الخميس ، ١٩ جمادى الأول ، ١٤٤٦ هجري | 21 نوفمبر 2024 ميلادي
لتأخذوا مناسككم
وصف الخطبة : -

بيان صفة الحج والعمرة، ونصائح لمن عزم على السفر إلى الحج.


سلسلة الخطب المقترحة رقم ((553))

الخطبة الثانية من ذو القعدة لعام 1445 هـ

عنوان الخطبة ((لتأخذوا مناسككم))

الهدف من الخطبة : بيان صفة الحج والعمرة، ونصائح لمن عزم على السفر إلى الحج.

عناصر الموضوع

1) نصائح لمن عزم على الحج.

2) صفة الحج والعمرة.

المقدمة: أما بعد، قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97]، وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أنه قال: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْمِي عَلَى رَاحِلَتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَيَقُولُ: «لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ، فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ». أخرجه مسلم.

بين يدي الخطبة:

نصائح لمن عزم على الحج()

إذا يسر الله تعالى لعبد الحج فينبغي عليه أن يعتني بما يصح به حجه ويتمَّ به نسكه، ويجتنبَ ما يقلل أجره أو يفوته، ويحرصَ على السلامة مما يشغله في رحلته عن مقصوده، فيحرصَ على تحصيل الأسباب التي ترغبه في عمله، ويندفع بها شواغله وغوائله، وفي ضوء هذا ننصحه ببعض الأمور، ونسأل الله تعالى أن يبلغنا حج بيته الحرام وأن يجعله حجًا مبرورًا وأن ينفعنا بهذه النصائح:

إخلاص النية وإصلاح المقصد، فيقصد بحجته وعمرته وجه الله تعالى والدار الآخرة، والتقرب إلى الله بما يرضيه من الأقوال والأعمال، ويحذر كل الحذر من أن يقصد بعمله الدنيا وحطامها، أو الرياء والسمعة والمفاخرة بذلك، فإن ذلك من أقبح المقاصد وسبب لحبوط العمل وعدم قبوله، كما قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ . أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ ". أخرجه مسلم، وعن عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ». أخرجه البخاري ومسلم.

التوبة ورد المظالم إلى أهلها، قال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31]، وقال عز وجل: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11]، وحقيقة التوبة: الإقلاع عن الذنوب وتركها، والندم على ما مضى منها، والعزيمة على عدم العودة فيها، وإن كان عنده للناس مظالم من نفس أو مال أو عرض ردها إليهم، أو تحلل منهم قبل سفره؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ اليَوْمَ، قَبْلَ أَنْ لاَ يَكُونَ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ». أخرجه البخاري.

كتابة الوصية وإشهاد من يثق فيه على وصيته، فيوصي بتقوى الله تعالى، ويكتب ماله وما عليه من الحقوق المالية كالديون.

التزود بما يحتاجه من نفقات وطعام وثياب ونحوها مما يحتاج إليه في رحلته، فينتخب لحجه وعمرته نفقة طيبة من مال حلال: فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا". أخرجه مسلم، وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أنه قَالَ: كَانَ أَهْلُ اليَمَنِ يَحُجُّونَ وَلاَ يَتَزَوَّدُونَ، وَيَقُولُونَ: نَحْنُ المُتَوَكِّلُونَ، فَإِذَا قَدِمُوا مَكَّةَ سَأَلُوا النَّاسَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}. أخرجه البخاري.

تدبير أمر من يعول قبل أن يسافر، من أمر النفقة وقضاء الحاجات، فلا يتركهم عالة يتكففون الناس، أو لهم حاجات لا تقضى؛ فعن وَهْبِ بْنِ جَابِرٍ أنه قال: إِنَّ مَوْلًى لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ لَهُ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُقِيمَ هَذَا الشَّهْرَ هَاهُنَا بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ؟ فَقَالَ لَهُ: تَرَكْتَ لِأَهْلِكَ مَا يَقُوتُهُمْ هَذَا الشَّهْرَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَارْجِعْ إِلَى أَهْلِكَ فَاتْرُكْ لَهُمْ مَا يَقُوتُهُمْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضِيعَ مَنْ يَقُوتُ». أخرجه أحمد وأبو داود وحسنه الألباني.

