التذكير بأحداث غزوة أحد وأخذ العظة والعبرة منها، وبيان أسباب الهزيمة وأهم الدروس المستفادة.
سلسلة الخطب المقترحة رقم ((549))
الخطبة الثانية من شوال لعام 1445 هـ
عنوان الخطبة ((غزوة أحد))
الهدف من الخطبة : التذكير بأحداث غزوة أحد وأخذ العظة والعبرة منها، وبيان أسباب الهزيمة وأهم الدروس المستفادة.
عناصر الموضوع
1) أحداث الغزوة.
2) أسباب الهزيمة وأهم الدروس
المقدمة: أما بعد، قال الله تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}.
بين يدي الخطبة:
أحداث الغزوة
لما أصاب المسلمون كفارَ قريش يوم بدر وقتلوا منهم أصحاب القليب، ورجع من فر منهم إلى مكة، ورجع أبو سفيان بالعِير، مشى رجال منهم فى رجال من قريش ممن أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم يوم بدر، فكلموا أبا سفيان، ومن كانت له فى تلك العير من قريش تجارة؛ فقالوا: يا معشر قريش، إن محمدًا قد وتركم، وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه، فلعلنا ندرك منه ثأرنا بمن أصاب منا، ففعلوا. قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ).
اجتمعت قريش لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فعل ذلك أبو سفيان وأصحاب العير بأحابيشها، ومن أطاعها من قبائل كنانة، وأهل تهامة، وكان أبو عزة الجمحي قد مَنَّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، وكان فقيرًا ذا عيال وحاجة، وكان فى الأسارى، فقال: إنى فقير ذو عيال وحاجة قد عرفتها فامنن عليّ، فمنّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له صفوان بن أمية: يا أبا عزة، إنك امرؤ شاعر، فأعنا بلسانك، فاخرج معنا، فقال: إن محمدًا قد مَنّ عليّ فلا أريد أن أظاهر عليه، قال: بلى، فأعنا بنفسك فلك والله عليّ إن رجعت أن أغنيك وإن أصبت أن أجعل بناتك مع بناتي، يصيبهن ما أصابهن من عسر ويسر. فخرج أبو عزة يسير فى تهامة، ويدعو بنى كنانة، وخرج غيره إلى بنى مالك ابن كنانة، يحرضهم ويدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعا جبير بن مطعم غلامًا له حبشيًّا يقال له: وحشي، يقذف بحربة له قَذْفَ الحبشة، فلما يخطئ بها، فقال له: اخرج مع الناس، فإن أنت قتلت حمزة فأنت عتيق.
فخرجت قريش بحدها وحديدها وأحابيشها، ومن تابعها من بنى كنانة، وأهل تهامة، وخرجوا معهم النساء، التماس الحفيظة وألا يفروا، وفي مقدمتهم قائد الجيش، فخرج أبو سفيان بهند بنت عتبة.
فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون قد نزلوا حيث نزلوا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين: «إني قد رأيت والله خيرًا، رأيت بقرًا يذبح، ورأيت في ذباب سيفي ثُلمًا، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة، وتأول البقر بنفر من أصحابه يقتلون، وتأول الثلمة في سيفه برجل يصاب من أهل بيته وتأول الدرع بالمدينة؛ فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا، فإن أقاموا أقاموا بشرِ مقام، وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها».
رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ولم يُرد الخروج تنكيلاً بالعدو إن أقاموا أو قاتلوا؛ وبادر جماعة من فضلاء الصحابة ممن فاته الخروج يوم بدر، فأشاروا على النبيّ صلى الله عليه وسلم بالخروج، وألحوا عليه في ذلك، حتى قال قائلهم: يا رسول الله، كنا نتمنى هذا اليوم وندعو الله، فقد ساقه إلينا وقرب المسير، اخرج بنا إلى أعدائنا، لا يرون أنا جَبُنا عنهم وضعفنا! فقال عبدالله بن أبىّ بن سلول: يا رسول الله، أقم بالمدينة، لا تخرج إليهم، فو الله ما خرجنا منها إلى عدو لنا قط إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه، فدعهم يا رسول الله، فإن أقاموا أقاموا بشر محبس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال فى وجههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاءوا.
