الخميس ، ١٩ جمادى الأول ، ١٤٤٦ هجري | 21 نوفمبر 2024 ميلادي
خلوا بيني وبين ربي
وصف الخطبة : -

الحث على اغتنامها بالأعمال الصالحة، وبيان أحكام الاعتكاف، وزكاة الفطر، وفضل ليلة القدر.


سلسلة الخطب المقترحة رقم (( 457 ))

الخطبة الثالثة من شهر رمضان 1445 هـ

بعنوان : (( خلوا بيني وبين ربي ))...................

الغرض من الخطبة: الحث على اغتنامها بالأعمال الصالحة، وبيان أحكام الاعتكاف، وزكاة الفطر، وفضل ليلة القدر.

عناصر الخطبة:

1- أقبلت العشر الأواخر.

2- مشروعية الاعتكاف وأحكامه.

3- فضل ليلة القدر.

4- أحكام زكاة الفطر.

المقدمة: أما بعد، قال الله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ}.

بين يدي الخطبة:

أقبلت العشر الأواخر

إن هذه العشر الأواخر من رمضان هي أفضل أيام شهر رمضان، ولهذا كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخصها بمزيد عناية واجتهاد مختلف عن سائر العام، فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيره. رَوَاهُ مُسلم، وعنها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ وَأَحْيَا ليله وَأَيْقَظَ أَهله. متفق عليه.

فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينفك عن الأعمال الصالحة في كل أوقاته، من صلاة، وصدقة، وصيام، وقيام، وجهاد، وتلاوة للقرآن، ودعاء، وذكر لله تعالى، ودعوة إلى الله سبحانه، وتعليم للناس، وأمر بمعروف، ونهي عن منكر، وإحسان إلى الخلق جميعًا، وغيرها من أنواع العبادات، فكيف باجتهاده في هذه العشر؟!

فكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلمَ إذا أقبلت العشر أنه يشد المئزر، وهو كناية عن الاجتهاد في الطاعة وعلو الهمة في الإقبال عليها وحسن أدائها، أو هو كناية عن اعتزال النساء وترك الجماع، وكلا المعنيين صحيح، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يعتكف كل عام، والجماع من مبطلات الاعتكاف، فكان النبي صلى الله عليه وسلمَ يعتزل أهله ما دام معتكِفًا –هذا من جهة-، ومن جهة أخرى لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يجتهد في الطاعة في تلك العشر، كما في حديث عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عند مسلم أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان «إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ، أَحْيَا اللَّيْلَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَجَدَّ وَشَدَّ الْمِئْزَرَ»، فقولها: في الحديث المتقدم: "يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ"، وقولها هنا: "وَجَدَّ"، يدلان على اجتهاده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في العشر الأواخر.

ومن اجتهاده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تلك العشر ما بينته أُمُنَّا عائشةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا من أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يحيي ليله، أي بالصلاة، وتلاوة القرآن، والدعاء، والذكر، وغيرها من الطاعات.

ومن ذلك أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن يقتصر في الأمر على نفسه الطيبة بل كان يوقظ أهله للعبادة، ولينالوا نصيبًا من الخير في تلك الليالي المباركة، فهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خير الناس لأهله، و«خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ». أخرجه الترمذي وصححه الألباني، وهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خير راعٍ لأهله وأمته و"كلُّكُمْ راعٍ وكلكُمْ مسؤولٌ عَن رعيتِه". متفق عليه.

