بيان فضل العلم والعلماء، ونماذج من ثباتهم عند الفتن، والتحذير من اتباع الهوى وأهله، وبيان صورًا لذلك.
سلسلة الخطب المقترحة رقم ((551))
الخطبة الرابعة من شوال لعام 1445 هـ
عنوان الخطبة ((ثبات العلماء عند الفتن))
الهدف من الخطبة بيان فضل العلم والعلماء، ونماذج من ثباتهم عند الفتن، والتحذير من اتباع الهوى وأهله، وبيان صورًا لذلك.
عناصر الموضوع
1) فضل العلم والعلماء.
2) نماذج من ثبات العلماء عند الفتن
3) أفرأيت من اتخذ إلاهه هواه؟!
المقدمة: أما بعد، قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه: بَابٌ: العِلْمُ قَبْلَ القَوْلِ وَالعَمَلِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}، فَبَدَأَ بِالعِلْمِ، وَأَنَّ العُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، وَرَّثُوا العِلْمَ، مَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ، وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ بِهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الجَنَّةِ. وَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ}، وَقَالَ: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا العَالِمُونَ}، {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}، وَقَالَ: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ}، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ». "وَإِنَّمَا العِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ"، وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: لَوْ وَضَعْتُمُ الصَّمْصَامَةَ عَلَى هَذِهِ -وَأَشَارَ إِلَى قَفَاهُ- ثُمَّ ظَنَنْتُ أَنِّي أُنْفِذُ كَلِمَةً سَمِعْتُهَا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ تُجِيزُوا عَلَيَّ لَأَنْفَذْتُهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} حُلَمَاءَ فُقَهَاءَ. وَيُقَالُ: الرَّبَّانِيُّ الَّذِي يُرَبِّي النَّاسَ بِصِغَارِ العِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ. انتهى.
بين يدي الخطبة:
فضل العلم والعلماء
إن العلماء هم أئمة الأنام، وزوامل الإسلام، الذين حفظوا على الأمة معاقد الدين ومعاقله، وحَمَوْا من التغيير والتكدير موارده ومناهله، الذين قال فيهم الإمام أحمد رحمه الله: يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يُحيون بكتاب الله تعالى الموتى، ويُبَصِّرون بنور الله أهلَ العمى، فكم من قتيلٍ لأبليسَ قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه.
ولقد تواترت الأدلة من الكتاب والسنة في فضل العلم –تَعَلُّمًا وتعليمًا لله تعالى- وفي فضل العلماء، ومن جملة هذه الأدلة:
قَالَ تَعَالَى: {يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]، قِيلَ فِي تَفْسِيرهَا: يَرْفَعُ اللهُ الْمُؤْمِنَ الْعَالِمَ عَلَى الْمُؤْمِنِ غَيْرِ الْعَالِم. وَرِفْعَةُ الدَّرَجَاتِ تَدُلُّ عَلَى الْفَضْل.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]، وهذا من أوضح الأدلة على فَضْلِ الْعِلْم؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يَأمُرْ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم في القرآن بِطَلَبِ الِازْدِيَادِ مِنْ شَيْءٍ, إِلَّا مِنْ الْعِلْم، وَالْمُرَادُ بِه: الْعِلْمُ الشَّرْعِيُّ الَّذِي يُفِيدُ الْعِلْمِ بِاللهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِه، وَمَا يَجِبُ لَهُ مِنْ الْقِيَامِ بِأَمْرِهِ، وَتَنْزِيهِهِ عَنْ النَّقَائِض، وكذا مَعْرِفَةَ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ مِنْ أَمْرِ عِبَادَاتِه وَمُعَامَلَاتِه.
وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9].
وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، أَيْ: إِنَّمَا يَخْشَاهُ حَقَّ خَشْيَتِهِ الْعُلَمَاءُ الْعَارِفُونَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ كُلَّمَا كَانَتِ الْمَعْرِفَةُ لِلْعَظِيمِ الْقَدِيرِ الْعَلِيمِ الْمَوْصُوفِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ الْمَنْعُوتِ بِالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، كُلَّمَا كَانَتِ الْمَعْرِفَةُ بِهِ أَتَمُّ وَالْعِلْمُ بِهِ أَكْمَلَ، كَانَتِ الْخَشْيَةُ لَهُ أَعْظَمَ وَأَكْثَرَ. وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أنه قَالَ في معنى الآية: الَّذِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ. وعَنِه رضي الله عنه أنه قَالَ: الْعَالِمُ بِالرَّحْمَنِ مَنْ لَمْ يُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا، وَأَحَلَّ حَلَالَهُ، وَحَرَّمَ حَرَامَهُ، وَحَفِظَ وَصِيَّتَهُ، وَأَيْقَنَ أَنَّهُ مُلَاقِيهِ ومحاسب بعمله. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْخَشْيَةُ هِيَ الَّتِي تَحُولُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مَعْصِيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: الْعَالِمُ مَن خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ، وَرَغِبَ فِيمَا رَغِبَ اللَّهُ فِيهِ، وَزَهِدَ فِيمَا سَخط اللَّهُ فِيهِ، ثُمَّ تَلَا: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ}. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ الْعِلْمُ عَنْ كَثْرَةِ الْحَدِيثِ، وَلَكِنَّ الْعِلْمَ عَنْ كَثْرَةِ الْخَشْيَةِ. وعَنْ مَالِكٍ رحمه الله أنه قَالَ: إِنَّ الْعِلْمَ لَيْسَ بِكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ، وَإِنَّمَا الْعِلْمُ نُورٌ يَجْعَلُهُ اللَّهُ فِي الْقَلْبِ. قَالَ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ الْمِصْرِيُّ: مَعْنَاهُ: أَنَّ الْخَشْيَةَ لَا تُدْرَكُ بِكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ، وَأَمَّا الْعِلْمُ الَّذِي فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُتَّبَعَ فَإِنَّمَا هُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَمَا جَاءَ عَنِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، فَهَذَا لَا يُدْرَكُ إِلَّا بِالرِّوَايَةِ وَيَكُونُ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ: "نُورٌ" يُرِيدُ بِهِ فَهْمَ الْعِلْمِ، وَمَعْرِفَةَ مَعَانِيهِ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ أَبِي حَيَّانَ التَّمِيمِيِّ عَنْ رَجُلٍ أنه قَالَ: كَانَ يُقَالُ: الْعُلَمَاءُ ثَلَاثَةٌ: عَالِمٌ بِاللَّهِ عَالِمٌ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَعَالِمٌ بِاللَّهِ لَيْسَ بِعَالِمٍ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَعَالِمٍ بِأَمْرِ اللَّهِ لَيْسَ بِعَالِمٍ بِاللَّهِ. فَالْعَالِمُ بِاللَّهِ وَبِأَمْرِ اللَّهِ: الَّذِي يَخْشَى اللَّهَ وَيَعْلَمُ الْحُدُودَ وَالْفَرَائِضَ. وَالْعَالِمُ بِاللَّهِ لَيْسَ بِعَالِمٍ بِأَمْرِ اللَّهِ: الَّذِي يَخْشَى اللَّهَ وَلَا يَعْلَمُ الْحُدُودَ وَلَا الْفَرَائِضَ. وَالْعَالِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ لَيْسَ بِعَالِمٍ بِاللَّهِ: الَّذِي يَعْلَمُ الْحُدُودَ وَالْفَرَائِضَ، وَلَا يَخْشَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ. انتهى باختصار من تفسير ابن كثير.
وَقَالَ تَعَالَى: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا . قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف: 65، 66]. فتأمل كيف أمر الله تعالى كَلِيمَه موسى عليه السلام مع ما له من المكانة والمنزلة أن ينطلق ليتعلم من الخضر عليه السلام علمًا لا يعلمه.
