الخميس ، ١٩ جمادى الأول ، ١٤٤٦ هجري | 21 نوفمبر 2024 ميلادي
هاجر ودور المرأة المسلمة
وصف الخطبة : -

بيان أهمية دور المرأة في بناء الفرد الصالح والمجتمع الصالح.


سسلسة الخطب المقترحة رقم (( 556))

الخطبة الأولى من شهر ذي الحجة 1445 هـ

بعنوان ((هاجر ودور المرأة المسلمة)) .............................

الغرض من الخطبة: بيان أهمية دور المرأة في بناء الفرد الصالح والمجتمع الصالح.

عناصر الخطبة:

1- دور هاجر في بناء إسماعيل عليه السلام.

2- تكريم الإسلام للمرأة.

3- الأمة تحتاج إلى أم.

المقدمة: أما بعد، قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6].

بين يدي الخطبة:

دور هاجر في بناء إسماعيل عليه السلام

قال تعالى: {فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ . وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ . رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ . فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} [الصافات: 98 - 101].

لما أظهر الله تعالى إبراهيم عليه السلام على قومه من عباد الأصنام، خرج مهاجرًا ومعه زوجته سارة عليها السلام، ومر على بلد ملك جبار كافر، فأخبره بعض قومه عن سارة، وكانت من أحسن الناس، وأجمل النساء، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا فَأُتِيَ بِهَا، وَقَامَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى الصَّلَاةِ يدعو ويسأل الله تعالى، فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ لَمْ يَتَمَالَكْ أَنْ بَسَطَ يَدَهُ إِلَيْهَا، فدعت سارة فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ آمَنْتُ بِكَ وَبِرَسُولِكَ، وَأَحْصَنْتُ فَرْجِي، إِلَّا عَلَى زَوْجِي فَلاَ تُسَلِّطْ عَلَيَّ الكَافِرَ، فشلت يده ولم يستطع منها على شيء، ثم دَعَا الَّذِي جَاءَ بِهَا فَقَالَ لَهُ: إِنَّكَ إِنَّمَا أَتَيْتَنِي بِشَيْطَانٍ، وَلَمْ تَأْتِنِي بِإِنْسَانٍ، فَأَخْرِجْهَا مِنْ أَرْضِي، وَأَعْطِهَا هَاجَرَ.

فأتت سارة إبراهيم عليه السلام فإذا هو قائم يصلي، فَلَمَّا رَآهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ انْصَرَفَ، فَقَالَ لَهَا: مَهْيَمْ؟ قَالَتْ: خَيْرًا، كَفَّ اللهُ يَدَ الْفَاجِرِ، وَأَخْدَمَ خَادِمًا.

ثم إن سارة عليها السلام وهبت هاجر لإبراهيم صلى الله عليه وسلم، فحملت بإسماعيل عليه السلام، وهو الغلام الحليم الذي بشر الله تعالى به إيراهيم عليه السلام.