قال الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله: كان النبي صلى الله عليه وسلم يوقظ أهله للصلاة في ليالي العشر دون غيره من الليالي، وفي حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قام بهم ليلة ثلاث وعشرين وخمس وعشرين ذكر أنه دعا أهله ونساءه ليلة سبع وعشرين خاصة، وهذا يدل على انه يتأكد إيقاظهم في آكد الأوتار التي ترجى فيها ليلة القدر، وخَرَّجَ الطبرانيُّ من حديث عليٍّ: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يوقظُ أهله في العشر الأواخر من رمضان، وكلّ صغير وكبير يطيق الصلاة. قال سفيان الثوري: أَحَبُّ إليَّ إذا دَخَلَ العشرُ الأواخرُ أن يتهجدَ بالليل، ويجتهدَ فيه، وينهض أهله وولده إلى الصلاة إن أطاقوا ذلك، وقد صَحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يطرق فاطمةَ وعليًا ليلاً فيقولُ لهما: "ألا تقومان فتصليان"، وكان يوقظ عائشةَ بالليل إذا قضى تهجده وأراد أن يوتر، وورد الترغيب في إيقاظ أحد الزوجين صاحبه للصلاة، ونضح الماء في وجهه، وفي الموطأ أن عمر بن الخطاب كان يصلي من الليل ما شاء الله أن يصلي حتى إذا كان نصف الليل أيقظ أهله للصلاة، يقول لهم: الصلاة الصلاة، ويتلو هذه الآية: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132] الآية. انتهى من لطائف المعارف.

اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ مُضَاعَفَةِ الْجَهْدِ فِي الطَّاعَاتِ فِي الْعَشْرِ الأْوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، بِالْقِيَامِ فِي لَيَالِيهَا، وَالإْكْثَارِ مِنَ الصَّدَقَاتِ، وَتِلاَوَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَمُدَارَسَتِهِ، بِأَنْ يُقْرَأَ عَلَيْهِ، أَوْ يَقْرَأَ هُوَ عَلَى غَيْرِهِ، وَزِيَادَةِ فِعْل الْمَعْرُوفِ وَعَمَل الْخَيْرِ، وَذَلِكَ تَأَسِّيًا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِمَا رُوِيَ عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَل الْعَشْرُ أَحْيَا اللَّيْل، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَجَدَّ وَشَدَّ الْمِئْزَرَ"، وَفِي رِوَايَةٍ: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الأْوَاخِرِ مَا لاَ يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ". قَال الْعُلَمَاءُ: وَيُسْتَحَبُّ لِلرَّجُل أَنْ يُوَسِّعَ عَلَى عِيَالِهِ، وَأَنْ يُحْسِنَ إِلَى أَرْحَامِهِ وَإِلَى جِيرَانِهِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَلاَ سِيَّمَا فِي الْعَشْرِ الأْوَاخِرِ مِنْهُ. انتهى من الموسوعة الفقهية الكويتية.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخصها بالاعتكاف طلبًا لليلة القدر، وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بعده. متفق عليه.

مشروعية الاعتكاف وأحكامه

كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلمَ في العشر الأواخر من رمضان: الاجتهاد في الطاعة، ومنه الاعتكاف في المساجد:

والاعتكاف هو لزوم المسلم المميز مسجداً لطاعة الله عز وجل، وهو سنة وقربة إلى الله تعالى؛ قال تعالى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125]، وهذه الآية دليل على مشروعيته حتى في الأمم السابقة، وقال تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]، وعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بعده. متفق عليه.

وأجمع المسلمون على مشروعيته، وأنه سنة، لا يجب على المرء إلا أن يوجبه على نفسه كأن ينذره.

والاعتكاف عبادة لها شروط لا تصح إلا بها، وهي:

أن يكون المعتكف مسلمًا مميزًا عاقلاً: فلا يصح الاعتكاف من الكافر، ولا المجنون، ولا الصبي غير المميز؛ أما البلوغ والذكورية فلا يشترطان، فيصح الاعتكاف من غير البالغ إذا كان مميزًا، وكذلك من الأنثى.

النية: لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنما الأعمال بالنيات". متفق عليه. فينوي المعتكف لزوم معتكفه؛ قربةً وتعبدًا لله.

أن يكون الاعتكاف في مسجد: لقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]. ولفعله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث كان يعتكف في المسجد، ولم ينقل عنه أنه اعتكف في غيره.