تعلم أحكام ومناسك الحج والعمرة، فإن ذلك في حق المستطيع واجب يأثم بتقصيره فيه، وحتى لا يعرض حجه للنقص أو الفساد، ومن عجز عن التعلم فعليه أن يسأل أهل العلم الثقات عن أحكام الحج ويؤدي المناسك بناءً على ذلك.

طلب الرفقة الصالحة، فيصحب في سفره الأخيار من أهل الطاعة والتقوى والفقه في الدين، ويحذر من مصاحبة السفهاء والفساق، وأهل البدع والأهواء، أو الذين يقعون في أعراض الناس بالغيبة والنميمة والسخرية والاستهزاء.

التحلي بآداب السفر، فيودع أهله وأرحامه، ويسلم عليهم، ويقول أذكار السفر كالذكر عند ركوب الدابة، والتكبير على كل شرف، والاستعاذة بالله إذا نزل منزلاً، وينبغي أن يكثر في سفره من ذكر الله تعالى واستغفاره، ودعائه سبحانه، والتضرع إليه، وتلاوة القرآن وتدبر معانيه، والمحافظة على الصلوات الخمس.

صيانة النفس عن الفضول والتدخل فيما لا يعنيها، فلا يزاحم على المباحات، ولا يتدخل فيما لا يخصه ولا علاقة له به، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ». أخرجه الترمذي وابن ماجه وصححه الألباني.

الصبر والاحتساب وهضم حظ النفس قليلاً، وتوطين النفس على مشاق السفر، فلا يضجر لمجرد تعطل بعض الخدمات أو تأخر بعضها، ولا يتأفف من حر أو برد أو طول طريق أو قلة طعام، ونحو ذلك، بل ينبغي أن يكون هينًا لينًا سهلاً قريبًا ودودًا حليمًا، يبذل الندى ويكف الأذى، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حُرِّمَ عَلَى النَّارِ كُلُّ هَيِّنٍ لَيِّنٍ سَهْلٍ قَرِيبٍ مِنَ النَّاسِ». أخرجه أحمد والترمذي وصححه الألباني.

صفة الحج

يجب على من وفقه الله تعالى للحج، أن يتعلم كيف يؤدي المناسك، حتى يؤدي نسكه صحيحًا كاملاً، ولا يعرضه للبطلان أو النقص.

والعبادات –ومنها الحج- لا تقبل إلا بشرطين:

الأول: الإخلاص لله عز وجل بأن يقصد بها وجه الله تعالى، ولا يقصد بها رياءً ولا سمعة ولا حظًا من حظوظ الدنيا.

الثاني: متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ». أخرجه مسلم.

لذا فإن العبد إذا أراد الحج أو العمرة أو غيرها من الطاعات لا بد أن يتعلم هدي النبي صلى الله عليه وسلم فيها ليكون عمله موافقًا للسنة.

وفيما يلي بيان لصفة الحج إرشادًا للعباد وإعانة على الطاعة:

إذا وصل الحاج إلى ميقات بلده، فإنه يغتسل، ويتطيب في رأسه ولحيته وبدنه، ولا يضره بقاء ذلك بعد الإحرام، ويتنظف ويزيل ما يحتاج إزالته من شعر وظفر، ويتجرد من المخيط –وهو كل ما فُصِّل على قدر العضو- ويلبس الرجل ثوبين أبيضين، يجعل أحدهما رداءً يستر نصفه الفوقاني، والآخر إزارًا يستر نصفه التحتاني، ولا يغطي رأسه بشيء ملاصق له، ولا يلبس حذاءً يصل إلى الكعبين، بل يلبس نعلين أو ما دون الكعبين –والكعبان هما العظمان الناتئان في جانبي القدم-، وأما المرأة فتلبس ما شاءت من الثياب المباحة للنساء، ولا تلبس النقاب ولا القفازين، وهذا لا يمنع من تغطية اليدين والوجه من ثيابها التي تلبسها.