وبعد ولادة إسماعيل عليه السلام خرج إيراهيم عليه السلام به وبأمه إلى مكة، ولم يكن فيها شيء آنذاك، كما ذكر القرآن عن الخليل إبراهيم صلى الله عليه وسلمَ أنه هاجر بأهله إلى مكة ودعا فقال: ربنا إني أسكنت بعض ذريتي، وهم ولدي إسماعيل ومن يولد له بوادٍ -وهو مكة- لا زرع فيه ولا ماء بجوار بيتك المحرم، ربنا أسكنتهم بجواره ليقيموا الصلاة فيه، فاجعل يا رب قلوب الناس تَحنُّ إليهم، وإلى هذا البلد، وارزقهم من الثمرات رجاء أن يشكروك على إنعامك عليهم.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَوَّلَ مَا اتَّخَذَ النِّسَاءُ المِنْطَقَ مِنْ قِبَلِ أُمِّ إِسْمَاعِيلَ، اتَّخَذَتْ مِنْطَقًا لِتُعَفِّيَ أَثَرَهَا عَلَى سَارَةَ، ثُمَّ جَاءَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ وَبِابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُرْضِعُهُ، حَتَّى وَضَعَهُمَا عِنْدَ البَيْتِ عِنْدَ دَوْحَةٍ، فَوْقَ زَمْزَمَ فِي أَعْلَى المَسْجِدِ، وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ، وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ، فَوَضَعَهُمَا هُنَالِكَ، وَوَضَعَ عِنْدَهُمَا جِرَابًا فِيهِ تَمْرٌ، وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ، ثُمَّ قَفَّى إِبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا، فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ فَقَالَتْ: يَا إِبْرَاهِيمُ أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الوَادِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلاَ شَيْءٌ؟ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا، وَجَعَلَ لاَ يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُ: آللَّهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: إِذَنْ لاَ يُضَيِّعُنَا، ثُمَّ رَجَعَتْ، فَانْطَلَقَ إِبْرَاهِيمُ حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لاَ يَرَوْنَهُ، اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ البَيْتَ، ثُمَّ دَعَا بِهَؤُلاَءِ الكَلِمَاتِ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: "رَبِّ (إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ) حَتَّى بَلَغَ: (يَشْكُرُونَ)" وَجَعَلَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ تُرْضِعُ إِسْمَاعِيلَ وَتَشْرَبُ مِنْ ذَلِكَ المَاءِ، حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا فِي السِّقَاءِ عَطِشَتْ وَعَطِشَ ابْنُهَا، وَجَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ يَتَلَوَّى -أَوْ قَالَ: يَتَلَبَّطُ- فَانْطَلَقَتْ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَوَجَدَتِ الصَّفَا أَقْرَبَ جَبَلٍ فِي الأَرْضِ يَلِيهَا، فَقَامَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَتِ الوَادِيَ تَنْظُرُ هَلْ تَرَى أَحَدًا فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، فَهَبَطَتْ مِنَ الصَّفَا حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الوَادِيَ رَفَعَتْ طَرَفَ دِرْعِهَا، ثُمَّ سَعَتْ سَعْيَ الإِنْسَانِ المَجْهُودِ حَتَّى جَاوَزَتِ الوَادِيَ، ثُمَّ أَتَتِ المَرْوَةَ فَقَامَتْ عَلَيْهَا وَنَظَرَتْ هَلْ تَرَى أَحَدًا فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، فَفَعَلَتْ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَذَلِكَ سَعْيُ النَّاسِ بَيْنَهُمَا»، فَلَمَّا أَشْرَفَتْ عَلَى المَرْوَةِ سَمِعَتْ صَوْتًا، فَقَالَتْ صَهٍ -تُرِيدُ نَفْسَهَا-، ثُمَّ تَسَمَّعَتْ فَسَمِعَتْ أَيْضًا فَقَالَتْ: قَدْ أَسْمَعْتَ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ غِوَاثٌ، فَإِذَا هِيَ بِالْمَلَكِ عِنْدَ مَوْضِعِ زَمْزَمَ، فَبَحَثَ بِعَقِبِهِ -أَوْ قَالَ: بِجَنَاحِهِ- حَتَّى ظَهَرَ المَاءُ، فَجَعَلَتْ تُحَوِّضُهُ وَتَقُولُ بِيَدِهَا هَكَذَا، وَجَعَلَتْ تَغْرِفُ مِنَ المَاءِ فِي سِقَائِهَا وَهُوَ يَفُورُ بَعْدَ مَا تَغْرِفُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَرْحَمُ اللَّهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ، لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ -أَوْ قَالَ: لَوْ لَمْ تَغْرِفْ مِنَ المَاءِ-، لَكَانَتْ زَمْزَمُ عَيْنًا مَعِينًا»، قَالَ: فَشَرِبَتْ وَأَرْضَعَتْ وَلَدَهَا، فَقَالَ لَهَا المَلَكُ: لاَ تَخَافُوا الضَّيْعَةَ، فَإِنَّ هَا هُنَا بَيْتَ اللَّهِ، يَبْنِي هَذَا الغُلاَمُ وَأَبُوهُ، وَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَهْلَهُ. رواه البخاري.

