ بِمِنًى: أَنْ لاَ يَحُجَّ بَعْدَ العَامِ مُشْرِكٌ، وَلاَ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ. قَالَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: ثُمَّ أَرْدَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ بِبَرَاءَةَ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَأَذَّنَ مَعَنَا عَلِيٌّ يَوْمَ النَّحْرِ فِي أَهْلِ مِنًى بِبَرَاءَةَ، وَأَنْ لاَ يَحُجَّ بَعْدَ العَامِ مُشْرِكٌ، وَلاَ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ" (رواه البخاري).
وكان هذا المشهد فيه إعلان بالبراءة مِن الشرك وأهله وما كانوا عليه، ولقد عُرفت هذه السورة بسورة براءة مِن أجل هذا وفيها: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا) (التوبة:28).
وفي العام العاشر مِن الهجرة ركب النبي -صلى الله عليه وسلم- القصواء مِن ذي الحليفة حتى إذا استوى عليها على البيداء حمد الله، وسبَّح وكبَّر، ثم قال: "لبيك اللهم حجة في عمرة، لبيك اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك"، فتأمل قوله في تلبيته وشعار حجته: "لبيك لا شريك لك لبيك" ثم يكرر: "لا شريك لك"، أي إجابة لك بعد إجابة، وحدك لا إجابة لأحدٍ غيرك، ونبرأ إلى الله أن نجيب في عبادتنا أحدًا سواك.
وكان مشركوا العرب يرون أن العمرة في أشهر الحج مِن أفجر الفجور، لذلك اجتهد رسول الله في مخالفتهم في هذا، فحج قارنًا على الصحيح فقال: "لبيك اللهم حجة في عمرة"، وهو يقصد مخالفة المشركين والبراءة مِن عاداتهم الباطلة حيث أوقع العمرة في أشهر الحج.
لذلك احذروا من تمييع قضية الولاء والبراء لأن هذه القضية في هذا الزمان قد مُيّعت وضاعت وظهر من يدعو إلى موالاة اليهود والنصارى وأعداء الدين، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة: 1]، قال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22].
وجاءت الأحداث التي حدثت في فلسطين لترد على كل دعوات الموالاة مع اليهود وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [المائدة: 51]
بل خرجت علينا دعوات خطيرة الآن تنادي ببدعة جديدة يطلقون عليها "الدين الإبراهيمي" وهذا الخلط بين الأديان يُقصَد به الخلط الذي تفقد معه العقيدة الإسلامية جوهرَها القائم على شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، لتصبح الفكرة الرئيسة هي الوصول إلى الله تعالى؛ سواء عن طريق اليهودية أو النصرانية أو الإسلام، فلا فرقَ عند أصحاب هذه الدعوة بين تلك الأديان، وهذا الخلط فكرة ضالة قديمة تظهر اليوم بثوب جديد؛ اسمه "الدين الإبراهيمي "، وإبراهيم عليه الصلاة والسلام إمامُ الحنفاء كان مسلمًا، وهو بَرَاء من هذا التصور المختلط المشوَّهِ؛ قال الله عز وجل: ﴿ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [آل عمران: 67].
6- التلبية ووحدة الأمة والارتباط بمقدساتها
"لبيك اللهم لبيك" .. نداء الوحدة الإسلامية يجأر بها الحجيج كلهم؛ عربهم وعجمهم، أبيضهم وأسودهم، رجالاً وركبانًا، صغارًا وكبارًا، وقفوا على صعيد واحد بلباس واحد يدعون ربًا واحدًا، يلبون بكل لسان وبكل لغة، كلهم يلهج بالتلبية، قال تعالى: "إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ".
والأمة المسلمة في زمننا هذا تمر بمرحلة عسرة جدًّا؛ إذ انتفش اليهود، مع تفريط كثير من المسلمين في دينهم، وعدم مبالاتهم بحقوق أمتهم ومقدساتها، ومن المعلوم أنه لا تهون مقدسات أمة عليها إلا حين يهون دينها في قلوب أفرادها، وإذا هان دينهم في نفوسهم تسلط أعداؤهم عليهم، فأذلوهم وأهانوهم، ولم يحفظوا لهم حقًّا، ولم يفوا لهم بعهد.
ولكن تأتي التلبية لتذكر بوحدة الأمة وتربط جميع المسلمين بمقدسات الأمة وكأنها تقول في هذه الأيام ستبقى قضية الأقصى محطّ اهتمام كلّ مؤمن بالله، صادق الإيمان، وفي قلب كلّ متّبع لنبي الله صلى الله عليه وسلم، وستبقى قضية الأقصى هي "رحى" المعركة مع اليهود التي لن تهدأ إلا بخروجهم أذلة صاغرين إن شاء الله
كذلك تأتي التلبية لتذكر بوحدة الأمة وأهمية التكافل الاجتماعي بين أبنائها، و في القرآن الكريم نصوص كثيرة ترشد إلى تقرير مبدأ التكافل ومن ذلك قول الله تعالى: (لَيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)، وقال صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ في تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى"
كذلك تأتي التلبية لتذكر بوحدة الأمة والتأكيد ضرورة العفو والصفح بين أفرادها ليحافظوا على هذا الترابط والتماسك فيما بينهم، قال تعالى: " وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ".