ثم يُحْرِمُ الحاج ويسمي نسكه، وهو أن ينوي الحاج النسك بقلبه ويسميه بقوله، فيقول: لبيك اللهم عمرة، أو لبيك اللهم حجًا، أو لبيك اللهم حجًا وعمرة، أو عمرة وحجًا، وهكذا. والأفضل أن يُهِلَ بالنسك إذا استوى على دابته أو نحوها، مستقبلاً بها القبلة.

فإن كان يخاف من مانع يمنعه من تمام نسكه، كمرض أو عدو أو غير ذلك، فإنه يشترط عند الإحرام، بأن يزيد على تسمية النسك، فيقول: اللهم إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني. فمن اشترط وحصل له ما يمنعه من إتمام نسكه، فإنه يحل من إحرامه ولا شيء عليه، أما من لم يشترط ومنع من إتمام نسكه فإنه يجب عليه أن يذبح شاة أو سبع بدنة أو سبع بقرة في المكان الذي مُنِعَ فيه، ثم يحل من إحرامه.

وأنواع النسك ثلاثة:

أحدها: الإفراد، وهو أن ينوي الحج وحده.

ثانيها: التمتع، وهو أن يحرم بالعمرة فقط في أشهر الحج، وهي: شوال, وذو القعدة, وذي الحجة، ويتمها ثم يتحلل منها، فإذا كان يوم التروية –وهو يوم الثامن من ذي الحجة- أحرم من مكانه بالحج، وأتى بحج كامل، والمتمتع عليه هدي شكرًا لله تعالى حيث وفقه للحج والعمرة في سفر واحد.

ثالثها: القِران: وهو أن يجمع بين العمرة والحج ويقرن بينهما في نسك واحد، بإحرام واحد وتحلل واحد، وذلك بأن ينوي بطوافه وسعيه عن عمرته وحجه؛ فإذا وصل الحاج إلى مكة طاف طواف القدوم، وسعى بين الصفا والمروة للحج، ولا يحلق ولا يقصر، ولا يحل من إحرامه بل يبقى محرمًا حتى يحل بعد رمي جمرة العقبة الكبرى يوم النحر، وإن أخر سعي الحج إلى ما بعد طواف الحج فلا بأس، وعليه فعمل القارن كعمل المفرد سواء بسواء إلا أن القارن ينوي الحج والعمرة ويجب عليه هدي شكران، والمفرد ينوي الحج فقط ولا يجب عليه هدي شكران.

هذا وبعد أن يسمي الحاج نسكه يبدأ في التلبية ويرفع بها صوته، فيقول: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالمُلْكَ، لاَ شَرِيكَ لَكَ، فإن كان محرمًا بعمرة، فإنه يقطع التلبية إذا شرع في الطواف، وإذا كان محرمًا بالحج فإنه يقطع التلبية مع رمي جمرة العقبة الكبرى يوم النحر –وهو يوم العاشر من ذي الحجة-.

فإذا وصل مكة استحب له أن يغتسل، ثم يدخل المسجد الحرام متطهرًا متأدبًا بآداب المسجد، فيدخل برجله اليمنى، قائلاً: «أَعُوذُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، وَبِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وَسُلْطَانِهِ الْقَدِيمِ، مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ»، «بِسْمِ اللهِ وَالصَّلاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ, اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي، وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ»، ولا يلغو أو يتكلم في أمر الدنيا، ثم يطوف طواف العمرة إذا كان متمتعًا، أو طواف القدوم إذا كان مفردًا أو قارنًا. والعمرة تتكون من أربعة أشياء وهي: الإحرام، والطواف بالبيت الحرام، والسعي بين الصفا والمروة، والحلق أو التقصير.