فكانت هاجر عليها السلام أمًّا ومربية لإسماعيل عليه السلام، فنعم الأم، ونعمت المربية، ونعم الدور الذي قامت به، والذي كان من مفرداته:

الحفظ والرعاية والصيانة، وحسن التنشئة، والقيام بشئون الصبي.

التربية السليمة، وما تشتمل عليه من غرس القيم الإيمانية والأخلاقية والسلوكية.

تعلم اللغة العربية، من قبيلة جرهم التي جاءت إلى مكة واستأذنت هاجر في الإقامة، واستوطنت البلد بعد إذنها.

القوة والفتوة وتعلم الرمي والصيد.

تزوجه من قبيلة جرهم مرتين.

القيادة والسيادة، فقد كان إسماعيل عليه السلام شريفًا في مكة، ذو كلمة مسموعة في جرهم ومن سكنوا مكة.

وكان لهذه التربية الأثر العظيم، والذي تجلى الأدب الجم، والأخلاق الحسنة، والسمع والطاعة، وبر الوالدين والإحسان إليهما، فعند التأمل في مواقف إسماعيل عليه السلام نجد من ذلك:

قال تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102]، فتأمل في قوله عليه السلام: {يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}، وما اشتمل عليه من الخلق الحسن والأدب الجم، والسمع والطاعة، والإيمان والاستسلام والصبر.

الحنين الذي كان بين الأب وابنه، وبين الابن وأبيه، بالرغم من تباعد البلدان، والحفاوة التي كانت بينهما عند اللقاء.

طلاق إسماعيل عليه السلام لزوجته الأولى، وإمساكه بالأخرى، عملاً بوصية أبيه، فَقد جَاءَ إِبْرَاهِيمُ بَعْدَمَا تَزَوَّجَ إِسْمَاعِيلُ يُطَالِعُ تَرِكَتَهُ، فَلَمْ يَجِدْ إِسْمَاعِيلَ، فَسَأَلَ امْرَأَتَهُ عَنْهُ فَقَالَتْ: خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا، ثُمَّ سَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ، فَقَالَتْ نَحْنُ بِشَرٍّ، نَحْنُ فِي ضِيقٍ وَشِدَّةٍ، فَشَكَتْ إِلَيْهِ، قَالَ: فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلاَمَ، وَقُولِي لَهُ يُغَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِهِ، فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ كَأَنَّهُ آنَسَ شَيْئًا، فَقَالَ: هَلْ جَاءَكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، جَاءَنَا شَيْخٌ كَذَا وَكَذَا، فَسَأَلَنَا عَنْكَ فَأَخْبَرْتُهُ، وَسَأَلَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا، فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّا فِي جَهْدٍ وَشِدَّةٍ، قَالَ: فَهَلْ أَوْصَاكِ بِشَيْءٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ السَّلاَمَ، وَيَقُولُ غَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِكَ، قَالَ: ذَاكِ أَبِي، وَقَدْ أَمَرَنِي أَنْ أُفَارِقَكِ، الحَقِي بِأَهْلِكِ، فَطَلَّقَهَا، وَتَزَوَّجَ مِنْهُمْ أُخْرَى، فَلَبِثَ عَنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَتَاهُمْ بَعْدُ فَلَمْ يَجِدْهُ، فَدَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ فَسَأَلَهَا عَنْهُ، فَقَالَتْ: خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا، قَالَ: كَيْفَ أَنْتُمْ؟ وَسَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ، فَقَالَتْ: نَحْنُ بِخَيْرٍ وَسَعَةٍ، وَأَثْنَتْ عَلَى اللَّهِ، فَقَالَ: مَا طَعَامُكُمْ؟ قَالَتِ اللَّحْمُ، قَالَ فَمَا شَرَابُكُمْ؟ قَالَتِ المَاءُ. قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي اللَّحْمِ وَالمَاءِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ حَبٌّ، وَلَوْ كَانَ لَهُمْ دَعَا لَهُمْ فِيهِ». قَالَ: فَهُمَا لاَ يَخْلُو عَلَيْهِمَا أَحَدٌ بِغَيْرِ مَكَّةَ إِلَّا لَمْ يُوَافِقَاهُ، قَالَ: فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلاَمَ، وَمُرِيهِ يُثْبِتُ عَتَبَةَ بَابِهِ، فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ قَالَ: هَلْ أَتَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، أَتَانَا شَيْخٌ حَسَنُ الهَيْئَةِ، وَأَثْنَتْ عَلَيْهِ، فَسَأَلَنِي عَنْكَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَسَأَلَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّا بِخَيْرٍ، قَالَ: فَأَوْصَاكِ بِشَيْءٍ، قَالَتْ: نَعَمْ، هُوَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلاَمَ، وَيَأْمُرُكَ أَنْ تُثْبِتَ عَتَبَةَ بَابِكَ، قَالَ: ذَاكِ أَبِي وَأَنْتِ العَتَبَةُ، أَمَرَنِي أَنْ أُمْسِكَكِ.