7- التلبية ومقام الحمد والملك
"إن الحمد والنعمة لك والمُلْك".. مِن هذا النص يَتربَّى المسلم على أعلى المقامات الإيمانيَّة، وهو مقام الشكر والحمد ونِسبة النِّعَم للربِّ - عز وجل - فيَحمده على النِّعَم الظاهِرة والباطنة، والمُشاهَدة والغائبة.
إن الحمد والنِّعمة لك؛ أي: أحمدك - يا ربِّ - وأَشكُرك على جميع النِّعَم، بل إن قولي: "الحمد لله" أكبر نِعَم الله عليَّ، والتي تَستحِق منِّي الحمد، كما قال الشاعر:
لك الحمدُ مَوْلانا على كلِّ نِعمَةٍ ** ومِن جملةِ النَّعماءِ قولِي: لك الحمدُ
فلا حمدَ إلا أن تَمُنَّ بنِعمَةٍ ** تعالَيتَ لا يَقوى على حَمدِك العبدُ.
الحمد لله على كل نعم الله التي لا تُعد ولا تحصى، اجعل هذه الكلمة على لسانك في كل وقتٍ وفي كل حين، قلها بقلبك وقالبِك، وتلذَّذ بها اليوم وأنت في الدنيا؛ ليستمر تلذُّذك وتنعمُّك بها وأنت في جنَّةِ ربكَ سبحانه وتعالى، ﴿ وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [القصص: 70].
وقال عمران بن حصين -رضي الله عنه-: "خير عباد الله -تبارك وتعالى- يوم القيامة الحمادون، هم الذين يحمدون الله على السراء والضراء".
فما بال أقوام شُغلوا بالحمد والثناء على البشر، ونَسوا مُستحِقَّ الحمد الحقيقيَّ؟ وما بال أقوام يَعلمون أن نِعمة العقل مثلاً مِن الله، فيَستخدِمونها في معصية الله، وكذلك كل نِعمة؟ أفَلا يَخافون أن يَسلب الله المُنعِم منهم هذه النِّعم! ﴿ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ﴾ [النحل: 53].
"إن الحمد والنعمة لك والمُلْك".. أي: والملك لك تتصرف فيه كيف شئت لا شريك لك، وقيل أيضًا: أي أنت المتفرد بالملك الدائم، وكل ملك لغيرك إلى زوال، لذلك من المعاني التي يتربى عليها الإنسان من خلال التلبية هو مقام الملك، قال تعالى: "قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ".
لذلك ينبغي حينما نرى ما يحصل لإخواننا المسلمين في شتى بقاع الأرض، وما يحدث من انتهاك لمقدسات الأمة، فلا يصيبنا اليأس أو الاحباط أو فقد الثقة في موعود الله ولكن علينا أن نعلم أن الملك بيد الله، وأن كل شيء بقدر، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وعلينا أن نأخذ بالأسباب ولن يكون في ملك الله إلا مايريد.
8- التلبية وإخلاص النية
"لبيك اللهم لبيك" .. تتضمن الإخلاص، فكأنَّه يقول: أنا مجيبٌ لك دونما سواك. ثم يُعيد: "لبيك لا شريكَ لك لبيك"، فهو حينما يقول: "لبيك" فإنَّ ذلك باعتبار أنَّ هذه اللفظة مأخوذةٌ من اللّب الذي هو خالص الشيء، فهي تتضمن الإخلاص: أنا يا ربّ مُخْلِصٌ لك.
يقول أنس رضي الله عنه في وصفه لإهلال النبي ﷺ أنَّه قال : اللهم حجَّة لا رياءَ فيها ولا سمعة، هذا النبي ﷺ أكمل الأُمَّة إخلاصًا، هذا في الإهلال الأول، ثم ينطلق بالتَّلبية، فهذا تصحيحٌ للعمل منذ أول خطوةٍ، "والحجُّ المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنَّة"، "مَن حجَّ لله فلم يرفث، ولم يفسق؛ رجع كيوم ولدته أُمُّه".
ولابد من المتابعة مع الإخلاص، قال الفضيل بن عياض: "إن الله لا يقبل مِن العمل إلا أخلَصَه وأصوَبَه، فأخلَصُه ما كان لله خالصًا، وأصوبُه ما كان على السُّنَّة".
ففي هذا تربيةٌ للنفوس على الإخلاص، وصدق التَّوجه، وصحّة القصد والنية، والحاجُّ لا يزال يُلبي ويلهج بالتوحيد في مقامات الحجِّ إلى أن يرمي جمرةَ العقبة وهو يُلبي، وهو بذلك يُذَكِّر نفسَه بهذا الأصل الكبير؛ لئلا يختلَّ عليه العملُ.
== الدعاء وآداب العيد ==.
مع تحيات
اللجنة العلمية لملتقى الخطيب المؤثر أسد المنابر