وصفة الطواف: أن يتوضأ ثم يجعل الكعبة عن يساره ويطوف حولها سبعة أشواط يبدأ كل شوط منها بالتكبير من عند الحجر الأسود أو بمحاذاته ويختمها عنده، وبيان ذلك أنه يضطبع –والاضطباع هو: كشف المنكب الأيمن، وإلقاء طرف الرداء على المنكب الأيسر؛ وهي هيئة تعين على الإسراع-، ثم يأتي الحجر الأسود أو بمحاذاته ويكبر فيقول: الله أكبر، ويستلم الحجر الأسود بيده ويقبِّله ويسجد عليه، فإن لم يمكنه ذلك استلمه بيده وقَبَّل يده، أو استلمه بشيء كالعصا مثلاً ويقبل هذا الشيء، فإن لم يمكنه ذلك يشير إليه بيده، ولا يقبِّلها، ويفعل ذلك عند كل شوط، ولا يزاحم على الحجر فيؤذي الناس ويتأذى بهم، وإذا أتى الركن اليماني –وهو الركن السابق للحجر الأسود- استلمه ولم يقبِّله، فإن لم يمكنه استلامه فإنه لا يشير إليه، ولا يكبر، ويقول بين الركن اليماني والحجر الأسود: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}، وينشغل في الطواف عمومًا بالذكر والدعاء وقراءة القرآن. ويستحب الرَّمَل في الثلاثة أشواط الأولى -أي الإسراع في المشي دون الجري مع تقارب الخطى-، ويمشي في بقية الأشواط الأربعة.

فإذا أتم سبعة أشواط غطى كتفيه بردائه، ثم يذهب إلى مقام إبراهيم عليه السلام ويقرأ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}، ويصلي ركعتين خلف المقام، يقرأ في الركعة الأولى بسورة {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، وفي الثانية بسورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، فإن لم يتمكن من الصلاة خلف المقام، صلى في أي مكان من المسجد.

ثم يشرب من ماء زمزم، ويصب على رأسه منه، ثم يرجع إلى الحجر الأسود فيستلمه إن تيسر، فإن لم يمكنه ذلك يشير إليه بيده، ثم يخرج إلى الصفا، فإذا اقترب منه قرأ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}، ويقول: «أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ»، ثم يسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط ولا يكرر هذا الذكر، وصفة السعي أنه يأتي إلى الصفا فيرقى عليه حتى يرى البيت، ويستقبل القبلة، ويرفع يديه فيحمد الله، ويقول: الله أكبر ثلاثًا، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، يكرر ذلك ثلاث مرات ويدعو بين ذلك بما شاء طويلاً، أي أنه يقول هذا الذكر ثم يدعو، ثم يقوله الثانية ثم يدعو، ثم يقوله الثالثة وينزل إلى المروة ولا يدعو بعد الثالثة.

ويكون نزوله إلى المروة ماشيًا، فإذا بلغ العلمين الأخضرين سعى بينهما سعيًا شديدًا، وذلك للرجال دون النساء، ثم يمشي حتى يرقى المروة، فيصنع عليها مثل ما صنع على الصفا، وهذا شوط، ثم من المروة إلى الصفا شوط آخر حتى يتم السعي سبعة أشواط، فينتهي عند المروة، ويقول في سعيه ما أحب من ذكر ودعاء وقراءة قرآن.

فهذا سعي الحج بالنسبة إلى المفرد والقارن، ولا يتحللان بعده بل يبقيان على إحرامهما، ولهما أن يؤخرا السعي إلى ما بعد طواف الإفاضة؛ أما المتمتع فهذا سعي العمرة له، وبعده يتحلل بحلق شعره أو تقصيره إن كان رجلاً، أما المرأة فإنها تجمع شعرها وتقص منه قدر أنملة؛ ثم يلبس المتمتع ملابسه، ويجوز له أن يفعل ما كان محرمًا عليه بالإحرام، فإنه بتمام العمرة قد حل الحل كله.

فإذا كان يوم التروية -يوم الثامن من ذي الحجة- توجَّه كل الحجيج من متمتع ومفرد وقارن إلى منى مُحْرِمين ملبِّين، فالمفرد والقارن على إحرامهما، وأما المتمتع فيحرم بالحج ضُحَىً من مكانه، ويستحب له أن يفعل مستحبات الإحرام من الاغتسال وغيره.