بناء الكعبة المشرفة، ومعاونة إسماعيل لأبيه عليهما السلام، فقد جاء إبراهيم عليه السلام إلى مكة في أحد أسفاره إليها، ولقي إسماعيل عليه السلام، ثُمَّ قَالَ: يَا إِسْمَاعِيلُ، إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بِأَمْرٍ، قَالَ: فَاصْنَعْ مَا أَمَرَكَ رَبُّكَ، قَالَ: وَتُعِينُنِي؟ قَالَ: وَأُعِينُكَ، قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ هَا هُنَا بَيْتًا، وَأَشَارَ إِلَى أَكَمَةٍ مُرْتَفِعَةٍ عَلَى مَا حَوْلَهَا، قَالَ: فَعِنْدَ ذَلِكَ رَفَعَا القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ، فَجَعَلَ إِسْمَاعِيلُ يَأْتِي بِالحِجَارَةِ وَإِبْرَاهِيمُ يَبْنِي، حَتَّى إِذَا ارْتَفَعَ البِنَاءُ، جَاءَ بِهَذَا الحَجَرِ فَوَضَعَهُ لَهُ فَقَامَ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَبْنِي وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الحِجَارَةَ، وَهُمَا يَقُولاَنِ: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ}، قَالَ: فَجَعَلاَ يَبْنِيَانِ حَتَّى يَدُورَا حَوْلَ البَيْتِ وَهُمَا يَقُولاَنِ: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ}.

تكريم الإسلام للمرأة

قال تعالى: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ). إن الله تعالى خلق الخلق، وهو أعلم بما خلق وأخبر به؛ فشرع للخلق ما يحصل به التوازن والانتفاع والمصالح والعدل، ومن ذلك:

- تحريم وأد البنات: وَعَن الْمُغِيرَةِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الْأُمَّهَاتِ وَوَأْدَ الْبَنَاتِ وَمَنَعَ وَهَاتِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

- الأمر بعدم كره البنات: فَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَكْرَهُوا الْبَنَاتِ، فَإِنَّهُنَّ الْمُؤْنِسَاتُ الْغَالِيَاتُ». رواه أحمد وصححه الألباني.

- جعل النساء شقائق الرجال في الأحكام والثواب: قال تعالى: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ)، وقال سبحانه: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا)، وقال جل وعلا: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، وقال عز وجل: (وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ)، وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّمَا النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ». رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وصححه الألباني.