من أراد الله تعالى به خيرًا علمه وفهمه في دين الإسلام: فعن حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أنه قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، وَهُوَ يَخْطُبُ يَقُولُ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ». أخرجه البخاري ومسلم.
العلماء خير من العباد والنُّسَّاك والزهاد: فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ البَاهِلِيِّ رضي الله عنه أنه قَالَ: ذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا عَابِدٌ وَالآخَرُ عَالِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَضْلُ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ». ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الخَيْرَ». أخرجه الترمذي وصححه الألباني.
العلماء هم ورثة الأنبياء، يُسَهِّلُ اللهُ تعالى لهم طُرُقَ الجنة، ويستغفر للعلماء من في السماوات ومن في الأرض: فعَنْ قَيْسِ بْنِ كَثِيرٍ أنه قَالَ: قَدِمَ رَجُلٌ مِنَ المَدِينَةِ عَلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَهُوَ بِدِمَشْقَ فَقَالَ: مَا أَقْدَمَكَ يَا أَخِي؟ فَقَالَ: حَدِيثٌ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُحَدِّثُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: أَمَا جِئْتَ لِحَاجَةٍ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: أَمَا قَدِمْتَ لِتِجَارَةٍ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: مَا جِئْتُ إِلَّا فِي طَلَبِ هَذَا الحَدِيثِ؟ قَالَ: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَبْتَغِي فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الجَنَّةِ، وَإِنَّ المَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضَاءً لِطَالِبِ العِلْمِ، وَإِنَّ العَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ حَتَّى الحِيتَانُ فِي المَاءِ، وَفَضْلُ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ، كَفَضْلِ القَمَرِ عَلَى سَائِرِ الكَوَاكِبِ، إِنَّ العُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا إِنَّمَا وَرَّثُوا العِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ». أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وصححه الألباني.
العلماء وطلاب العلم مرحومون غير مطرودين: فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «أَلَا إِنَّ الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلَّا ذِكْرُ اللَّهِ وَمَا وَالَاهُ وَعَالِمٌ أَوْ مُتَعَلِّمٌ». أخرجه الترمذي وابن ماجه وحسنه الألباني.
العلماء لهم أجر العلم الذي علموه، وأجر مثل أجر من عمل به، وينتفعون بالعلم النافع بعد مماتهم، وقد دعا لهم النبي صلى الله عليه وسلم بنضارة الوجه: فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا». أخرجه مسلم، وعَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ عَلَّمَ عِلْمًا فَلَهُ أَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهِ، لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الْعَامِلِ». أخرجه ابن ماجه وحسنه الألباني، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ". أخرجه مسلم، وعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه أنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا، فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ». أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وصححه الألباني.
والعلماء هم الذين يُغْبَطُونَ بحقٍ على علمهم بشرع الله تعالى: فعن عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالًا، فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ حِكْمَةً، فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا". متفق عليه. والمراد بالحسد هنا: الغبطة، وهي تمني حصول النعمة دون تمني زوالها.
والعلماء هم أولوا الأمر الذين أوجب الله طاعتهم بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}. قال ابن عباس رضي الله عنهما: يعني أهل الفقه والدين وأهل طاعة الله، الذين يعلِّمون الناس معاني دينهم، ويأمرونهم بالمعروف، وينهونهم عن المنكر، فأوجب الله سبحانه طاعتهم على عباده. وقال العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى- واصفًا العلماء: هم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء، بهم يهتدي الحيران في الظلماء، وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب، وطاعتهم أفرض من طاعة الأمهات والآباء بنص الكتاب، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}. انتهى.
