سلسلة الخطب المقترحة رقم ((550))

الخطبة الثالثة من شوال لعام 1445 هـ

عنوان الخطبة ((خذ من أموالهم صدقة))

الغرض من الخطبة: بيان حكم الزكاة، وحكم مانعها، والترغيب في أدائها والترهيب من منعها، والتذكير ببعض أحكامها.

عناصر الخطبة:

1- فرضية الزكاة

2- فضل الزكاة

3- من أحكام الزكاة.

المقدمة: أما بعد، قال الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: 103].

بين يدي الخطبة:

فرضية الزكاة

الزَّكَاةُ فِي اللُّغَةِ: النَّمَاءُ، يُقَالُ زَكَا الزَّرْعُ: إذَا نَمَا؛ وَتَرِدُ أَيْضًا بِمَعْنَى التَّطْهِيرِ، وَتَرِدُ شَرْعًا بِالِاعْتِبَارَيْنِ مَعًا، أَمَّا بِالْأَوَّلِ فَلِأَنَّ إخْرَاجَهَا سَبَبٌ لِلنَّمَاءِ فِي الْمَالِ، أَوْ بِمَعْنَى أَنَّ الْأَجْرَ يَكْثُرُ بِسَبَبِهَا، أَوْ بِمَعْنَى أَنَّ تَعَلُّقَهَا بِالْأَمْوَالِ ذَاتِ النَّمَاءِ كَالتِّجَارَةِ وَالزِّرَاعَةِ وَدَلِيلُ الْأَوَّلِ: «مَا نَقَصَ مَالٌ مِنْ صَدَقَةٍ»؛ لِأَنَّهَا يُضَاعَفُ ثَوَابُهَا، كَمَا جَاءَ: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُرْبِي الصَّدَقَةَ»، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهَا طُهْرَةٌ لِلنَّفْسِ مِنْ رَذِيلَةِ الْبُخْلِ وَطُهْرَةٌ مِنْ الذُّنُوبِ. انتهى من نيل الأوطار للشوكاني.

والزكاة في الاصطلاح: حق واجب، في مال مخصوص، بشروط مخصوصة، لطائفة مخصوصة، في وقت مخصوص.

إن الزكاة فريضة عظيمة من فرائض الإسلام فرضت في السنة الثانية من الهجرة النبوية، وهي ركن من أركان الإسلام الخمسة، وهي أهم أركانه بعد الشهادتين والصلاة؛ والزكاة واجبة بالكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقد قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}، وأما السنة: فقد روى الإمامان البخاري ومسلم عَنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ". متفق عليه، وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ: «إِنَّك تَأتي قومًا من أهل الْكتاب، فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أطاعوا لذَلِك، فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، فَإِنْ هم أطاعوا لذَلِك فأعلمهم أَن الله قد فرض عَلَيْهِم صَدَقَة تُؤْخَذ من أغنيائهم فَترد فِي فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ، فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَين الله حجاب». متفق عليه.

وقد أجمع المسلمون على وجوبها، واتفق الصحابة على قتال مانعيها، ويختلف حكم مانع الزكاة المسلم بحسب سبب منعه، وحاله، فإنه يمتنع عن أداء الزكاة إما جهلاً، أو جحودًا، أو بخلاً، وبيانه كالتالي:

إن منعها جحودًا لها، وإنكارًا لفرضيتها، مع علمه بوجوبها، أو نشأته في بلاد المسلمين وبين علمائهم بحيث لا يجهل فرضيتها مثله، فهذا يكفر كفرًا أكبر لإنكاره معلومًا من الدين بالضرورة، وتجري عليه أحكام الردة، لأن أدلة وجوب الزكاة ظاهرة في الكتاب والسنة وإجماع الأمة، فلا تكاد تخفى على من هذا حاله، فإذا جحدها لا يكون إلا لتكذيبه الكتاب والسنة، وكفره بهما.

وإن منعها جهلاً بحكمها وفرضيتها، وكان ممن يجهل مثله، لحداثة عهده بالإسلام، أو لكونه نشأ ببادية بعيدة عن الأمصار ومجالس العلماء، فإنه يُعَرَّف وجوبها، ويؤمر بأدائها، ولا يحكم بكفره، لأنه معذور بجهله الناشيء عن عدم البلاغ.