- الوصية بالنساء: فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّهُنَّ خُلِقْنَ مِنْ ضِلَعٍ وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسْرَتَهُ وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ». متفق عليه، وَعَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي وَإِذَا مَاتَ صَاحِبُكُمْ فَدَعُوهُ». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وصححه الألباني.

- العناية بهن أمًّا وبنتًا وأختًا وزوجةً؛ فحرم وأد البنات، وأوجب بر الأمهات، وجعل لهن نصيبًا في الميراث، ووضع أحكامًا للخطبة واختيار الزوجة، وقبولها للزوج، والحياة الزوجية، وقسم الحقوق بين الزوج والزوجة.

قال تعالى: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا)، وقال سبحانه: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً)، وقال عز وجل: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا).

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَقُّ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: «أُمَّكَ». قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «أُمَّكَ». قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ «أُمَّكَ». قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «أَبُوكَ». وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: «أُمَّكَ ثُمَّ أُمَّكَ ثُمَّ أُمَّكَ ثُمَّ أَبَاكَ ثمَّ أدناك أدناك». مُتَّفق عَلَيْهِ.

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمَعَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَجْلِدْ أَحَدُكُمُ امْرَأَتَهُ جَلْدَ الْعَبْدِ ثُمَّ يُجَامِعْهَا فِي آخِرِ الْيَوْمِ» وَفِي رِوَايَةٍ: «يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ فَيَجْلِدُ امْرَأَتَهُ جَلْدَ الْعَبْدِ فَلَعَلَّهُ يُضَاجِعُهَا فِي آخِرِ يَوْمِهِ». متفق عليه.

- وشرع لهن تشريعات وأحكام خاصة بأمورهن كما في الطهارة والستر والحياء واللباس والزينة وغيرها: قال تعالى: (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)، وقال سبحانه: (أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ)، وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أُحِلَّ الذَّهَبُ وَالْحَرِيرُ لِلْإِنَاثِ مِنْ أُمَّتِي وَحُرِّمَ عَلَى ذُكُورِهَا». رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وصححه الألباني.

- تحريم ما يؤذي المرأة ويهدد عفافها، من التبرج والسفور والاختلاط المحرم ونحو ذلك.

- ووعدها بالجزاء الحسن إذا أحسنت: فَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمَرْأَةُ إِذَا صَلَّتْ خَمْسَهَا وَصَامَتْ شَهْرَهَا وَأَحْصَنَتْ فَرْجَهَا وَأَطَاعَتْ بَعْلَهَا فَلْتَدْخُلْ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شَاءَتْ». رَوَاهُ أَبُو نعيم فِي الْحِلْية وصححه الألباني.

وغير ذلك من أمور تكريم المرأة في الإسلام وهي كثيرة؛ فقد جاءت الشريعة بما يراعي طبيعة المرأة وخلقتها وعاطفتها وأنوثتها.

أما الغرب فإنهم لم يراعوا شيئًا من ذلك فجعلوا المرأة كالرجل، وسولوا سبلاً وحيلاً وقوانين تسهل الوصول إلى المرأة للنيل منها، ولإشباع رغباتهم وشهواتهم الحيوانية؛ فجعلوها تعمل وتتعب ولم يراعوا ميول الأم والحنان والرغبة في الأسرة وتربية الأبناء، وجعلوها تمارس الفاحشة مع المجتمع بلا قيود، ولم يراعوا عفة المرأة وحياءها، وسلبوا منها حقوق الأمومة من وجوب بر الأم والإحسان إليها وطاعتها، فجعلوها تنفق على الأبناء كالرجل، ثم لا يكون لها أمر أو نهي عن أبنائها، ثم ينتهي بها الأمر إلى استكمال ما بقي من عمرها في دار المسنين، وغير ذلك من المأسي التي لا حصر لها في حياة المرأة الغربية.