فلم يزل الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كان من أمرهم حب لقاء القوم، حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته فَلَبِسَ لأْمَتَهُ؛ ثم ندم الناس أن استكرهوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخروج؛ فقالوا: يا رسول الله ما كان لنا أن نخالفك، فاصنع ما شئت، إن أحببت أن تمكث بالمدينة فافعل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ينبغي لنبيّ إذا لبس لأْمَتَه أن يضعها، حتى يحكم الله بينه وبين عدوه".
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر شوال من العام الثالث للهجرة في ألفٍ من أصحابه، حتى إذا كانوا بالشرط -مكان بين المدينة وأحد-، انخزل عنه عبد الله بن أبيّ ابن سلول بثلث الناس، وقال: أطاعهم وعصاني، ماندري علام نقتل أنفسنا ها هنا، فرجع بمن اتبعه من قومه من أهل النفاق والريب، واتبعهم أبو جابر عبد الله بن عمرو بن حرام، يقول: يا قوم، أذكركم الله ألا تخذلوا قومكم ونبيكم، عندما حضر من عدوهم، تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا. قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع، ولكنا لا نرى أنه يكون قتال؛ فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الانصراف رجع عنهم قائلاً: أبعدكم الله، أعداء الله، فسيغني الله عنكم نبيه.
ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بالشعب من أحد، فى عدوة الوادى إلى الجبل، فجعل ظهره وعسكره إلى أحد، وقال: "لا يقاتلن أحد منكم حتى نأمره بالقتال".
وتهيأ رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال، وهو فى سبعمائة رجل، وجعل يُنْزِلُ المؤمنين مواقعهم من القتال، وقسّم الجيش، ورتب الجند؛ فبيّنَ لكل واحد منزله، قال تعالى: (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)؛ فأَمَّرَ على الرماة عبدَالله بن جبير أخا بنى عمرو بن عوف، وهو معلم يومئذ بثياب بيض، والرماة خمسون رجلاً، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "انضح الخيل عنا بالنبل، لا يأتونا من خلفنا، إن كانت لنا أو علينا، فاثبت مكانك، لا نؤتين من قبلك". ثم قال للرماة: "احموا ظهورنا، فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تُشْرِكُونَا"، وفي رواية: "إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هَزَمْنَا القوم ووطأناهم، فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم". وظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين درعين، ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير.
وأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ للقتال بعض الفتيان وردّ بعضهم، فممن أجاز: سمرة بن جندب، ورافع بن خريج، وهما ابنا خمس عشرة سنة، وكان قد ردهما، فقيل له: يا رسول الله إن رافعًا رَامٍ فأجازه، فلما أجازه قيل له: فإن سمرة يصرعه فأجازه. وممن ردّهم: أسامة بن زيد، وعبد الله بن عمر، وزيد بن ثابت، والبراء بن عازب.
ونهى الرسول صلى الله عليه وسلم الناس عن الأخذ في القتال حتى يأمرهم، وحرض أصحابه على القتال، وحضهم على المصابرة عند اللقاء، ثم جرَّد سيفًا ونادى أصحابه: من يأخذ هذا السيف بحقه؟ فقام إليه رجال، فأمسكه عنهم، حتى قام إليه أبو دجانة سِمَاك بن خَرَشَة، فقال: وما حقه يا رسول الله؟ قال: أن تضرب به العدو حتى ينحنى، قال: أنا آخذه يا رسول الله بحقه، فأعطاه إياه، وكان أبو دجانة رجلاً شجاعًا يختال عند الحرب إذا كانت، وكان إذا أعلم بعصابة له حمراء فاعتصب بها، علم الناس أنه سيقاتل، فلما أخذ السيف من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخرج عصابته تلك فعصب بها رأسه، وجعل يتبختر بين الصفين.
وتعبأت قريش، وهم ثلاثة آلاف رجل بقيادة أبو سفيان، ومعهم مائتا فرس قد جنبوها، فجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد، وعلى ميسرتها عكرمة بن أبي جهل؛ ثم إن أبا عامر الراهب عبد عمرو بن صيفي أحد بنى ضبيعة، وقد كان خرج حين خرج إلى مكة مباعدًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، معه خمسون غلامًا من الأوس، وكان يَعِدُ قريشًا أن لو قد لقي قومه لم يختلف عليه منهم رجلان، فلما التقى الناس كان أول من لقيهم أبو عامر فى الأحابيش وعبدان أهل مكة، فنادى: يا معشر الأوس، أنا أبو عامر، قالوا: فلا أنعم الله بك عينا يا فاسق -وكان أبو عامر يسمى في الجاهلية: الراهب، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم: الفاسق- فلما سمع ردهم عليه قال: لقد أصاب قومي بعدي شر، ثم قاتلهم قتالاً شديدًا، ثم راضخهم بالحجارة.