أن يكون المسجد الذي يعتكف فيه تقام فيه صلاة الجماعة: وذلك إذا كانت مدة الاعتكاف تتخللها صلاة مفروضة، وكان المعتكف ممن تجب عليه الجماعة، لأن الاعتكاف في مسجد لا تقام فيه صلاة الجماعة يقتضي ترك الجماعة وفوات أجرها أو وجوبها –على القول به-، أو تكرار خروج المعتكف كل وقت لها، وهذا ينافي المقصود من الاعتكاف، أما المرأة فيصح اعتكافها في كل مسجد سواء أقيمت فيه الجماعة أم لا. هذا إذا لم يترتب على اعتكافها فتنة، فإن ترتب على ذلك فتنة منعت منه. والأفضل أن يكون المسجد الذي يعتكف فيه تقام فيه الجمعة، لكن ذلك ليس شرطًا للاعتكاف.

الطهارة من الحدث الأكبر: فلا يصح اعتكاف الجنب، ولا الحائض، ولا النفساء؛ لعدم جواز مكث هؤلاء في المسجد.

والصيام ليس شرطًا في الاعتكاف؛ لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر قال: يا رسول الله، إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، فقال: "أوف بنذرك". أخرجه البخاري ومسلم. فلو كان الصوم شرطاً لما صح اعتكافه في الليل، لأنه لا صيام فيه. ولأنهما عبادتان منفصلتان، فلا يشترط لإحداهما وجود الأخرى.

هذا ويصح الاعتكاف بالمكث في المسجد مقدارًا من الزمن ولو كان يسيرًا، إلا أن الأفضل ألا يقل الاعتكاف عن يوم أو ليلة؛ لأنه لم ينقل عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا عن أحد من أصحابه الاعتكاف أقل من ذلك.

وأفضل أوقات الاعتكاف العشر الأواخر من رمضان؛ لحديث عائشة رضي الله عنها السابق: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بعده. متفق عليه.

جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية: اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الاِعْتِكَافَ يَتَأَكَّدُ اسْتِحْبَابُهُ فِي الْعَشْرِ الأْوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ يُرِيدُ الاِعْتِكَافَ فِي الْعَشْرِ الأْوَاخِرِ أَنْ يَدْخُل الْمَسْجِدَ قَبْل غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ لَيْلَةِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ، ثُمَّ يَبِيتَ لَيْلَةَ الْعِيدِ فَيَغْدُوَ كَمَا هُوَ إِلَى مُصَلَّى الْعِيدِ، لِفِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَال إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: كَانُوا يُحِبُّونَ لِمَنِ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الأْوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ أَنْ يَبِيتَ لَيْلَةَ الْفِطْرِ فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ يَغْدُوَ إِلَى الْمُصَلَّى مِنَ الْمَسْجِدِ، لِئَلاَّ يَفُوتَهُ شَيْءٌ مِنَ الْعَشْرِ الأْوَاخِرِ، تَمَّ الشَّهْرُ أَوْ نَقَصَ، وَلِمَا ثَبَتَ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الأْوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ؛ وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعِي فَلْيَعْتَكِفِ الْعَشْرَ الأْوَاخِرَ. انتهى.

إن الاعتكاف عبادة يخلو فيها العبد بخالقه، ويقطع العلائق عما سواه، فيستحب للمعتكف أن يتفرغ للعبادة، فيكثر من الصلاة، والذكر، والدعاء، وقراءة القرآن، والتوبة، والاستغفار، ونحو ذلك من الطاعات التي تقربه إلى الله تعالى.

ويباح للمعتكف الخروج من المسجد لما لابد منه؛ كالخروج للأكل والشرب، إذا لم يكن له من يحضرهما، والخروج لقضاء الحاجة، والوضوء من الحدث، والاغتسال من الجنابة.

ويبطل الاعتكاف بالخروج من المسجد لغير حاجة عمداً، وإن قلَّ وقت الخروج؛ لحديث عائشة رضي الله عنها: "وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة، إذا كان معتكفاً". أخرجه البخاري، ولأن الخروج يفوت المكث في المعتكف، وهو ركن الاعتكاف.