فقد جاء الإسلام بتكريم المرأة حقًا، ي حين أن كل أمم الأرض تمتهن المرأة وتبخسها حقها وغاية ما تصل إليه من تقدير الاعتراف بأصلها الإنساني, والعبث بحقوقها دون مراعاة لطبيعتها وميولها، فأنى لهم تكريمها؟!

إن المتأمل في حال المرأة الغربية يجد أن مهمتها في التصور الغربي لم تغير حقيقتها، وإنما تغيرت الألفاظ والمصطلحات فقط، فبدلاً من أن تكون المرأة للشهوة واللذة بالقهر، جعلوها للشهوة واللذة والإباحية بمصطلحات براقة ومزاعم كاذبة أو لا تناسب طبيعتها ولا تصلح لمثلها.

إن المرأة كانت عند اليونان وسيلة للترفيه والمتعة، وقد عبر عن ذلك نص ديموستين حين قال: إننا نتخذ العاهرات للذة, ونتخذ الخليلات للعناية بصحة أجسامنا اليومية, ونتخذ الزوجات ليكون لنا أبناء شرعيون.

فما الفرق بين هذا الكلام القديم، وبين حياة الغرب اليوم؟!

حقًا يجب على نساء المسلمين أن يفتخرن بدينهن ويعتززن به، فلا توجد امرأة على وجه الأرض لها ما للمسلمات من حقوق.

فعلى المرأة أن تتقي اللهَ وتكون أداةً لرفعةِ الدين والأمة، وأن تنشر الوعي بدينِ اللهِ وعظمةِ تشريعاتِهِ في حقِّ المجتمعِ ككلٍّ، وفي حقِّ المرأةِ خصوصًا، ويكفي أن المرأة: كبنتٍ، أو أختٍ، أو زوجة، أو أم، تعيش وهي متبعةٌ لشرعِ اللهِ، وهي في هذا كله تبتغي رضا الله تعالى والدارَ الآخرة؛ وتسير في رَكْبٍ في مقدِّمَتِه: مريم أم عيسى، وهاجر أم إسماعيل، وفاطمة بنت محمد، وخديجة، وعائشة، وحفصة، وسائر أمهات المؤمنين -رضوان الله عليهن جميعًا-.

الأمة تحتاج إلى أم

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «أَلاَ كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالإِمَامُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى أَهْلِ بَيْتِ زَوْجِهَا، وَوَلَدِهِ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ، وَعَبْدُ الرَّجُلِ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ، أَلاَ فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ». أخرجه البخاري ومسلم.

إن كل فرد أو جماعة في هذه الأمة له دور مكلف به، ومسئولية عظيمة منوط بها، وبحسب قيام كل مسئول بما كلف به من المهام تكون مكانة هذه الأمة بين الأمم، بقيام الأفراد والجماعات بالمسئوليات تحصل القيادة والريادة والسيادة، وبإهمال المسئوليات، أو اختلالها، يحصل التردي والانحطاط.

وإن للمرأة في أمة دور عظيم لا يقل عن دور الرجل، والأم لها دور عظيم لا يقل عن دور الأب، وكم حاول الغرب والمتربصون بأمتنا تغيير فطر النساء وقناعتهن، وإخراجهن من صرح الأمة والرعاية والتربية، وإعداد الأجيال الفعالة من الشباب والفتيات، وللأسف قد استمعت بعض النساء لهذه الصيحات الكاذبة، فخرجت الحركات النسوية تطبق مبادئ هدم الأمة، وتخدم أعدائها.

إن الأعداء نجحوا في إقناع بعض النساء بترك وظيفتها الفطرية التي جبلها الله تعالى عليها، فنتج هذا النتوء الواضح في شخصية الشباب المسلم والفتيات المسلمات.