والعلماء هم مصابيح الهدى، وهم حُرَّاس الدين، وحُماته من الابتداع والتحريف: فعن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم منهم علي بن أبي طالب، ومعاذ، وابن عمر، وأسامة بن زيد وغيرهم رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلمَ قال: "يَحمل هذا العلمَ من كل خَلفٍ عُدولُه، يَنْفون عنه تحريفَ الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويلَ الجاهلين". أخرجه البيهقي وصححه الإمام أحمد وابن عبدالبر والألباني، وهم عصمة للأمة من الضلال، وهم سفينة نوح من تخلَّف عنها -لا سيما في زمان الفتن- كان من المغرقين. وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فضلوا وأضلوا». متفق عليه.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: أتدرون ما ذهاب العلم؟ قلنا: لا. قال: ذَهاب العلماء.
وعنه رضي الله عنه أنه قال: لا يزال عالم يموت، وأثر للحق يَدْرس، حتى يكثر أهل الجهل، وقد ذهب أهل العلم، فيعملون بالجهل، ويدينون بغير الحق، ويضلون عن سواء السبيل.
وقال هلال بن خبَّاب: سألت سعيد بن جبير؛ قلت: يا أبا عبد الله! ما علامة هلاك الناس؟ قال: إذا هلك علماؤهم.
وقال سفيان بنْ عيينة: وأي عقوبة أشد على أهل الجهل أن يذهب أهلُ العلم؟
وقال الحسن البصري: الدنيا كلها ظُلمة إلا مجالس العلماء.
وقال الإمام أبو بكر الآجري رحمه الله: فما ظنكم -رحمكم الله- بطريق فيه آفات كثيرة، ويحتاج الناس إلى سلوكه في ليلة ظلماء، فإن لم يكن فيه ضياء وإلا تحيَّروا، فقيَّض الله لهم فيه مصابيح تضيء لهم، فسلكوه على السلامة والعافية، ثم جاءت طبقات من الناس، لا بد لهم من السلوك فيه فسلكوا، فبينما هم كذلك إذ طفئت المصابيح، فبقوا فى الظلمة، فما ظنكم بهم؟
هكذا العلماء في الناس، لا يعلم كثير من الناس كيف أداءُ الفرائض، ولا كيف اجتنابُ المحارم، ولا كيف يُعْبد الله في جميع ما يَعبده به خلقُه إلا ببقاء العلماء، فإذا مات العلماء تحيَّر الناس، ودَوَس العلم بموتهم، وظهر الجهل. انتهى هذا العنصر باختصار من حرمة أهل العلم.
نماذج من ثبات العلماء عند الفتن
لقد أمر الله تعالى ورسولُه صلى الله عليه وسلم المؤمنين بالثبات لاسيما عند الفتن، فقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45]، وعَنْ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه أنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا بَيْنَ خَلْقِ آدَمَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ أَمْرٌ أَكْبَرُ مِنَ الدَّجَّالِ». أخرجه مسلم، ولأحمد: «مَا بَيْنَ خَلْقِ آدَمَ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ فِتْنَةٌ أَكْبَرُ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ»، ولابن ماجه: «إِنَّهُ لَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ، مُنْذُ ذَرَأَ اللَّهُ ذُرِّيَّةَ آدَمَ، أَعْظَمَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ»، فبماذا أُمرنا نحو تلك الفتن؟ قال رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعدما ذكر فتنة الدجال: «يَا عِبَادَ اللهِ فَاثْبُتُوا». أخرجه مسلم.
ولقد مرت أمتنا الإسلامية عبر تاريخها الطويل بمحن وفتن، وابتلاءات كثيرة؛ كانت تحتاج لمن يواجهها، ويتصدى لها، ممن يملكون العلم الدقيق؛ ليدركوا الحق من الباطل، وممن يملكون الصدق والإخلاص؛ ليثبتوا على ما عرفوا من الحق، خاصة وأن الأمة تتطلع إليهم، وتقتدي بهم، وتسترشد بما يقدمون لدينهم؛ فإن الفتن إذا اشتدت لا يَعرِف ما الصواب تجاهها إلا العلماء الأفذاذ، وإذا انجلت ومضت استبان للجميع وجه الحق الذي كان يجب نحوها، ويفخر تاريخنا بالكثير من العلماء الربانيين الأثبات الذين واجهوا الفتن والمحن بما ينبغي، وجهروا بالحق وقت الحاجة الماسة إلى من يجهر به؛ لئلا تضل الأفهام؛ ولئلا تزل الأقدام.