ويصلُّون في منى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، يَقْصِرُون الصلاة الرباعية من غير جمع –كل صلاة في وقتها-، ثم في صبيحة يوم عرفة –يوم التاسع من ذي الحجة- يسيرون إلى عرفة، فينزلون بنمرة إلى وقت الظهر إن تيسر، فإذا دخل وقت الظهر استمعوا الخطبة، ثم يصلون الظهر والعصر جمعًا وقصرًا -ركعتين ركعتين جمع تقديم- لا يصلي بينهما شيئًا، ثم يدخل عرفة.

ونَمِرَةُ مكانٌ بجوار المسجد المشهور الآن، قرب المسجد، ومقدمة المسجد هي بطن عُرَنة التي صَلَّى فيها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد خطبته بها، وباقي المسجد مِن جهة مؤخرته هو مِن عَرَفة، ونَمِرة خَارِجه، والمتاح حاليًا لمَن أراد اتّباع السُنَّة أن ينزل بالمسجد قبْل الزوال ثم يحضر الخطبة والصلاة مع الإمام؛ فهي الفضيلة الأهم في هذا الباب مِن مكان النزول بنَمِرَة؛ إذ لو نزل بنَمِرَة لفاتته الصلاة مع الإمام وحضور الخطبة، مِن شدة الزحام.

فإذا دخل الحاج عرفة اشتغل بالذكر والدعاء والتضرع إلى الله تعالى، منفردًا منشغلًا بحاله وشأنه، مُتذكرًا ذنوبه، مستغفرًا ربه منها، متفرغًا متضرعًا، منكسرًا ذليلًا، يرفع يديه ويستقبل القبلة، يدعو ويلبي، ويحمد الله، ويجتهد في الذكر والدعاء، وأفضل ما يقال في ذلك اليوم: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير".

ولا شك أن الحرص على الأوقات وإعمارها بالطاعات لاسيما في تلك المناسبات هو الأكمل والأحسن، إلا أنه لا بأس أن يدفع ملل نفسه بالتحدث مع رفقته بالكلام الطيب أو بقراءة ما تيسر من الكتب النافعة، ثم يعود إلى التضرع إلى الله ودعائه ويحرص على اغتنام آخر النهار بالدعاء فإن خير الدعاء دعاء يوم عرفة.

ولا يزال على هذا الحال من الذكر والتضرع والدعاء حتى غروب الشمس، فإذا غربت أفاض من عرفة بسكينة، فيخرج من عرفة ويسير ملبِّيًا حتى يأتي مزدلفة فيصلي بها المغرب والعشاء جمعًا، بأذان واحد وإقامتين، ويقصر العشاء، ولا يصلي بعدها شيئًا، فإن خاف أن لا يصل إلى مزدلفة إلا بعد نصف الليل صلى مكانه أو في الطريق لئلا يخرج وقت الصلاة.

فإذا صلى نام حتى طلوع الفجر، إلا أنه رُخِّصَ للضَّعَفَةِ من النساء والصبيان وكبار السن أن يخرجوا من مزدلفة ليلاً، فهؤلاء يَقِفُونَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ بِالْمُزْدَلِفَةِ بِلَيْلٍ، فَيَذْكُرُونَ اللَّهَ مَا بَدَا لَهُمْ، أما الرجال الأقوياء، فلم يُرَخَّص لهم ولو كانوا عُمَّالاً، فيبقون في مزدلفة حتى يصلون الفجر فيها، فلا يجوز الانصراف للعمال قبل الفجر؛ بل يُمكِنهم أن يبقوا في مزدلفة في طَرفها الذي قِبَل وادي مُحَسِّر ومنى؛ فإذا طلع الفجر صَلّوا وانصرفوا إلى عَمَلِهم.

والسنة أن يصلي الحاج الفجر في مزدلفة ثم يأتي المشعرَ الحرام –المسجد الآن- إن تيسر، وإلا وقف في أي مكان بمزدلفة، فيقف مستقبلاً القبلة ويحمد الله ويكبره ويهلله ويوحده ويدعوه حتى يسفر الصبح جدًا، ثم يدفع من مزدلفة قبل طلوع الشمس، ملبيًا، وعليه السكينة.