إن دور الأم عظيم في تربية الأجيال وتنشئة النساء والرجال، فهذه الأمة تحتاج إلى أمهات يتقين الله تعالى في أبنائهن، تأديبًا وتعليمًا.

إن الأمة لا تحتاج إلى نساء يخرجن من بيوتهن، ليعملن في التجارة والصناعة والزراعة، ونحوها من الأعمال، بقدر حاجتها إلى أمهات فضليات مربيات ومعلمات، فإن التجارة والزراعة والصناعة ونحوها يجيدها الرجال والنساء، ولكن الأمومة لا يجيدها إلا النساء، فلا يستطيع الرجال القيام بدور النساء، كأمهات فضليات، وزوجات صالحات.

قال العلامة بكر أبو زيد رحمه الله: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه.." الحديث. رواه البخاري في صحيحه؛ فهذا الحديث العظيم يبين مدى تأثير الوالدين على المولود، وتحويله في حال الانحراف عن مقتضى فطرته إلى الكفر أو الفسوق، وهذه بداية البدايات.

ومنه إذا كانت الأم غير محتجبة ولا محتشمة، وإذا كانت خرَّاجة ولاجة، وإذا كانت متبرجة سافرة أو حاسرة، وإذا كانت تغشى مجتمعات الرجال الأجانب عنها، وما إلى ذلك، فهي تربية فعلية للبنت على الانحراف، وصرف لها عن التربية الصالحة ومقتضياتها القويمة من التحجب والاحتشام والعفاف والحياء، وهذا ما يسمى: التعليم الفطري، ومنه يُعلم ما للخادمة والمربية في البيت من أثر كبير على الأطفال سلبًا أو إيجابًا، ولهذا قرر العلماء أنه لا حضانة لكافر ولا لفاسق، لخطر تلك المحاضن على الأولاد في إسلامهم وأخلاقهم واستقامتهم. انتهى.

قال الشاعر:

الأُمُّ مَدرَسَةٌ إِذا أَعدَدتَها ... أَعدَدتَ شَعباً طَيِّبَ الأَعراقِ

الأُمُّ رَوضٌ إِن تَعَهَّدَهُ الحَيا ... بِالرِيِّ أَورَقَ أَيَّما إيراقِ

الأُمُّ أُستاذُ الأَساتِذَةِ الأُلى ... شَغَلَت مَآثِرُهُم مَدى الآفاقِ

إننا إذا أردنا أن نبني مجتمعًا صالحًا، وأمة رائدة، لابد أن تقلد النساء مناصبهن التي عناهن الشرع بها.

ولقد سجل التاريخ أمثلة عظيمة لأمهات كن لهم أعظم الأثر في إعداد أجيال من القادة والعلماء، ومن تلك الأمثلة:

أنس بن مالك رضي الله عنه: فأي معروف قدمته له أمه حينما أخدمته رسولَ الله صلى لله عليه وسلم؟ وكان يقول: قَدِمَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المَدِيْنَةَ وَأَنَا ابْنُ ثَمَانِ سِنِيْنَ، فَأَخَذَتْ أُمِّي بِيَدِي، فَانْطَلَقَتْ بِي إِلَيْهِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُوْلَ اللهِ! لَمْ يَبْقَ رَجُلٌ وَلاَ امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ إِلاَّ وَقَدْ أَتْحَفَكَ بِتُحْفَةٍ، وَإِنِّي لاَ أَقْدِرُ عَلَى مَا أُتْحِفُكَ بِهِ إِلاَّ ابْنِي هَذَا، فَخُذْهُ، فَلْيَخْدُمْكَ مَا بَدَا لَكَ. قَالَ: فَخَدَمْتُهُ عَشْرَ سِنِيْنَ، فَمَا ضَرَبَنِي، وَلاَ سَبَّنِي، وَلاَ عَبَسَ فِي وَجْهِي.