وقال أبو سفيان لأصحاب اللواء من بنى عبد الدار يحرضهم على القتال: يا بنى عبد الدار، إنكم قد وليتم لواءنا يوم بدر، فأصابنا ما قد رأيتم، وإنما يؤتى الناس من قبل راياتهم، إذا زالت زالوا، فإما أن تكفونا لواءنا، وإما أن تخلو بيننا وبينه، فنكفيكموه، فهموا به، وتواعدوه، وقالوا: نحن نسلم إليك لواءنا؟ ستعلم غدًا إذ التقينا كيف نصنع! فلما التقى الناس، ودنا بعضهم من بعض، قامت هند بنت عتبة فى النسوة اللاتي معها، وأخذن الدفوف يضربن بها خلف الرجال، ويحرضنهم.
فاقتتل الناس حتى حميت الحرب، وقاتل أبو دجانة حتى أمعن فى الناس، فجعل لا يلقى أحدًا إلا قتله، وكان في المشركين رجل لا يدع جريحًا إلا ذفف عليه، فجعل كل واحد منهما يدنو من صاحبه، فالتقيا، فاختلفا ضربتين، فضرب المشرك أبا دجانة، فاتقاه بدرقته فعضت بسيفه، وضربه أبو دجانة فقتله.
وقال أبو دجانة: رأيت إنسانا يخمش الناس خمشًا شديدًا، فصمدت له، فلما حملت عليه السيف ولول، فإذا امرأة، فأكرمت سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أضرب به امرأة.
وقال وحشي -غلام جبير بن مطعم-: والله إني لأنظر إلى حمزة يهد الناس بسيفه ما يليق به شيئًا، مثل الجمل الأورق، إذ تقدمني إليه سباع بن عبد العزى، فقال له حمزة: هلم إلى يابن مقطعة البظور، فضربه ضربة فما أخطأ رأسه، وهززت حربتي، حتى إذا رضيت منها، دفعتها عليه، فوقعت فى ثنته حتى خرجت من بين رجليه، فأقبل نحوي فغُلب فوقع، وأمهلته حتى إذا مات جئت فأخذت حربتي، ثم تنحيت إلى العسكر، ولم تكن لي بشيء حاجة غيره.
وقاتل مصعب بن عمير دون النبي صلى الله عليه وسلم حتى قتل، وكان الذى قتله ابن قمئة الليثي، وهو يظن أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجع إلى قريش، فقال: قتلت محمدا. فلما قتل مصعب، أعطى النبي صلى الله عليه وسلم اللواء إلى علي بن أبي طالب.
ولما اشتد القتال يوم أحد، جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت راية الأنصار، وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أن قدم الراية، فتقدم علي.
والتقى حنظلة بن أبي عامر الغسيل وأبو سفيان، فلما استعلاه حنظلة بن أبي عامر، رآه شداد بن الأسود ابن شعوب، فضربه شداد فقتله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن صاحبكم لتغسله الملائكة. فسألوا أهله وما شأنه؟ فسئلت صاحبته عنه، فقالت: خرج وهو جنب حين سمع الهاتفة.
ثم أنزل الله نصره على المسلمين، وصدقهم وعده، فحسوهم بالسيوف، حتى كشفوهم عن العسكر، وكانت النصر للمسلمين.
قال الزبير: والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم هند بنت عتبة وصواحبها مشمرات هوارب، ما دون أخذهن قليل ولا كثير، إذ مالت الرماة إلى العسكر، حين كشفنا القوم عنه، وخلوا ظهورنا للخيل، فأتينا من خلفنا، وصرخ صارخ: ألا إن محمدا قد قتل، فانكفأنا وانكفأ علينا القوم، بعد أن أصبنا أصحاب اللواء حتى ما يدنو منه أحد من القوم.