ويبطل بالجماع، ولو كان ذلك ليلاً، أو كان الجماع خارج المسجد؛ لقوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]. ويبطل بما في حكمه من الإنزال بشهوة بدون جماع كالاستمناء، ومباشرة الزوجة في غير الفرج.

ويبطل بذهاب العقل، فيفسد الاعتكاف بالجنون والسكر، لخروج المجنون والسكران عن كونهما من أهل العبادة.

ويبطل بالحيض والنفاس؛ لعدم جواز مكث الحائض والنفساء في المسجد.

ويبطل بالردة عياذًا بالله؛ لمنافاتها العبادة، ولقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65].

فضل ليلة القدر

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوَّلَ مِنْ رَمَضَانَ ثُمَّ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ فِي قُبَّةٍ تُرْكِيَّةٍ ثُمَّ أَطْلَعَ رَأسه، فَقَالَ: «إِنِّي اعتكفت الْعشْر الأول ألتمس هَذِه اللَّيْلَة ثمَّ اعتكفت الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ ثُمَّ أُتِيتُ فَقِيلَ لِي إِنَّهَا فِي الْعشْر الْأَوَاخِر فَمن اعْتَكَفْ مَعِي فَلْيَعْتَكِفِ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ فَقَدْ أُرِيتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ ثُمَّ أُنْسِيتُهَا وَقَدْ رَأَيْتُنِي أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ مِنْ صَبِيحَتِهَا فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ وَالْتَمِسُوهَا فِي كُلِّ وِتْرٍ». قَالَ: فَمَطَرَتِ السَّمَاءُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَكَانَ الْمَسْجِدُ عَلَى عَرِيشٍ، فَوَكَفَ الْمَسْجِدُ، فَبَصُرَتْ عَيْنَايَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى جَبْهَتِهِ أَثَرُ المَاء والطين وَالْمَاء مِنْ صَبِيحَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي الْمَعْنَى، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ إِلَى قَوْلِهِ: "فَقِيلَ لِي: إِنَّهَا فِي الْعشْر الْأَوَاخِر" وَبَقِيته للْبُخَارِيّ.

فاعتكف النبي صَلى الله عليه وسلم العشر الأول واعتكف العشر الأوسط واعتكف العشر الأواخر التماسًا وتحريًا لليلة القدر، ثم واظب على ذلك حتى توفاه الله، كل هذا التماسًا لليلة القدر ثم أخبر أنها في العشر الأواخر، وأمر بتحريها في العشر الأواخر، فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «تَحَرَّوْا لَيْلَةَ القَدْرِ فِي الوِتْرِ، مِنَ العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ». رَوَاهُ البُخَارِيّ ومسلم، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ: فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى فِي سَابِعَةٍ تَبْقَى فِي خَامِسَةٍ تَبْقَى». رَوَاهُ البُخَارِيّ.

فمن تأمل في حرص رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الاجتهاد في هذه الليالي التماسًا لتلك الليلة، علم عظم قدرها وعلو شأنها، وعظيم أجرها وفضلها، فاحرص عبد الله على أخذ حظك منها، والتزود من الطاعات فيها، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، اخلُ بربك في المسجد، واعكف على المصحف وقراءته، ومداومة النظر فيه، صم النهار، وقم الليل، استغفر في أوقات السحر، واجتهد في الدعاء، وشمر عن ساعد الجد في تلك الليالي.

قال السعدي رحمه الله: سميت ليلة القدر، لعظم قدرها وفضلها عند الله، ولأنه يقدر فيها ما يكون في العام من الأجل والأرزاق والمقادير القدرية. انتهى من تفسيره؛ فهي ليلة عظيمة القدر والفضل والأجر، ومن فضلها وعظيم قدرها:

أنزل الله تعالى فيها القرآن: قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185]، هذا شهر النزول؛ وقال سبحانه: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 3]، وهذه ليلة النزول، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: نزل القرآن إلى بيت العزة في السماء الدنيا جملة واحدة، ثم نزل أنجماً حسب الحوادث . وهذا حديث موقوف له حكم الرفع، لأن هذا لا يقال من قبل الرأي، قال الألباني رحمه الله: فهذا حديث موقوف، ولم نجده مرفوعاً إطلاقاً، جاء بالسند الصحيح عن ابن عباس موقوفاً عليه، فقال العلماء: إن هذا الحديث في حكم المرفوع؛ لأنه يتحدث عن أمر غيبي.