وإن منعها بخلاً مع اعتقاده وجوبها، فهو آثم بامتناعه، مرتكب لكبيرة من الكبائر، ولا يُخرجه مجرد البخل من الملة؛ وقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثم يُرَى سَبِيلُهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ». رَوَاهُ مُسلم، فلو كان كافراً لما كان له سبيل للجنة.

ثم لإمام المسلمين أن يأخذ الزكاة قهرًا ممن منعها بخلاً، وأن يعزره ولو بأخذ شطر ماله، وإن قاتل مانعُها دونها قوتل حتى يخضع لأمر الله تعالى ويؤدي الزكاة، لأن الصحابة أجمعوا على قتال مانعي الزكاة، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنه قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْعَرَبِ قَالَ عُمَرُ: يَا أَبَا بَكْرٍ كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلَّا بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ على الله". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا. قَالَ عُمَرُ: فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَن رَأَيْت أَن قد شرح الله صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ. متفق عليه.

وقد جاء الترهيب الشديد والوعيد الأكيد لمن كنز ماله ومنع حق الله تعالى فيه، ومما ثبت في عقوبة مانع الزكاة ما يلي:

قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ . يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 34، 35].

قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ . فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ . فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 75 - 77].

قال الله تبارك وتعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195].

قال الله عز وجل: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [آل عمران: 180].

إن الله تعالى لا يحب البخلاء: قال تعالى: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38]، وقال جل شأنه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا . الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء: 36، 37]، وقال عز وجل: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ . الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [الحديد: 23، 24]

قَالَ تَعَالَى: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى . وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى . وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} [الليل: 8 - 11].

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ، لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا، إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحُ مِنْ نَارٍ، فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ، فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبِينُهُ وَظَهْرُهُ، كُلَّمَا بَرَدَتْ أُعِيدَتْ لَهُ، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ، فَيَرَى سَبِيلَهُ، إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِمَّا إِلَى النَّارِ». قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَالْإِبِلُ؟ قَالَ: «وَلَا صَاحِبُ إِبِلٍ لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا، وَمِنْ حَقِّهَا حَلَبُهَا يَوْمَ وِرْدِهَا، إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ، أَوْفَرَ مَا كَانَتْ، لَا يَفْقِدُ مِنْهَا فَصِيلًا وَاحِدًا، تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا وَتَعَضُّهُ بِأَفْوَاهِهَا، كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ أُولَاهَا رُدَّ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ، فَيَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِمَّا إِلَى النَّارِ». قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ؟ قَالَ: «وَلَا صَاحِبُ بَقَرٍ، وَلَا غَنَمٍ، لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا، إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ، لَا يَفْقِدُ مِنْهَا شَيْئًا، لَيْسَ فِيهَا عَقْصَاءُ، وَلَا جَلْحَاءُ، وَلَا عَضْبَاءُ تَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا وَتَطَؤُهُ بِأَظْلَافِهَا، كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ أُولَاهَا رُدَّ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ، فَيَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِمَّا إِلَى النَّارِ». الحديث أخرجه مسلم.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أيضًا أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ لَهُ مَالُهُ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ يُطَوَّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَأْخُذ بِلِهْزِمَتَيْهِ -يَعْنِي بشدقيه- يَقُولُ: أَنَا مَالُكَ أَنَا كَنْزُكَ". ثُمَّ تَلَا هَذِه الْآيَة: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ). رَوَاهُ البُخَارِيّ.

وَعَنْه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحُ مِنْ نَارٍ فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وجبينه وظهره، كلما بردت أُعِيدَتْ لَهُ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ فَيُرَى سَبِيلُهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ». رَوَاهُ مُسلم.

وعَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: «مَا مِنْ رَجُلٍ يَكُونُ لَهُ إِبِلٌ أَوْ بَقَرٌ أَوْ غَنَمٌ لَا يُؤَدِّي حَقَّهَا إِلَّا أَتَى بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أعظم مَا يكون وَأَسْمَنَهُ تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا وَتَنْطِحُهُ بِقُرُونِهَا كُلَّمَا جَازَتْ أُخْرَاهَا رُدَّتْ عَلَيْهِ أُولَاهَا حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاس». متفق عليه.

وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أنه قَالَ: أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ: لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ، حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا، إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا، وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ، إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ، إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ، إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ، فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ، إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ". أخرجه ابن ماجه وحسنه الألباني.

وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «مَانِعُ الزَّكَاةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي النَّارِ». أخرجه الطبراني في المعجم الصغير وحسنه الألباني.

فضل الزكاة

شرعت الزكاة لحكم عظيمة، ولها فضائل جليلة، ومن ذلك:

الزكاة طهرة للعبد، وتزكية لنفسه، قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: 103].

أداء الزكاة من أسباب الفلاح: قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون: 1 - 4].

مضاعفة الأجر عند الله تعالى: قال الله جل وعز: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ . الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 261، 262]، وقال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276]، وقال عز وجل: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم: 39]، أي: وما أعطيتم من أموالكم إلى من يدفع بها حاجة تريدون بذلك وجه الله، لا تريدون منزلة ولا مثوبة من الناس، فأولئك هم الذين يُضَاعَف لهم الأجر عند الله. وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا تَصَدَّقَ أَحَدٌ بِصَدَقَةٍ مِنْ طَيِّبٍ، وَلَا يَقْبَلُ اللهُ إِلَّا الطَّيِّبَ، إِلَّا أَخَذَهَا الرَّحْمَنُ بِيَمِينِهِ، وَإِنْ كَانَتْ تَمْرَةً، فَتَرْبُو فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ حَتَّى تَكُونَ أَعْظَمَ مِنَ الْجَبَلِ، كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ». أخرجه البخاري ومسلم.

من أعظم أسباب رحمة الله تعالى للعبد في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور: 56]، وقال الله عز وجل: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 156].

من أسباب دخول الجنة: فعَنْ أَبِي أَيُّوبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الجَنَّةَ، قَالَ: مَا لَهُ مَا لَهُ. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرَبٌ مَا لَهُ، تَعْبُدُ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ». رواه البخاري ومسلم، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلْتُهُ دَخَلْتُ الجَنَّةَ، قَالَ: «تَعْبُدُ اللَّهَ لاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ المَكْتُوبَةَ، وَتُؤَدِّي الزَّكَاةَ المَفْرُوضَةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ» قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ أَزِيدُ عَلَى هَذَا، فَلَمَّا وَلَّى، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا». رواه البخاري ومسلم، وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَمْسٌ مَنْ جَاءَ بِهِنَّ مَعَ إِيمَانٍ دَخَلَ الْجَنَّةَ: مَنْ حَافَظَ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ عَلَى وُضُوئِهِنَّ وَرُكُوعِهِنَّ وَسُجُودِهِنَّ وَمَوَاقِيتِهِنَّ، وَصَامَ رَمَضَانَ، وَحَجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، وَأَعْطَى الزَّكَاةَ طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ، وَأَدَّى الْأَمَانَةَ». قَالُوا: يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ، وَمَا أَدَاءُ الْأَمَانَةِ؟ قَالَ: «الْغُسْلُ مِنَ الْجَنَابَةِ». أخرجه أبو داود وحسنه الألباني، وعَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ الْجُهَنِيِّ رضي الله عنه أنه قَالَ: جَاءَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مِنْ قُضَاعَةَ، فَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ شَهِدْتُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، وَصَلَّيْتُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَصُمْتُ الشَّهْرَ، وَقُمْتُ رَمَضَانَ، وَآتَيْتُ الزَّكَاةَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ مَاتَ عَلَى هَذَا كَانَ مِنَ الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ». أخرجه ابن خزيمة وابن حبان وصححه الألباني.

النجاة من حر يوم القيامة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «سَبْعَة يظلهم الله تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ»، وذكر منها: «وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ»، وعن عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه أن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ النَّاسِ». أخرجه أحمد وصححه الألباني.