وكاد النصر يتم للمسلمين، لولا أن الرماة على ظهر الجبل خالفوا أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم، وانحدروا يجمعون الغنائم، وفارقوا مكانهم، ففطن خالد بن الوليد لمكان الضعف، فبادر من قناة مع خيل المشركين إلى تطويق المسلمين من أعلى جبل الرماة من الخلف، وانقض مع جيشه يفتك بالمسلمين، وشاع بين الناس أن محمدا قد قتل، فتراجع المسلمون، وأصيب النبي صلّى الله عليه وسلّم بالحجارة، حتى وقع لشقه، فكسرت رباعيته، وشج في رأسه، وجرحت شفته، وسال الدم على وجهه، وغاب حلق المغفر في وجنتيه، وأصيبت ركبتاه، وجعل يمسح الدم، ويقول: «كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم، وهو يدعوهم إلى ربهم؟!» فأنزل الله تعالى: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ)، وأخذ علي بن أبي طالب بيد النبي صلى الله عليه وسلم، ورفعه طلحة حتى قام، ومص مالك بن سنان الدم عن وجهه صلّى الله عليه وسلّم.
ثم أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدعو المسلمين في أخراهم، ويقول: «إليّ عباد الله، أنا رسول الله: (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ، وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ، فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ).
عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش، فلما رهقوه قال: «من يردهم عنا وله الجنة؟ أو هو رفيقي في الجنة؟» فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، ثم رهقوه أيضا فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبيه- أي القرشيين- «ما أنصفنا أصحابنا».
وكان آخر هؤلاء السبعة هو عمارة بن يزيد بن السكن، قاتل حتى أثبتته الجراحة فسقط، وبقي الرسول صلى الله عليه وسلم في القرشيين فقط، ففي الصحيحين عن أبي عثمان قال: لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض تلك الأيام التي يقاتل فيهن غير طلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لسعد: إرم فداك أبي وأمي.
وتترس أبو طلحة مع النبي صلى الله عليه وسلم بترس واحد، وكان رجلا راميا شديد النزع، كسر يومئذ قوسين أو ثلاثا، وكان الرجل يمر معه بجعبة من النبل، فيقول: انثرها لأبي طلحة. وكلما أشرف النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى القوم، يقول أبو طلحة: بأبي أنت وأمي لا تشرف يصيبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك.
وقام أبو دجانة أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فترس عليه بظهره، والنبل يقع عليه وهو لا يتحرك.
وقاتل عبد الرحمن بن عوف حتى أصيب فوه يومئذ فهتم، وجرح عشرين جراحة أو أكثر، أصابه بعضها في رجله فعرج.\
وقاتلت أم عمارة، فاعترضت لابن قمئة في أناس من المسلمين، فضربها ابن قمئة على عاتقها ضربة تركت جرحا أجوف، وضربت هي ابن قمئة عدة ضربات بسيفها، لكن كانت عليه درعان فنجا، وبقيت أم عمارة تقاتل حتى أصابها اثنا عشر جرحا.
وصار أبو سفيان يقول: يا معشر قريش، أيكم قتل محمدا؟ فقال عمر بن قميئة: أنا قتلته. وكان كعب بن مالك أول من بشر بنجاة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقد سلمه الله من أذى المشركين (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)، وكان يوم بلاء شديد على المسلمين، استشهد فيه منهم سبعون رجلاً، وعدة قتلى المشركين اثنان وعشرون رجلاً.
ووجد في ساحة المعركة حمزة سيد الشهداء، وجدوه مبقور البطن، مجدوع الأنف، مصلوم الأذن، فحزن النبي صلّى الله عليه وسلّم لذلك حزنًا شديدًا.
ثم تترس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه بشعب، فبينما هم كذلك إذ علت فرقة من قريش الجبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم إنه لا ينبغى لهم أن يعلونا!" فقاتل عمر بن الخطاب ورهط معه من المهاجرين، حتى أهبطوهم من الجبل. ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صخرة من الجبل ليعلوها، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهر بين درعين، فلما ذهب لينهض صلى الله عليه وسلم لم يستطع، فجلس تحته طلحة بن عبيد الله، فنهض به، حتى استوى عليها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوجب طلحة، حين صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم ما صنع.
ثم إن النبى صلى الله عليه وسلم صلى الظهر يوم أحد قاعدا من الجراح التى أصابته، وصلى المسلمون خلفه قعودا.