وهذه بعض النماذج النبيلة للعلماء في بعض مواقفهم المجيدة وثباتهم عند المحن والفتن.
موقف الخليفة الراشد أبو بكر الصديق رضي الله عنه: حيث ابتليت الأمة في زمن خلافته بما تنوء بحمله الجبال، فالرسول صلى الله عليه وسلم قد توفي، ومن الأمة من ارتد، ومنهم: من منع الزكاة، وجيش أسامة على مشارف المدينة ينتظر الأمر بالخروج إلى الروم، ولو خرج فمن للمدينة يحميها من المتربصين بها؟ ومن للجزيرة العربية ينابذ الخارجين عن الأمة؟ ولكن الصديق رضي الله عنه بما أوتي من قوة العلم، وقوة الإيمان والثبات؛ يبين وجه الحق لمن استشكل عليه، فلا تفريق بين الصلاة والزكاة، ولو منعوه عقالاً كانوا يؤدونه لقاتلهم عليه، أفيُنتقص الدين والصديق حي؟! ويُنفذ جيش أسامة حيث وصى النبي صلى الله عليه وسلم، فما كان الصديق ليحل لواءً عقده النبي صلى الله عليه وسلم، وحدد مهمته ووصى بها، وهو يقاتل المرتدين؛ حتى يعيدهم لحظيرة الإسلام، ويقضي على فتنة مسيلمة الكذاب، والأسود العنسي، ويباغت من سولت لهم أنفسهم أن يهاجموا المدينة، وقد تصوروا أنها صارت لقمة سائغة لهم؛ لقلة الجند فيها بعد خروج جيش أسامة، فهزمهم بنفسه شر هزيمة في معركة "ذي القصة" -والقصة: موضع قرب المدينة-؛ فلم تمضِ مدة خلافته على قصرها إلا وقد وحَّد الجزيرة كما كانت، وأعاد للإسلام هيبته، فكان فضله على الأمة بعد وفاة نبيها صلى الله عليه وسلم لا يقل روعة عن حاله في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فرضي الله عنه وأرضاه، وجزاه عن أمة الإسلام خير الجزاء.
ومن أشد المواقف صلابة في الحق، وتمسكًا به، وثباتـًا عليه موقف إمام أهل السنة والجماعة "أحمد بن حنبل" من فتنة القول بخلق القرآن: إذ شهدت حياة الإمام أحمد رحمه الله ولاية المأمون بن هارون الرشيد، الذي مال إلى رأي المعتزلة بالقول أن القرآن مخلوق، وأيده ودعا الناس إليه، بل وامتحنهم عليه مهددًا متوعدًا، فأجابه إلى ما طلب علماء مكرهين، ولم يجبه طائفة من العلماء، في مقدمتهم الإمام أحمد بن حنبل الذي رأى أن تركه للحق -ولو مكرهًا- في ظل سكوت الجميع؛ يؤدي إلى ضياع الحق، وإضلال عوام الأمة، فأظهر صلابة وشدة في التمسك بالحق مهما كانت عواقب ذلك، ولم يُجب المأمون إلى ما طلب، ولكن المأمون لم يطل به العمر، فجاء من بعده المعتصم على نفس منهجه، فضرب الإمام أحمد بين يديه ضربًا شديدًا؛ أشرف به على الهلاك، فلم يتراجع، وناظره علماء المعتزلة، فلم يزد على الاستدلال بالكتاب والسنة، والرد على شبهاتهم المبنية على الخطأ في فهم كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في ذلك لا يلتفت إلى استدلالاتهم العقلية، طالبًا منهم الدليل على ما يدَّعونه من كتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وهيهات! ثم سجنه المعتصم، وحبسه حبسًا طويلاً، حتى مات المعتصم، وخَلَفَه الواثق، واستمر الابتلاء حيث ألزم الواثقُ الإمامَ أحمد بالبقاء بداره، فلما مات تولى من بعده المتوكل وخالف من سبقوه وأمر بإكرام الإمام أحمد وإطلاقه من حبسه، وأظهر القول الحق بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وكشف عن الأمة ما كانت فيه من الغمة، وكرَّم الإمام أحمد، وأحسن إليه. فكان ثبات هذا الإمام الجليل على الحق، وتحمل العذاب الشديد، والحبس الطويل، وتمسكه بمنهج السلف في الاستدلال بالكتاب والسنة، وتقديم النقل على العقل من أسباب تسميته -رحمه الله تعالى- بإمام أهل السنة والجماعة، وهو بهذا الاسم جدير، فجزاه الله عن الأمة خيرًا.