الزكاة من أسباب استجلاب البركة والزيادة والخلف من الله تعالى، قال عز وجل: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39]، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أن النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ». أخرجه البخاري ومسلم، وعنه رضي الله عنه أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللهُمَّ، أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الْآخَرُ: اللهُمَّ، أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا». أخرجه البخاري ومسلم، وعنه أيضًا رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ». رواه مسلم.

الزكاة من أسباب تكفير الخطايا، فعن كعب بن عجرة رضي الله عنه أنه قال: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "الصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ المَاءُ النَّارَ". أخرجه الترمذي وصححه الألباني.

الزكاة سبب من أسباب إشاعة الألفة، والمحبة، والتكافل بين أفراد المجتمع المسلم، والنفوس مجبولة على حب من أحسن إليها.

الزكاة دليل على صدق إيمان المزكي، وذلك أن المال محبوب للنفوس، والمحبوب لا يبذل إلا ابتغاء محبوب مثله أو أكثر، بل ابتغاء محبوب أكثر منه، ولهذا سميت صدقة؛ لأنها تدل على صدق طلب صاحبها لرضا الله عزّ وجل.

الزكاة تزكي أخلاق المزكي، فتنتشله من زمرة البخلاء، وتدخله في زمرة الكرماء؛ لأنه إذا عود نفسه على البذل، سواء بذل علم، أو بذل مال، أو بذل جاه، صار ذلك البذل سجية له وطبيعة حتى إنه يتكدر إذا لم يكن ذلك اليوم قد بذل ما اعتاده.

الزكاة من أسباب انشراح الصدر، فالإنسان إذا بذل الشيء، ولاسيما المال، يجد في نفسه انشراحاً، وهذا شيء مجرب، ولكن بشرط أن يكون بذله بسخاء وطيب نفس، لا أن يكون بذله وقلبه تابع له، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله: أن البذل والكرم من أسباب انشراح الصدر، لكن لا يستفيد منه إلا الذي يعطي بسخاء وطيب نفس، ويخرج المال من قلبه قبل أن يخرجه من يده، أما من أخرج المال من يده، لكنه في قرارة قلبه، فلن ينتفع بهذا البذل.

الزكاة تجعل المجتمع الإسلامي كأنه أسرة واحدة، فيعطف فيه القادر على العاجز، والغني على المعسر، فيصبح الإنسان يشعر بأن له إخواناً يجب عليه أن يحسن إليهم كما أحسن الله إليه، قال تعالى: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص: 77]، فتصبح الأمة الإسلامية وكأنها بيت واحد، وهذا ما يعرف عند المتأخرين بالتكافل الاجتماعي، والزكاة هي خير ما يكون لذلك؛ لأن الإنسان يؤدي بها فريضة، وينفع إخوانه.

الزكاة تطفئ حرارة ثورة الفقراء؛ لأن الفقير قد يغيظه أن يجد هذا الرجل يركب ما شاء من المراكب، ويسكن ما يشاء من القصور، ويأكل ما يشتهي من الطعام؛ فإذا جاد الأغنياء على الفقراء كسروا ثورتهم وهدؤوا غضبهم، وقالوا: لنا إخوان يعرفوننا في الشدة، فيألفون الأغنياء ويحبونهم.

الزكاة تمنع الجرائم المالية مثل السرقات والنهب والسطو، وما أشبه ذلك؛ لأن الفقراء يأتيهم ما يسد شيئاً من حاجتهم، ويعذرون الأغنياء بكونهم يعطونهم من مالهم، فيرون أنهم محسنون إليهم فلا يعتدون عليهم.

من أحكام الزكاة

فرض الله تعالى الزكاة وجعلها في أصناف معينة من الأموال والعروض، ومن أشهر تلك الأنواع:

زكاة الأثمان من الذهب والفضة والعملات المتداولة من الورقية والنقدية ونحوها؛ فتجب الزكاة في الذهب والفضة، لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34]، ولا يُتَوعد بهذه العقوبة إلا على ترك واجب، وقال الإمام ابن قدامة رحمه الله: وأجمع أهل العلم على أن في مائتي درهم خمسة دراهم، وعلى أن الذهب إذا كان عشرين مثقالاً، وقيمته مائتا درهم أن الزكاة تجب فيه، إلا ما اختلف فيه عن الحسن. انتهى من المغني.