ثم إن أبا سفيان بن حرب، حين أراد الانصراف، أشرف على الجبل، ثم صرخ بأعلى صوته: أفيكم محمد؟ فلم يجيبوه. فقال: أفيكم ابن أبي قحافة؟ فلم يجيبوه. فقال: أفيكم عمر بن الخطاب؟ فلم يجيبوه، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم منعهم من الإجابة، ولم يسأل إلا عن هؤلاء الثلاثة لعلمه وعلم قومه أن قيام الإسلام بهم، فقال: أما هؤلاء فقد كفيتموهم، فلم يملك عمر نفسه أن قال: يا عدو الله إن الذين ذكرتهم أحياء، وقد أبقى الله ما يسوءك، فقال: قد كان فيكم مثلة لم آمر بها ولم تسؤني.
ثم قال: أعل هبل. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ألا تجيبونه؟ فقالوا: فما نقول؟ قال: «قولوا: الله أعلى وأجل».
ثم قال: لنا العزى ولا عزى لكم. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ألا تجيبونه؟ قالوا: ما نقول؟ قال: «قولوا: الله مولانا، ولا مولى لكم». ثم قال أبو سفيان: أنعمت فعال، يوم بيوم بدر، والحرب سجال. فأجاب عمر، وقال: لا سواء، قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار. ثم قال أبو سفيان: هلم إلي يا عمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ائته فانظر ما شأنه؟ فجاءه، فقال له أبو سفيان: أنشدك الله يا عمر أقتلنا محمدا؟ قال عمر: اللهم لا، وإنه ليستمع كلامك الآن. قال: أنت أصدق عندي من ابن قمئة وأبر.
ولما انصرف أبو سفيان ومن معه نادى: إن موعدكم بدر العام القابل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل من أصحابه: قل: نعم، هو بيننا وبينك موعد.
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم على بن أبى طالب، فقال: اخرج فى آثار القوم، فانظر ماذا يصنعون وما يريدون؟ فإن كانوا قد جنبوا الخيل، وامتطوا الإبل، فإنهم يريدون مكة، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل، فإنهم يريدون المدينة. والذى نفسى بيده، لئن أرادوها لأسيرن إليهم فيها، ثم لأناجزنهم. قال على: فخرجت فى آثارهم أنظر ماذا يصنعون، فجنبوا الخيل، وامتطوا الإبل، ووجهوا إلى مكة، وفرغ الناس لقتلاهم، وأشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم على الشهداء، فقال: «أنا شهيد على هؤلاء، إنه ما من جريح يجرح في الله إلا والله يبعثه يوم القيامة، يدمي جرحه اللون لون الدم، والريح ريح المسك».
وكان أناس من الصحابة قد نقلوا قتلاهم إلى المدينة، فأمر أن يردوهم فيدفنوهم في مضاجعهم، وألا يغسلوا، وأن يدفنوا كما هم بثيابهم بعد نزع الحديد والجلود، وكان يدفن الاثنين والثلاثة في القبر الواحد، ويجمع بين الرجلين في ثوب واحد، ويقول: أيهم أكثر أخذا للقرآن؟ فإذا أشاروا إلى رجل قدمه في اللحد، وقال: أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة. ودفن عبد الله بن عمرو بن حرام، وعمرو بن الجموح في قبر واحد لما كان بينهما من المحبة.
وكان عمرو بن الجموح رجلاً أعرج شديد العرج، وكان له بنون أربعة مثل الأُسْد، يشهدون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاهد، فلما كان يوم أحد أرادوا حبسه، وقالوا له: إن الله عز وجل قد عذرك، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن بني يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه والخروج معك فيه، فو الله إني لا أرجو أن أطأ بعرجتي هذه فى الجنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أنت فقد عذرك الله، فلا جهاد عليك. وقال لبنيه: ما عليكم ألا تمنعوه، لعل الله أن يرزقه الشهادة، فخرج معه، فقتل يوم أحد.
لما كانت الهزيمة قعد بعض الصحابة بعدما أشيع مقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومر بهؤلاء أنس بن النضر، وقد ألقوا بأيديهم فقال: ما تنتظرون؟ فقالوا: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله، ثم قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء، يعني المسلمين، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء يعني المشركين، ثم تقدم فلقيه سعد بن معاذ، فقال: أين يا أبا عمر؟ فقال أنس: واها لريح الجنة يا سعد، إني أجده دون أحد، ثم مضى فقاتل القوم حتى قتل، فما عرف حتى عرفته أخته -بعد نهاية المعركة- ببنانه، وبه بضع وثمانون ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم.