وهذا معاوية بن ابي سفيان رضي الله عنهما، كانت أمه تعتني به وتربيه ليسود العالم، فَعَنْ أَبَانَ بنِ عُثْمَانَ أنه قال: كَانَ مُعَاوِيَةُ وَهُوَ غُلاَمٌ يَمْشِي مَعَ أُمِّهِ هِنْدٍ، فَعَثَرَ، فَقَالَتْ: قُمْ، لاَ رَفَعَكَ اللهُ. وَأَعْرَابِيٌّ يَنْظُرُ، فَقَالَ: لِمَ تَقُوْلِيْنَ لَهُ؟ فَوَاللهِ إِنِّيْ لأَظُنُّهُ سَيَسُوْدُ قَوْمَهُ.

قَالَتْ: لاَ رَفَعَهُ إِنْ لَمْ يَسُدْ إِلاَّ قَوْمَهُ.

وهذا الإمام مالك رحمه الله تعالى إمام دار الهجرة وأحد الأئمة المتبوعين، قال: قلت لأمي: أذهب فأكتب العلم؟ فقالت: تعال فالبس ثياب العلم، فألبستني ثيابا مشمرّة، ووضعت الطويلة على رأسي، وعممتني فوقها، ثم قالت: إذهب فأكتب الآن.

وكانت تقول: إذهب إلى ربيعة فتعلّم من أدبه قبل علمه.

وهذا الإمام سفيان الثوري رحمه الله أمير المؤمنين في الحديث قالت له أمه: اذْهبْ، فَاطْلُبِ العِلْمَ، حَتَّى أَعُولَكَ بِمِغْزَلِي، فَإِذَا كَتَبتَ عِدَّةَ عَشْرَةِ أَحَادِيْثَ، فَانْظُرْ هَلْ تَجِدُ فِي نَفْسِكَ زِيَادَةً، فَاتَّبِعْهُ، وَإِلاَّ فَلاَ تَتَعَنَّ.

وهذا الإمام الأوزاعي رحمه الله أدبته أمه، قَالَ العَبَّاسُ بنُ الوَلِيْدِ: فَمَا رَأَيتُ أَبِي يَتَعَجَّبُ مِنْ شَيْءٍ فِي الدُّنْيَا، تَعَجُّبَهُ مِنَ الأَوْزَاعِيِّ، فَكَانَ يَقُوْلُ:سُبْحَانَكَ، تَفْعَلُ مَا تَشَاءُ! كَانَ الأَوْزَاعِيُّ يَتِيْماً فَقِيْراً فِي حَجْرِ أُمِّهِ، تَنقُلُهُ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، وَقَدْ جَرَى حُكْمُكَ فِيْهِ أَنْ بَلَّغْتَه حَيْثُ رَأَيتُه، يَا بُنَيَّ! عَجَزَتِ المُلُوْكُ أَنْ تُؤَدِّبَ نَفْسَهَا وَأَوْلاَدَهَا أَدَبَ الأَوْزَاعِيِّ فِي نَفْسِهِ، مَا سَمِعْتُ مِنْهُ كَلِمَةً قَطُّ فَاضِلَةً إِلاَّ احْتَاجَ مُسْتَمِعُهَا إِلَى إِثْبَاتِهَا عَنْهُ، وَلاَ رَأَيتُهُ ضَاحِكاً قَطُّ حَتَّى يُقَهْقِهَ، وَلقَدْ كَانَ إِذَا أَخَذَ فِي ذِكْرِ المَعَادِ، أَقُوْلُ فِي نَفْسِي: أَتُرَى فِي المَجْلِسِ قَلْبٌ لَمْ يَبْكِ؟!

فهذه بعض النماذج، وتاريخنا مليء بمثلها، والقاعدة المشتركة هي الأم الناجحة، حقًا إن هذه الأمة تحتاج إلى أم لتعود إلى القيادة والريادة.

مع تحيات

اللجنة العلمية لملتقى الخطيب المؤثر أسد المنابر