ويشترط لوجوب الزكاة في الذهب والفضة: بلوغ النصاب، وهو عشرون مثقالاً من الذهب؛ ويساوي بالجرامات (85) جرامًا من عيار 24. أو خمس أواقٍ من الفضة، والأوقية أربعون درهمًا، فالخمس أواق تساوي مائتي درهم، وتساوي بالجرامات (595) من عيار 999.

فإذا بلغ الذهب أو الفضة هذا النصاب، أو بلغ المال ما يعادل منهما وحال عليه الحول –أي مر على امتلاكه سنة- وجب فيه ربع العشر، وهو (2.5%) من مجموع المال، أو يقسم المال على (40)، فزكاة المال أن يخرج من كل أربعين جزءٍ جزءًا واحدًا.

ومثال لذلك: لو امتلك مبلغًا قدره: 400 ألف، وحال عليه الحول، فإن زكاته هي: (400 ألف / 40 = 10 آلاف).

زكاة عروض التجارة: وهي ما أعده المسلم للتجارة من أي صنف كان، وهو أعم أموال الزكاة وأشملها، والزكاة واجبة فيها لعموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 267].

فمن ملك عروضًا بنية التجارة –عقارات، بضائع، حيوانات، مواد خام، منتجات، ..إلخ- وبلغت قيمتها نصاب المال، وحال عليها الحول في ملكه، فإنه يزكيها بإخراج ربع العشر، وذلك بأن يحسب قيمة التجارة من النقود وثمن البضائع وقت حولان الحول.

مثال ذلك: إذا امتلك مبلغًا قدره: 200 ألف نقدًا، وعنده بضائع بقيمة 400 ألف، وحال على ذلك الحول، فإن زكاته هي زكاة مجموع ما يملك بنية التجارة: (600 ألف / 40 = 15 ألفًا). ولا يدخل في حساب الزكاة أدوات الشغل وماكينات العمل وخطوط الإنتاج وسيارات الأجرة ونحو ذلك.

زكاة الخارج من الأرض من زروع وثمار ونحوه، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ}، فتجب الزكاة في الحبوب إذا اشتد الحَبُّ ويبس، وتجب في الثمار عند بدو صلاحها، بحيث تصبح ثمراً طيباً يؤكل، ولا يشترط في ذلك الحول، لقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}؛ فتجب الزكاة في كل مكيل [أو موزون]، مما يدخر –يعني يصلح للتخزين-، مطعوم -يعني يؤكل- من الحبوب والثمار، كالقمح، والأرز، والشعير، والبقول، والذرة، والتمر، والزبيب، ونحوها، فالقمح مثلاً من الأصناف التي تباع وتشترى بالكيل، وهو مما يدخر ويخزن من أجل الطعام، وهو قوت مطعوم يؤكل.

ويشترط في هذا بلوغ النصاب، وهو خمسة أوسق؛ لحديث: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنَ التَّمْرِ صَدَقَةٌ». متفق عليه، والوسق حمل البعير، وهو ستون صاعًا بصاع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وخمسة الأوسق تساوي ثلاثمائة صاع، فكل محصول أو حب أو ثمر بلغ ثلاثمائة صاع يصبح فيه زكاة.

فإذا كان صاع الأرز يعادل (2.800 كجم) فإن نصاب الأرز يساوي (2.8 × 300) أي 840 كيلو جرامًا ، وإذا كان صاع القمح يعادل (2.700 كجم) فإن نصاب القمح يساوي (2.7 × 300) أي 810 كيلو جرامًا، وإذا كان صاع الفاصوليا يساوي (2.750) فإن نصاب الفاصوليا يساوي (2.75 × 300) أي 825 كيلو جرامًا، وإذا كان صاع الفول يساوي (2.500) فإن نصاب الفول يساوي (2.5 × 300) أي 750 كيلو جرامًا، وإذا كان صاع التمر يساوي (1.700) فإن نصاب التمر يساوي (1.7 × 300) أي 510 كيلو جرامًا، وهكذا يتم حساب زكاة الزروع والثمار.