ومن ذلك: موقف الإمام النووي رحمه الله مع الظاهر بيبرس، لما أراد قتال التتار بالشام، واحتاج إلى جمع الأموال لذلك، فأخذ الفتاوى من العلماء بجواز الأخذ من مال الرعية يستنصر به على قتال التتار، وأجاز له الفقهاء ذلك، وامتنع الإمام النووي. فلما سأله عن سبب امتناعه قال له: أنا أعرف أنك كنت في الرق للأمير بندقار، وليس لك مال، ثم منَّ الله عليك، وجعلك ملكًا، وسمعت أن عندك ألف مملوك، كل مملوك له حياصة من الذهب، وعندك مائة جارية، لكل جارية حق من الذهب، فإذا أنفقت ذلك كله، وبقيت مماليكك بالبنود والصرف بدلاً من الحوائص، وبقيت الجواري بثيابهن دون الحلي؛ أفتيتك بأخذ المال من الرعية. فغضب الظاهر بيبرس، وأمره بالخروج من دمشق، فخرج متوجهًا إلى نوى، فقال الفقهاء لبيبرس: إن هذا من كبار علمائنا وصلحائنا، وممن يُقتدى به، فأعده إلى دمشق. فدعاه للرجوع إلى دمشق، فامتنع الإمام النووي، وقال: لا أدخلها والظاهر فيها، فمات بعد شهر، فرحمه الله تعالى وجزاه خيرًا.
ومن ذلك أيضًا: مواقف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: فقد وقف ضد غزو التتار وجاهد بسيفه ولسانه، وحثه العلماء والأمراء والجند والعامة على جهاد التتار حتى اندفع شرهم بفضل الله تعالى؛ فقد هجم التتار على دمشق، وكانت حينئذ ولاية تابعة لسلطان المماليك في مصر، فجهز السلطان جيشاً ليرد التتار عن بلاد الشام، فكانت الغلبة لجيش التتار بقيادة قازان، وعادت عساكر السلطان إلى مصر، ودخل التتار إلى دمشق، وعاثوا في الأرض فساداً، وحينئذ اجتمع الشيخ تقي الدين بأعيان البلد، واتفقوا على السير إلى قازان والتحدث إليه، فلما وصلوا إلى قازان قابله الشيخ، وطلب منه الأمان لأهل دمشق، ورد الأسرى من المسلمين وأهل الذمة، ثم تكلم معه فأنزل اللَّه الرعب في قلب السلطان، وسأل: من هذا الشيخ؟ فإني لم أر مثله، ولا أثبت قلباً منه، ولا أوقع منه حديثاً في قلبي، ولا رأيتني أعظم انقياداً لأحد منه، فأُخبر بما له وما هو عليه من العلم والعمل، ثم قال له الشيخ بواسطة الترجمان: إنك تزعم أنك مسلم، ومعك قاض، وإمام وشيخ، ومؤذنون، فغزوتنا، وأبوك وجدك كانا كافرين، وما عملا الذي عملت عاهدا فوفّيا، وأنت عاهدت فغدرت، وقلت فما وفيّت، وجُرْتَ. ثم قدم لهم قازان طعاماً فأكلوا، ولم يأكل ابن تيمية، فسُئل عن ذلك، فقال: كيف آكل من طعامكم، وكله مما نهبتم من أغنام الناس، وطبختموه بما قطعتم من أشجار الناس، فطلب منه قازان الدعاء وقازان يرفع يديه ويؤمن على دعائه، وقد خاف الناس على الشيخ القتل في هذا الموقف، ولكن اللَّه أنزل الرعب في قلوب أعدائه، وقد أجابه قازان إلى حقن دماء المسلمين، وبلغه ما أراد، ورد عليه الأسرى من المسلمين، فلم يقبل الشيخ حتى رد جميع الأسرى من المسلمين ومن أهل الذمة من اليهود والنصارى، ثم رجع الشيخ مكرماً معززاً.