قال أنس بن مالك رضي الله عنه: فكنا نرى أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه، يعني قوله تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا).
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَمَّا أُصِيبَ إِخْوَانُكُمْ بِأُحُدٍ جَعَلَ اللَّهُ أَرْوَاحَهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ، تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ، تَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا، وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ مُعَلَّقَةٍ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ، فَلَمَّا وَجَدُوا طِيبَ مَأْكَلِهِمْ، وَمَشْرَبِهِمْ، وَمَقِيلِهِمْ، قَالُوا: مَنْ يُبَلِّغُ إِخْوَانَنَا عَنَّا، أَنَّا أَحْيَاءٌ فِي الْجَنَّةِ نُرْزَقُ لِئَلَّا يَزْهَدُوا فِي الْجِهَادِ، وَلَا يَنْكُلُوا عِنْدَ الْحَرْبِ، فَقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: أَنَا أُبَلِّغُهُمْ عَنْكُمْ"، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. رواه أحمد وأبو داود وحسنه الألباني.
ولما فرغ الناس لتفقد القتلى والجرحى، قال زيد بن ثابت: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد أطلب سعد بن الربيع، فقال لي: إن رأيته فأقرئه مني السلام، وقل له: يقول لك رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف تجدك؟ قال: فجعلت أطوف بين القتلى، فأتيته وهو بآخر رمق، وفيه سبعون ضربة، ما بين طعنة برمح وضربة بسيف ورمية بسهم، فقلت: يا سعد إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ عليك السلام، ويقول لك: أخبرني كيف تجدك؟ فقال: وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام، قل له: يا رسول الله أجد ريح الجنة، وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم عين تطرف، وفاضت نفسه من وقته.
ووجدوا في الجرحى الأصيرم -عمرو بن ثابت- وبه رمق يسير، وكانوا من قبل يعرضون عليه الإسلام فيأباه، فقالوا: إن هذا الأصيرم ما جاء به؟ لقد تركناه وإنه لمنكر لهذا الأمر، ثم سألوه: ما الذي جاء بك؟ أحدب على قومك، أم رغبة في الإسلام؟ فقال: بل رغبة في الإسلام، آمنت بالله ورسوله، ثم قاتلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هو من أهل الجنة. قال أبو هريرة: ولم يصل لله صلاة قط.
وكان في القتلى رجل من يهود بني ثعلبة يقال له مخيريق، قال لقومه: يا معشر يهود والله لقد علمتم أن نصر محمد عليكم حق. قالوا: إن اليوم يوم السبت. قال: لا سبت لكم. فأخذ سيفه وعدته، وقال: إن أصبت فمالي لمحمد، يصنع فيه ما شاء، ثم غدا فقاتل حتى قتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مخيريق خير يهود.
وكان منظر الشهداء مريعًا يفتت الأكباد، قال عبد الرحمن بن عوف: قتل مصعب بن عمير وهو خير مني، وكفن في بردة إن غطي رأسه بدت رجلاه، وإن غطي رجلاه بدا رأسه، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «غطوا بها رأسه واجعلوا على رجله الإذخر».
وروى الإمام أحمد: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَانْكَفَأَ الْمُشْرِكُونَ، قَالَ: رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَوُوا حَتَّى أُثْنِيَ عَلَى رَبِّي، فَصَارُوا خَلْفَهُ صُفُوفًا، فَقَالَ: "اللهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ، اللهُمَّ لَا قَابِضَ لِمَا بَسَطْتَ، وَلَا بَاسِطَ لِمَا قَبَضْتَ، وَلَا هَادِيَ لِمَا أَضْلَلْتَ، وَلَا مُضِلَّ لِمَنْ هَدَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُقَرِّبَ لِمَا بَاعَدْتَ، وَلَا مُبَاعِدَ لِمَا قَرَّبْتَ، اللهُمَّ ابْسُطْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِكَ وَرَحْمَتِكَ وَفَضْلِكَ وَرِزْقِكَ، اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ النَّعِيمَ الْمُقِيمَ الَّذِي لَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ، اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ النَّعِيمَ يَوْمَ الْعَيْلَةِ وَالْأَمْنَ يَوْمَ الْخَوْفِ، اللهُمَّ إِنِّي عَائِذٌ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا أَعْطَيْتَنَا وَشَرِّ مَا مَنَعْتَ، اللهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْإِيمَانَ وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا، وَكَرِّهْ إِلَيْنَا الْكُفْرَ، وَالْفُسُوقَ، وَالْعِصْيَانَ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ، اللهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، وَأَحْيِنَا مُسْلِمِينَ، وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ غَيْرَ خَزَايَا وَلَا مَفْتُونِينَ، اللهُمَّ قَاتِلِ الْكَفَرَةَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ رُسُلَكَ، وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِكَ، وَاجْعَلْ عَلَيْهِمْ رِجْزَكَ وَعَذَابَكَ، اللهُمَّ قَاتِلِ الْكَفَرَةَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَهَ الْحَقِّ".