والمقدار الواجب إخراجه من الحبوب والثمار هو العشر عما سقي بلا كلفة، كالأرض التي تسقى بالمطر أو بالراحة ونحو ذلك، أو نصف العشر عما سقي بمؤنة وكلفة، كالتي تسقى بالآلات أو بنفقة، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ وَالعُيُونُ أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا العُشْرُ، وَمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ العُشْرِ». أخرجه البخاري، وعليه فإن المحصول يتم قسمته على (20) إذا كان يسقى بكلفة، ويتم قسمته على (10) إذا كان يسقى بلا كلفة؛ فإذا كان محصول القمح مثلاً (5000 كجم)، وكانت الأرض تسقى بالراحة بلا كلفة، فإن زكاته (5000 / 10) يساوي 500 كجم، وإذا كانت تسقى بكلفة، فإن زكاته (5000 / 20) يساوي 250 كجم، وإذا كانت تسقى مرة بكلفة ومرة بغير كلفة فإن الزكاة تكون بينهما يعني (500 + 250) / 2 تساوي 375 كجم.

وعلى المسلم الذي وجبت عليه زكاة الزروع أن يخرجها يوم الحصاد من عموم المحصول، لا من أفضله ولا من رديئه.

قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [البقرة: 267].

زكاة الرِّكاز: وهو ما وُجد من دفائن الجاهلية ذهبًا أو فضة أو غيرهما مما عليه علامة الكفر، ويجب فيه الخمس في قليله وكثيره، ولا يُشترط له الحول ولا النصاب؛ لعموم قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسِ". متفق عليه.

زكاة سائمة بهيمة الأنعام: وهي التي ترعى الكلأ المباح -الذي نبت دون أن يزرعه أحد- في الحول أو أكثره، ويشترط فيها أن تبلغ النصاب وأن يحول عليها الحول؛ فأقل نصاب الإبل: خمس، وتجب فيها شاة، وأقل نصاب البقر: ثلاثون، ويجب فيها تبيع -وهو ما تم له سنة-، وأقل نصاب الغنم: أربعون، ويجب فيها شاة.

زكاة الفطر: تجب زكاة الفطر صاعًا من طعام على كل مسلم كبير وصغير، وذكر وأنثى، وحر وعبد؛ فيُخرجها عن نفسه، وعمن تلزمه نفقته، من زوجة أو قريب، وكذا العبد، تجب على سيده؛ ولا تجب إلا على مَنْ فضل عن قوته، وقوت من تلزمه نفقته وحوائجه الضرورية في يوم العيد وليلته ما يؤدي به الفطرة.

وعلى المسلم أن تطيب نفسه بالصدقة ليكمل أجره، وأن يصرفها في مصارفها ويعطيها لمستحقيها، وألا يمن عليهم أو يؤذيهم، بل يطيب خاطرهم، قال تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ . يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى}، وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُعْتَدِي فِي الصَّدَقَةِ كَمَانِعِهَا». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وحسنه الألباني، وأن يخرجها من وسط المال لا من أفضله ولا رديئه، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [البقرة: 267]، ويجوز للمسلم أن يوكِّل عنه من يخرج له زكاته على المستحقين، بشرط أن يكون الوكيل جائز التصرف -أي بالغًا عاقلاً حرًا رشيدًا مختارًا-، وأن يكون ثقة أمينًا يعطي الزكاة لمستحقيها، ولا فرق في ذلك بين الرجل والمرأة.

وأهل الزكاة المستحقون لها هم الأصناف الثمانية الذين ذكرهم الله عز وجل في قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60].

وإيضاح هذه الأصناف كما يلي:

الفقراء: جمع فقير، وهو من ليس لديه ما يسد حاجته، وحاجة من يعول، من طعام وشراب وملبس ومسكن، بألا يجد شيئاً، أو يجد أقلّ من نصف الكفاية، ويعطى من الزكاة ما يكفيه سنة كاملة.