ومن مواقفه مناظرته على الكتاب والسنة لمن خالفهما من أهل الكلام والضلال والبدع، كالروافض، والفلاسفة، والجهمية، ومتعصبة المذاهب، والخرافية، وغيرهم، حتى أفتى بعضهم بجواز قتله، وأوذي وسجن مرارًا حتى مات في السجن رحمه الله تعالى وجزاه خيرًا.
أفرأيت من اتخذ إلاهه هواه
نهى الله تعالى عباده عن اتباع الهوى حتى رسله عليهم السلام، وهذا مما يظهر خطورة الأمر، قال الله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ الله إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ}، فتأمل كيف أمر الله تعالى نبيه داود عليه السلام باتباع شرعه وهو الحق، وترك الهوى لأنه يضل عن سبيل الله تعالى، بل وتوعد من يضل بالعذاب الشديد، فعلمنا أن سبب الضلال اتباع الهوى.
وقال سبحانه: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}، وهذا النهي لنبينا محمد صلى اللهُ عليه وسلم.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}، وهذا النداء للمؤمنين .
وقد ذم الله تعالى أتباع الأهواء: قال الله تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا . أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا}، وقال عز وجل: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ الله عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ الله أَفَلا تَذَكَّرُونَ}، وقال سبحانه: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ الله}، فلا يجتمع الهدى والهوى.
فالهوى وأهله مذمومون، وإن زعموا أنهم يريدون الحق والخير والرشاد، فلا يجوز اتباع الهوى، والابتداع في الدين، أيًا كانت النوايا، فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من أحْدَثَ في أمرِنا هذا ما ليس منه؛ فهو ردٌّ". رواه البخاري ومسلم، وفي رواية لمسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرُنا؛ فهو ردٌّ". وقد خشي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علينا من اتباع الهوى: فعن أبي بَرْزَة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إنّما أخشى عليكم شهواتِ الغَيّ في بطونكم وفروجكم، ومُضِلاَّتِ الهوى". رواه أحمد والبزّار والطبراني وصححه الألباني. وأخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بظهور أتباع الهوى في أمته كما كانوا في من قبلنا: فعن معاويَة رضي الله عنه أنه قال: قام فينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: "ألا إنَّ مَن كان قبلكم من أهلِ الكتابِ افترَقُوا على ثِنْتَيْنِ وسبعين مِلَّة، وإنَّ هذه الأمَّة ستفترق على ثلاثٍ وسبعين، ثِنْتَانِ وسبعون في النار، وواحدةٌ في الجنّة، وهي الجماعةُ" رواه أحمد وأبو داود، وزاد في رواية: "وإنه سيخرجُ في أُمتي أقوامٌ تَتَجارى بهم الأهواءُ، كما يتجارى الكَلَب بصاحبه، ولا يَبقى منه عِرق ولا مفصلٌ إلا دَخله". وحسنه الألباني. قوله: (الكَلَب) بفتح الكاف واللام، قال الخطابي: هو داء يعرض للإنسان من عضّة الكلْب الكَلِب، قال: وعلامة ذلك في الكلْب أن تحمرّ عيناه، ولا يزال يُدخل ذنبه بين رجليه، فإذا رأى إنساناً ساوَرَه. انتهى، وساوره أي: وثب عليه.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يخاف على أمته من الأئمة المضلين، فعَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الْأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ». أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وصححه الألباني، فهؤلاء لم يكتفوا بالتلبس بالضلال في أنفسهم بل يدعون إلى الضلال عياذًا بالله.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم حذيفة رضي الله عنه لما سأله عن الفتن أنه سيخرج في هذه الأمة أناس يدعون إلى النار عياذًا بالله، فقال: «دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا»، فقال حذيفة: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا، قَالَ: «هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا». أخرجه البخاري ومسلم.