أسباب الهزيمة وأهم الدروس
للنصر أسباب وللهزيمة أسباب، والمؤمن المتبصر هو الذي يدرك ما يجب عليه الحالين، وقد جاء في القرآن أسباب هزيمة المسلمين في غزوة أحد، للرد على المنافقين المشككين في نبوة الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
قال محمد بن كعب القرظي: لما رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة، وقد أصيبوا بما أصيبوا يوم أحد، قال ناس من أصحابه: من أين أصابنا هذا، وقد وعدنا الله النصر؟ فأنزل الله تعالى: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ).
أقسم الله تعالى في هذه الآية أنه قد نصر المؤمنين أولا في بداية أمر المعركة وقت أن أخذوا يقتلون المشركين قتلا، ويفتكون بهم فتكا، ولكنهم لما طمعوا في الغنائم وانقسموا فريقين: فريق الرماة فوق الجبل تركوا أماكنهم حينما رأوا انهزام المشركين، وفريق ثبت مكانه وقالوا: لا نخالف أمر الرسول أبدا، وهم القائد عبد الله بن جبير مع نفر قليل من أصحابه، والفريق الأول وهم الرماة هم الذين أرادوا الدنيا وتركوا أماكنهم طلبا للغنيمة، والفريق الثاني هم الذين أرادوا الآخرة وثبتوا في مكانهم ولم يخالفوا أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ثم تحول النصر إلى هزيمة، وعفا الله عن المخالفين، وصرف المؤمنين عن المشركين ليمتحن إيمانهم ويظهر الصادقون من المنافقين، وتاب الله بفضله العظيم على المؤمنين.
ثم ذكّر الله المؤمنين حيث انهزموا ولم يلتفتوا إلى ما وراءهم، والحال أن الرسول يدعوهم لمناصرته قائلا: «إلي عباد الله، إلي عباد الله، أنا رسول الله، من يكر فله الجنة».
فقال تعالى: (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ)، أي إن الله جازاكم على صنيعكم، وألقى عليكم الغم والحزن بسبب الغم الذي أدخلتموه على الرسول وسائر المؤمنين بعصيانكم أمره ورأيه، وما فعل بكم ذلك إلا ليمرنكم ويدربكم على الشدائد، ولئلا تحزنوا على شيء فات، ولا ما أصابكم من عدوكم، والله خبير بأعمالكم ومجازيكم عليها.
ثم بيّن الله فضله على المؤمنين الصادقين الملتفين حول الرسول بإلقاء النعاس عليهم، وكشف زيف المنافقين الذين لا يثقون بنصر الله، قائلين: لن يأتي النصر لنا، وإن محمدا ليس نبيا، إذ لو كان نبيا ما هزم، رابطين بين النبوة والنصر، ومضمرين الحقد والعداوة لبقية المؤمنين، فرد الله عليهم بأن النصر من عند الله، والأمر كله لله، فقال سبحانه: (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ). فالنصر من عند الله، وهذا رد على المنافقين القائلين: هل لنا من الأمر والنصر نصيب، ولو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا، أي إن الخروج للقتال خطأ، ولو لم يخرج المسلمون لم يقتل أحد.
ثم بين الله تعالى أن الذين تركوا أماكنهم أو انهزموا إنما أوقعهم الشيطان في هذا الخطأ بسبب أفعالهم وذنوبهم السابقة، ولكن عفا الله عنهم لما تابوا، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ). أي إن الله غفور للذنوب حليم لا يعجل بالعقوبة.
لقد كان انهزام المسلمين في أحد بسبب الحرص على والغنائم، ومخالفة أوامر الرسول صلّى الله عليه وسلّم، والإصغاء لوساوس الشيطان، واقتراف الخطايا والذنوب، وإن الاستفادة من دروس الهزيمة أهم من فوائد النصر والغلبة، فلا يمكن تحقيق النصر إلا بتجنب وسائل الضعف والهزيمة، والله برحمته ينبّه هؤلاء المخطئين كيلا يقعوا في الخطأ المماثل إلى الأبد.