ليلة عظيمة الشأن، قال تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} [القدر: 2]؛ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلمَ، أي إن شأنها عظيم جليل.

ليلة خير من ألف شهر، قال تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3]، ولا تحد بـ (83.3 سنة) بل هي أفضل وأعظم، وقد يكون المراد من الآية المبالغة في عظيم أجرها وفضلها، فيكون مفهوم العدد غير مراد، فهي زمان فاضل من خيرة الأزمان، وثبت في الحديث أن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِتِّينَ إِلَى السَبْعِينَ وَأَقَلُّهُمْ مَنْ يَجُوزُ ذَلِكَ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وحسنه الألباني، فأعمارنا قصيرة، ولكن بها أزمان فاضلة كثيرة.

تنزل الملائكة وجبريل عليهم السلام فيها إلى الأرض، قال تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} [القدر: 4].

سالمة من كل آفة وداء وشر وسوء، من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، قال تعالى: {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 5].

ليلة مباركة: قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان: 3]، أي: كثيرة الخير والبركة.

فيها يفصل الله في الأرزاق والآجال والأقدار، قال تعالى: {فيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4].

من قامها إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه: فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ». متفق عليه.

لا يحرم خيرها إلا محروم: فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَاكُمْ رَمَضَانُ شَهْرٌ مُبَارَكٌ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ لِلَّهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وصححه الألباني، وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه قَالَ: دَخَلَ رَمَضَانُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ هَذَا الشَّهْرَ قَدْ حَضَرَكُمْ وَفِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مَنْ أَلْفِ شَهْرٍ مَنْ حُرِمَهَا فَقَدْ حُرِمَ الْخَيْرَ كُلَّهُ وَلَا يُحْرَمُ خَيْرَهَا إِلَّا كل محروم». رَوَاهُ ابْن مَاجَه وحسنه الألباني.

ومما يشرع للعبد فعله في ليلة القدر:

الالتماس والتحري: فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ: فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى فِي سَابِعَةٍ تَبْقَى فِي خَامِسَةٍ تَبْقَى». رَوَاهُ البُخَارِيّ، وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ من رَمَضَان». رَوَاهُ البُخَارِيّ.

قال النووي رحمه الله: وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهَا لَيْلَةً مُبْهَمَةً مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَأَرْجَاهَا أَوْتَارُهَا، وَأَرْجَاهَا لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَأَكْثَرُهُمْ أَنَّهَا لَيْلَةٌ مُعَيَّنَةٌ لَا تَنْتَقِلُ. وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ: إِنَّهَا تَنْتَقِلُ فَتَكُونُ فِي سَنَةٍ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَفِي سَنَةٍ لَيْلَةَ ثَلَاثٍ، وَسَنَةٍ لَيْلَةَ إِحْدَى، وَلَيْلَةً أُخْرَى، وَهَذَا أَظْهَرُ، وَفِيهِ جَمْعٌ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ الْمُخْتَلِفَةِ فِيهَا. انتهى.

قيامها لفضلها السابق.

الدعاء فيها: فعن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أنها قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيُّ لَيْلَةٍ الْقَدْرِ مَا أَقُولُ فِيهَا؟ قَالَ: «قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعَفُ عَنِّي». رَوَاهُ أَحْمد وَابْن مَاجَه وَالتِّرْمِذِيّ وَصَححهُ الألباني.