وقد وقع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلمَ فخرج على الناس من يغير ويبدل ويحرف في العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق.
فظهر في الأمة من يدعو إلى الدين الإبراهيمي ووحدة الأديان، وإلغاء عقيدة الولاء والبراء، وظهر مِنْ يزعم بأن النار قد تلغى يوم القيامة ويدخل الجميع الجنة، وظهر من يقول بأن أهل الكتاب بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم مؤمنون وإن يؤمنوا به عليه الصلاة والسلام، وظهر من يقول بأن تعدد الزوجات ظلمٌ للمرأة، وظهر من يخطئ أحكام المواريث، وظهر من يبيح نكاح المسلمات من الكفار، وظهر من يبيح المعاملات الربوية، وظهر من يبيح الاختلاط المحرم بين الرجل والمرأة، وظهر من ينشر الصوفية الفلسفية –صوفية ابن عربي والحلاج وابن الفارض وابن سبعين وحزبهم- وويدعو إليها، وظهر من ينشر الصوفية الخرافية والقبورية والطرقية وما تشتمل على بدع ومنكرات وخرافات وشركيات، لذا ظهر من يقول بجواز الاستعانة والاستغاثة بغير الله عز وجل، وطلب النفع ودفع الضر من الأموات بدعوى أنهم من الأولياء الصالحين.
ومن الأمثلة التي تبين خطر اتباع الهوى مما وقع فيمن قبلنا من الأمم: ما قصه الله تعالى فقال: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ . وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ . سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ}.
فهذا بلعام بن باعوراء رجل من بني إسرائيل، قيل: كَانَ مِنْ عُلَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وكان يعرف اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى، وَكَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ، يُقَدِّمُونَهُ فِي الشَّدَائِدِ، فقد آتَاهُ اللَّهُ من الآيات والحجج والأدلة فتعلمها، ولكنه انسلخ منها فكفر بها وتَرَكَهَا وانتكس ونبذها وراء ظهره، فكان في صفوف الكافرين ضد صفوف الأنبياء (موسى وهارون ويوشع بن نون) والمؤمنين، فأراد على يدعوا بالخير للكفار وبالهلاك للمؤمنين، فلم يستطع إلا عكس ذلك، فاستحوذ عليه الشيطان فصار من الضالين الهالكين.
ولو شاء الله أن يرفع قدره بما آتيناه من الآيات لفعل، ولكنه رَكَنَ إلى الدنيا واتبع هواه، وآثر لَذَّاته وشهواته على الآخرة، وامتنع عن طاعة الله وخالف أمره، فَمَثَلُ هذا الرجل مثل الكلب، إن تطرده أو تتركه يُخْرج لسانه في الحالين لاهثًا، فكذلك الذي انسلخ من آيات الله يظل على كفره إن اجتهدْتَ في دعوتك له أو أهملته.
فالحذر الحذر عباد الله من اتباع الهوى الذي يهلك أهله، وعلينا بالتمسك بالوحي وامتثاله والعمل به.
مع تحيات
اللجنة العلمية لملتقى الخطيب المؤثر أسد المنابر