يخرج الحاج من مزدلفة ويتوجَّه إلى منى، ويلتقط سبع حصيات من الطريق كل واحدة بقدر حبة الفول تقريبًا، كالخذف لا تتفتت، والسنة في وقت رمي جمرة العقبة في حق الرجال من طلوع شمس يوم النحر، وفي حق الضعفة من النساء ورفقتهن من بعد منتصف ليلة النحر، أما الصبيان وضعفة الرجال فالأحوط أن يرموا بعد طلوع الفجر، والأفضل من بعد طلوع الشمس، ويمتد وقت الرمي حتى غروب الشمس، فمن فاته رمي جمرة العقبة نهارًا رماها ليلاً ولا شيء عليه، فإن فاته ذلك فليرمها قضاءً بعد دخول وقت الظهر من أول أيام التشريق –يوم الحادي عشر من ذي الحجة- قبل رمي الجمرات الثلاث، والله أعلم.

فإذا وصل الحاج إلى منى استقبل جمرة العقبة -وهي أقرب الجمرات لمكة-، ويجعل مكة عن يساره ومنى ومزدلفة عن يمينه، ويرمي الجمرة بسبع حصيات متعاقبات واحدة بعد واحدة يُكَبِّر مع كل حصاة، ويتأكد أنها وقعت داخل المرمى، والسنة أن يرمي من أسفل ولا بأس بغيره، ثم يقطع التلبية بعد رمي جمرة العقبة.

والسنة بعد الرمي أن يذبح الهدي –إن كان قارنًا أو متمتعًا-، ويستحب له أن يأكل منه، والهدي يكون مما تيسر له مما يجزئ في الأضحية، من شاة أو يشترك مع غيره في بدنة أو بقرة، وكل منهما تجزئ عن سبعة، والسنة أن يذبح الهدي بنفسه، وإن أناب غيره فلا بأس، وأن يذبحه في منى، فإن ذبحه في أي مكان من الحرم فلا بأس؛ فإن لم يقدر على الهدي فعليه صيام ثلاثة أيام من أيام مناسك الحج، وسبعة أيام بعد رجوعه إلى أهله، ليكون مجموع الأيام عشرة كاملة، بدلاً عن ذبح الهدي لمن عجز عنه.

ثم يحلق رأسه أو يقَصّر إن كان ذكرًا، والأفضل الحلق، والسنة أن يبدأ بشقه الأيمن, أما المرأة فتجمع شعرها وتقص منه قدر أنملة.

والسنة في ترتيب هذه الأعمال: الرمي، فالذبح، فالحلق أو التقصير، فإن قدَّم واحدًا منها على آخر فلا حرج.

وبهذا يتحلل المُحْرِم التحلل الأول، فيحل له كل شيء إلا جماع زوجته، ثم ينزل إلى مكة فيطوف طواف الإفاضة ويفعل فيه ما فعله بطوافه الأول إلا أنه لا يضطبع ولا يرمل، ويسعى سعي الحج بين الصفا والمروة على الصفة التي بينا من قبل –إلا المفرد والقارن الذي سعى بعد طواف القدوم-، والسنة أن يتطيب إذا أراد النزول إلى مكة للطواف بعد الرمي والذبح والحلق.

وبعد الرمي والذبح والحلق أو التقصير والطواف والسعي يكون قد تحلل التحلل الثاني، فيحل له كل شيء حرم عليه بسبب الإحرام.

ثم بعد ذلك يرجع إلى منى فيبيت بها ليالي أيام التشريق، الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة، وقد رُخِّصَ للرُّعَاة والسُّقَاة ونحوهم في ترك المبيت بمنى. والمشروع في أيام التشريق أن يرمي الجمرات الثلاث –الصغرى والوسطى والكبرى- على هذا الترتيب، كل جمرة بسبع حصيات، بعد دخول وقت الظهر, والأفضل أن يذهب للرمي ماشيًا وإن ركب فلا بأس.