ومن علاماتها:

أنها ليلة طلقة سمحة لا حارة ولا باردة، فعن جابر بن عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي كُنْتُ أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، ثُمَّ نُسِّيتُهَا، وَهِيَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، وَهِيَ طَلْقَةٌ بَلْجَةٌ لَا حَارَّةٌ وَلَا بَارِدَةٌ، كَأَنَّ فِيهَا قَمَرًا يَفْضَحُ كَوَاكِبَهَا لَا يَخْرُجُ شَيْطَانُهَا حَتَّى يَخْرُجَ فَجْرُهَا». رواه ابن حبان وصححه الألباني لغيره. قوله: "طلقة" أي: لم يكن فيها حرٌّ ولا بردٌ يؤذيان، و"بَلْجَة" أي: مشرقة. كما في النهاية في غريب الحديث والأثر.

تخرج الشمس صبيحتها بيضاء لا شعاع لها: فعن أبي بن كعب في علامتها: إِنَّهَا تَطْلُعُ يَوْمَئِذٍ لَا شُعَاعَ لَهَا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

أو حمراء ضعيفة لا حارة ولا باردة: فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ: «لَيْلَةٌ سَمْحَةٌ طَلْقَةٌ، لَا حَارَّةٌ، وَلَا بَارِدَةٌ، تُصْبِحُ شَمْسُهَا صَبِيحَتَهَا ضَعِيفَةً حَمْرَاءَ». أخرجه الطيالسي وَصَححهُ الألباني.

وقيل من علامتها: حصول السكينة لنزول الملائكة، وكثرة سماع صياح الديكة لأنها ترى مَلكًا، وقلة نباح الكلاب ونهيق الحمير لأنها ترى شيطانًا، ونزول المطر حيث نزل صبيحة ليلتها في زمن النبي صلى الله عليه وسلمَ، إن لم يكن وقع اتفاقًا، والرؤيا الصالحة بأنها ليلة كذا، لا سيما إذا تواطأت الرؤى، كما حصل مع الصحابة رضي الله عنهم، وعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِّي كُنْتُ أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ ثُمَّ نُسِّيتُها وَهِيَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ وَهِيَ طَلْقَةٌ بَلْجَةٌ لَا حَارَّةٌ وَلَا بَارِدَةٌ كَأَنَّ فِيهَا قَمَرًا يَفْضَحُ كَوَاكِبَهَا لَا يَخْرُجُ شَيْطَانُهَا حَتَّى يَخْرُجَ فجرها". رواه ابن خزيمة وابن حبان صحيحيهما، وصححه الألباني لغيره.

وعلى كل حال فهذه علامات يستأنس بها، ولا تمنع العبد من القيام بطاعة ربه والتلذذ بمناجاته وعبادته.

أحكام زكاة الفطر

قد شرع الله تعالى لنا في رمضان كثيرا من العبادات من الصلاة والصيام والصدقة والعمرة وقراءة القرآن والدعاء والذكر والاعتكاف وقيام الليل وغير ذلك من أبواب البر، ومما شرع الله سبحانه وتعالى فعله في آخر هذا الشهر: صدقة الفطر، فرضها الله تعالى طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، فشرع الله جل وعلا لنا ما يَطهر به صومنا مما قد يشوبه من اللغو أو الرفث؛ وما ينجبر به النقص أو التقصير؛ ليوفي لنا الأجر، وهي طعمة للمساكين، إنعامًا من الله تعالى عليهم، فيفرحون ولا يبأسون، ويأكلون ولا يسألون حال فرح الناس يوم العيد فيفرح كل المسلمين معًا، ولله الحمد والفضل والمنة.

عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أنه قَالَ: فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَ الصِّيَامِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وصححه الألباني.

وتجب زكاة الفطر على كل مسلم من ذكر أو أنثى، صغير أو كبير، حر أو عبد؛ ويجب أن يُخرجها المسلم عن نفسه، وعمن تلزمه نفقته، من زوجة أو قريب، كما يستحب إخراجها عن الجنين، ولا تجب على من لا يملك قوت من تلزمه نفقته يوم العيد وليلته أو قيمته.

ومقدار الواجب في زكاة الفطر هو صاع من غالب قوت أهل البلد من قمح، أو شعير، أو تمر، أو أرز أو نحو ذلك؛ فعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أنه قَالَ: فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاس إِلَى الصَّلَاة. متفق عليه.

وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أنه قَالَ: «كُنَّا نُخْرِجُ إِذْ كَانَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ، عَنْ كُلِّ صَغِيرٍ، وَكَبِيرٍ، حُرٍّ أَوْ مَمْلُوكٍ، صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ» فَلَمْ نَزَلْ نُخْرِجُهُ حَتَّى قَدِمَ عَلَيْنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ حَاجًّا، أَوْ مُعْتَمِرًا فَكَلَّمَ النَّاسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَكَانَ فِيمَا كَلَّمَ بِهِ النَّاسَ أَنْ قَالَ: «إِنِّي أَرَى أَنَّ مُدَّيْنِ مِنْ سَمْرَاءِ الشَّامِ، تَعْدِلُ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ»، فَأَخَذَ النَّاسُ بِذَلِكَ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: «فَأَمَّا أَنَا فَلَا أَزَالُ أُخْرِجُهُ كَمَا كُنْتُ أُخْرِجُهُ، أَبَدًا مَا عِشْتُ». رواه مسلم.

والصاع هو مكيال يعادل أربع حفنات بكفي رجل معتدل الخلقة، والصاع المقصود هو صاع النبي صلى الله عليه وسلم.

ويجوز أن تعطي الجماعة زكاة فطرها لشخص واحد، وأن يعطي الواحد زكاته لجماعة.

وصدقة الفطر من الأمور التي تدخلها النيابة والوكالة، فيصح أن يعطي الزكاة طعمة لمن يوصلها لمستحقها، كما يصح أن يعطيه من النقود ما يكفي لشراء صدقة فطره من الأطعمة ثم يوصلها لمستحقها.

وقد كان الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمعون زكاة الفطر في المسجد، كما في قصة حفظ أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لها، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه قَالَ: وَكَّلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ فَأَتَانِي آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو من الطَّعَام.. الحديث، وفي آخره قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أما إِنَّه قد صدقك وَهُوَ كذوب». رَوَاهُ البُخَارِيّ.

وتستحب الصدقة عموما وفي رمضان خصوصًا، فيستحب للمسلم أن يتصدق بما شاء زيادة عن صدقة الفطر الواجبة من مال وثياب وطعام وشراب، ولو أن المسلم أخرج طعام صدقة فطره وزاد معها ما تيسر من النقود أو الكسوة لكان حسنًا، لا سيما مع غلاء الأسعار واحتياج الناس للطعام وضَعْفِ القيمة الشرائية للنقود، فالأقوات أوجب وأولى وأنفع وأبقى من غيرها من النقود والثياب.

ويجوز للواحد أن يتبرع ويخرج صدقة الفطر عن غيره إذا أذنوا له أو رضوا بذلك، كما لو أخرجها الوالد عن أولاده القادرين.

هذا وتجب زكاة الفطر بغروب شمس آخر يوم من رمضان، وأول ليلة من شوال (ليلة عيد الفطر)، والأفضل أن تخرج مع خروج الناس لصلاة العيد، ولا بأس أن تخرج قبل العيد بيوم أو يومين.

فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أنه قَالَ: «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ، مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ». رواه أبو داود وحسنه الألباني.

ومصرف زكاة الفطر هو الفقراء والمساكين فقط من بين مصارف الزكاة الثمانية؛ حيث فرضها رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طُعْمَة لِلْمَسَاكِينِ، فيخرج المسلم صدقة فطره للفقراء والمساكين ممن لا تلزمه نفقتهم، أما من تلزمه نفقتهم فإنه يكفيهم من غير الزكاة الواجبة.

ويجب على من لم يخرج زكاة الفطر -مع قدرته على إخراجها- أن يتوب إلى الله عز وجل ويستغفره؛ لأنه آثم بمنعها، وعليه أن يقوم بإخراجها إلى المستحقين، وتعتبر بعد صلاة العيد صدقة من الصدقات .

مع تحيات

اللجنة العلمية لملتقى الخطيب المؤثر أسد المنابر