المساكين: جمع مسكين، وهو من يجد نصف كفايته أو أكثر من النصف، كمن معه مائة ويحتاج إلى مائتين، ويعطى من الزكاة ما يكفيه لمدة عام.

العاملون عليها: جمع عامل، وهو من يبعثه الإمام لجباية الصدقات، فيعطيه الإمام ما يكفيه مدة ذهابه وإيابه ولو كان غنياً؛ لأن العامل قد فَرَّغ نفسه لهذا العمل، والعاملون هم كل من يعمل في جبايتها، وكتابتها، وحراستها، وتفريقها على مستحقيها.

المؤلفة قلوبهم: وهم قوم يعْطَوْن الزكاة؛ تأليفاً لقلوبهم على الإسلام إن كانوا كفاراً، وتثبيتاً لإيمانهم، إن كانوا من ضعاف الإيمان المتهاونين في عباداتهم، أو لترغيب ذويهم في الإسلام، أو طلباً لمعونتهم أو كف أذاهم.

في الرقاب: جمع رقبة، والمراد بها العبد المسلم أو الأمة يُشْتَرى من مال الزكاة وَيُعتق، أو يكون مُكَاتَباً فيعطى من الزكاة ما يسدد به نجوم كتابته؛ ليصبح حراً نافذ التصرف، وعضواً نافعاً في المجتمع، ويتمكن من عبادة الله تعالى على الوجه الأكمل، وكذا الأسير المسلم يفك من الأعداء من مال الزكاة.

الغارمون: جمع غارم، وهو المدين الذي تَحَملَ ديناً في غير معصية الله، سواء لنفسه في أمر مباح، أو لغيره كإصلاح ذات البين، فهذا يعطى من الزكاة ما يسدد به دينه، والغارم للإصلاح بين الناس يعطى من الزكاة، وإن كان غنياً.

في سبيل الله: المراد به الغزاة في سبيل الله المتطوعون الذين ليس لهم راتب في بيت المال، فيعطون من الزكاة، سواء أكانوا أغنياء أم فقراء.

ابن السبيل: وهو المسافر المنقطع عن بلده الذي يحتاج إلى مال؛ ليواصل السفر إلى بلده، إذا لم يجد من يقرضه.

ولا يجوز صرف الزكاة إلى:

الأغنياء، والأقوياء المكتسبون، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا حظ فيها لغني، ولا لقويٍ مُكْتَسِب". أخرجه أحمد وصححه الألباني، إلا العامل عليها والغارم كما تقدم.

الأصول والفروع والزوجة الذين تجب نفقتهم عليه، فلا يجوز دفع الزكاة إلى من تجب على المسلم نفقتهم كالآباء والأمهات، والأجداد والجدات، والأولاد، وأولاد الأولاد؛ لأن دفع الزكاة إلى هؤلاء يغنيهم عن النفقة الواجبة عليه، ويسقطها عنه، ومن ثَم يعود نفع الزكاة إليه، فكأنه دفعها إلى نفسه.

الكفار غير المؤلَّفين، فلا يجوز دفع الزكاة إلى الكفار.

آل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومواليهم: لا تحل الزكاة لآل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إكراماً لهم لشرفهم؛ لحديث: "إن الصدقة لا تحل لنا، وإن موالي القوم من أنفسهم". أخرجه أبو داود والترمذي وصححه الألباني، وآل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هم: بنو هاشم، وبنو المطلب، وموالي القوم: عتقاؤهم.

العبد: لا تدفع الزكاة إلى العبد؛ لأن مال العبد ملك لسيده، فإذا أعطي الزكاة انتقلت إلى ملك سيده، ولأن نفقته تلزم سيده. ويستثنى من ذلك: المكاتب فإنه يعطى من الزكاة ما يقضي به دين كتابته، والعامل على الزكاة، فإذا كان العبد عاملاً على الزكاة أعطي منها لأنه كالأجير، والعبد يجوز أن يستأجر بإذن سيده.

مع تحيات

اللجنة العلمية لملتقى الخطيب المؤثر أسد المنابر