قال تعالى: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ . وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: قَالَ الْعُلَمَاءُ وَكَانَ فِي قِصَّةِ أُحُدٍ وَمَا أُصِيبَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ فِيهَا مِنَ الْفَوَائِدِ وَالْحِكَمِ الرَّبَّانِيَّةِ أَشْيَاءٌ عَظِيمَةٌ مِنْهَا: تَعْرِيفُ الْمُسْلِمِينَ سُوءَ عَاقِبَةِ الْمَعْصِيَةِ وَشُؤْمِ ارْتِكَابِ النَّهْيِ لِمَا وَقَعَ مِنْ تَرْكِ الرُّمَاةِ مَوْقِفَهُمُ الَّذِي أَمَرَهُمُ الرَّسُولُ أَنْ لَا يَبْرَحُوا مِنْهُ.
وَمِنْهَا أَنَّ عَادَةَ الرُّسُلِ أَنْ تُبْتَلَى وَتَكُونَ لَهَا الْعَاقِبَةُ، وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَوِ انْتَصَرُوا دَائِمًا دَخَلَ فِي الْمُؤْمِنِينَ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ وَلَمْ يَتَمَيَّزِ الصَّادِقُ مِنْ غَيْرِهِ وَلَوِ انْكَسَرُوا دَائِمًا لَمْ يَحْصُلِ الْمَقْصُودُ مِنَ الْبَعْثَةِ فَاقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ لِتَمْيِيزِ الصَّادِقِ مِنَ الْكَاذِبِ وَذَلِكَ أَنَّ نِفَاقَ الْمُنَافِقِينَ كَانَ مَخْفِيًّا عَنِ الْمُسْلِمِينَ فَلَمَّا جَرَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ وَأَظْهَرَ أَهْلُ النِّفَاقِ مَا أَظْهَرُوهُ مِنَ الْفِعْلِ وَالْقَوْلِ عَادَ التَّلْوِيحُ تَصْرِيحًا وَعَرَفَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ لَهُمْ عَدُوًّا فِي دُورِهِمْ فَاسْتَعَدُّوا لَهُمْ وَتَحَرَّزُوا مِنْهُمْ.
وَمِنْهَا أَنَّ فِي تَأْخِيرِ النَّصْرِ فِي بَعْضِ الْمَوَاطِنِ هَضْمًا لِلنَّفْسِ وَكَسْرًا لِشَمَاخَتِهَا فَلَمَّا ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ صَبَرُوا وَجَزِعَ الْمُنَافِقُونَ.
وَمِنْهَا أَنَّ اللَّهَ هَيَّأَ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ مَنَازِلَ فِي دَارِ كَرَامَتِهِ لَا تَبْلُغُهَا أَعْمَالُهُمْ فَقَيَّضَ لَهُمْ أَسْبَابَ الِابْتِلَاءِ وَالْمِحَنِ لِيَصِلُوا إِلَيْهَا.
وَمِنْهَا أَنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ أَعْلَى مَرَاتِبِ الْأَوْلِيَاءِ فَسَاقَهَا إِلَيْهِمْ.
وَمِنْهَا أَنَّهُ أَرَادَ إِهْلَاكَ أَعْدَائِهِ فَقَيَّضَ لَهُمُ الْأَسْبَابَ الَّتِي يَسْتَوْجِبُونَ بِهَا ذَلِكَ مِنْ كُفْرِهِمْ وَبَغْيِهِمْ وَطُغْيَانِهِمْ فِي أَذَى أَوْلِيَائِهِ فَمَحَّصَ بِذَلِكَ ذُنُوبَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَحَقَ بِذَلِكَ الْكَافِرِينَ. انتهى من فتح الباري بتصرف يسير.
ومن ذلك: أهمية الشورى، والأخذ بالأسباب، والتخطيط الجيد وصف الجنود، وتوزيع المهام، ووعظ الجيش.
ومن ذلك: بيان فضل الصحابة، فمن مات منهم كان شهيدًا ومن عاش منهم وعده الله بالنصر
مع تحيات
اللجنة العلمية لملتقى الخطيب المؤثر أسد المنابر