ويمتد وقت الرمي من بعد دخول وقت الظهر وحتى غروب الشمس، فمن فاته هذا فليرمِ ليلاً وحتى طلوع الفجر، ولا شيء عليه، فإن فاته ذلك بلا عذر فليرمِ قضاءً بعد دخول وقت الظهر من اليوم الذي بعده، والأحوط أن عليه دم، لتركه ما وجب عليه، والله أعلم.

أما من كان معذورًا كرعاة الإبل ونحوهم، فقد رُخِّصَ لهم أن يرموا يوم الثاني عشر عن يومي الحادي عشر والثاني عشر، ولا شيء عليهم.

وصفة الرمي في أيام التشريق: أن يرمي كل جمرة بسبع حصيات، يبدأ بالجمرة الصغرى، وهي أبعد الجمرات عن مكة وهي التي تلي مسجد الخيف، فيرمي فيها بسبع حصيات متعاقبات واحدة بعد الأخرى ويُكَبِّر بعد كل حصاة ثم يتقدم قليلاً عن يمينه ويقوم مستقبلاً القبلة رافعاً يديه ويدعو دعاءً طويلاً بما أحب، وإلا وقف ودعا بما تيسر له عملاً بالسنة، ثم يأتي الجمرة الوسطى فيرمي فيها بسبع حصيات متعاقبات يُكَبِّر مع كل حصاة، ثم يأخذ ذات الشمال فيقف مستقبل القبلة رافعًا يديه ويدعو دعاء طويلاً، وإلا وقف ودعا بما تيسر له عملاً بالسنة، ثم يرمي جمرة العقبة الكبرى بسبع حصيات متعاقبات يُكَبِّر مع كل حصاة ثم ينصرف ولا يدعو بعدها.

والأفضل أن يفعل ذلك ثلاثة أيام التشريق، وإن شاء تعجل، فإذا أتم رمي الجمار في اليوم الثاني عشر خرج من منى, لكن لو غربت عليه الشمس بمنى في اليوم الثاني عشر مختارًا، وجب عليه أن ينتظر إلى ما بعد ظهر يوم الثالث عشر ويرمي الجمرات الثلاث كما سبق، فإن تعجل في يومين، ولكن غربت عليه شمس يوم الثاني عشر بغير اختياره كأن يكون قد أعد حقائب السفر، ولكن تأخر بسبب زحام السيارات ونحوه، فإنه لا يلزمه التأخر لأن تأخره إلى الغروب كان بغير اختياره، والله أعلم.

ويجوز الاستنابة في الرمي للعجز بسبب المرض أو الصغر وليس لمجرد المشقة، فإذا زال العذر وأيام الرمي باقية فإنه يقضي ما رماه النائب عنه، والله أعلم.

ويستحب للحاج بعد رمي الجمرات الثلاث من اليوم الثالث من أيام التشريق أن ينزل بالمحصب وهو المكان المعروف الآن بالمعابدة، فيصلي فيه الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ويبيت به بعض الليل.

وبهذا يكون الحاج قد أتم نسكه، فليسأل الله تعالى الإخلاص والقبول، وليستقبل حياة الطاعة، وليعرض عن المعاصي، وليحرص على المتابعة بين الحج والعمرة.

فإذا أراد الخروج من مكة إلى بلده لم يخرج حتى يطوف طواف الوداع، ويفعل فيه كما فعل بطوافه السابق إلا أنه لا يضطبع ولا يرمل، ويجعل طواف الوداع آخر عهده بالبيت، فإن بقي بعد الوداع لانتظار رفقة أو لتحميل رحله وأمتعته أو لشراء حاجة في طريقه فلا حرج عليه ولا يعيد الطواف إلا أن ينوي تأجيل سفره بعد أن طاف، فإنه يعيد طواف الوداع ليكون آخر عهده بالبيت، ويسقط طواف الوداع عن الحائض والنفساء.

مع تحيات

اللجنة العلمية لملتقى الخطيب المؤثر أسد المنابر