التذكير بتحويل القبلة، وبيان بعض الدروس المستفادة منها.
سلسلة الخطب المقترحة رقم ((542))
الخطبة الثانية من شعبان لعام 1445 هـ
عنوان الخطبة ((تحويل القبلة))
الهدف من الخطبة : التذكير بتحويل القبلة، وبيان بعض الدروس المستفادة منها.
عناصر الموضوع
1) تحويل القبلة.
2) من الدروس المستفادة
المقدمة: أما بعد، قال الله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 142].
قال المفسرون في التفسير الميسر: سيقول الجهال وضعاف العقول من اليهود وأمثالهم، في سخرية واعتراض: ما الذي صرف هؤلاء المسلمين عن قبلتهم التي كانوا يُصَلُّون إلى جهتها أول الإسلام -وهي بيت المقدس-، قل لهم -أيها الرسول-: المشرق والمغرب وما بينهما ملك لله، فليست جهة من الجهات خارجة عن ملكه، يهدي مَن يشاء من عباده إلى طريق الهداية القويم. وفي هذا إشعار بأن الشأن كله لله في امتثال أوامره، فحيثما وَجَّهَنا تَوَجَّهْنا. انتهى.
بين يدي الخطبة:
تحويل القبلة
قال الله سبحانه وتعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 144]، وعَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى نَحْوَ بَيْتِ المَقْدِسِ، سِتَّةَ عَشَرَ أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ أَنْ يُوَجَّهَ إِلَى الكَعْبَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ)، فَتَوَجَّهَ نَحْوَ الكَعْبَةِ؛ وَقَالَ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ، وَهُمُ اليَهُودُ: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا، قُلْ لِلَّهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ؛ فَصَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ، ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَ مَا صَلَّى، فَمَرَّ عَلَى قَوْمٍ مِنَ الأَنْصَارِ فِي صَلاَةِ العَصْرِ نَحْوَ بَيْتِ المَقْدِسِ، فَقَالَ: هُوَ يَشْهَدُ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ تَوَجَّهَ نَحْوَ الكَعْبَةِ، فَتَحَرَّفَ القَوْمُ، حَتَّى تَوَجَّهُوا نَحْوَ الكَعْبَةِ. رواه البخاري.
وحاصل الأمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلمَ أُمر باستقبال الصخرة من بيت المقدس، فكان بمكة يصلي بين الركنين، فتكون بين يديه الكعبة، وهو مستقبل صخرة بيت المقدس، فلما هاجر إلى المدينة تعذر الجمع بينهما، فأمره الله بالتوجه إلى بيت المقدس، ثم جعل الله تعالى قبله إلى الكعبة؛ فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَهُوَ بِمَكَّةَ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَالْكَعْبَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَبَعْدَ مَا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ صُرِفَ إِلَى الْكَعْبَةِ. رواه أحمد وصححه الألباني.
فإن الله تعالى اصطفى لهذه الأمة خصائص عظيمة، فجعلها خير أمة أخرجت للناس، وجعلها الأمة الخاتمة الوسط التي تشهد على غيرها من الأمم، وغير ذلك من الخصائص، ومنها أن الله تعالى جعل قبلتها إلى الكعبة، كإبراهيم صلى الله عليه وسلمَ، وهذا الذي كان يرجوه النبي صلى الله عليه وسلمَ، (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا)، وهو من أسباب حقد يهود وحسدهم لأمتنا وشريعتنا؛ قال زيد بن أسلم في تفسير قوله تعالى: (فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه): فاختلفوا في يوم الجمعة، فاتخذ اليهود يوم السبت، والنصارى يوم الأحد. فهدى الله أمة محمد ليوم الجمعة. واختلفوا في القبلة؛ فاستقبلت النصارى المشرق، واليهود بيت المقدس، فهدى الله أمة محمد للقبلة. واختلفوا في الصلاة؛ فمنهم من يركع ولا يسجد، ومنهم من يسجد ولا يركع، ومنهم من يصلي وهو يتكلم، ومنهم من يصلي وهو يمشي، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك، واختلفوا في الصيام؛ فمنهم من يصوم بعض النهار، ومنهم من يصوم عن بعض الطعام؛ فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك، واختلفوا في إبراهيم عليه السلام فقالت اليهود: كان يهوديًا، وقالت النصارى: كان نصرانيًا، وجعله الله حنيفًا مسلمًا؛ فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك، واختلفوا في عيسى عليه السلام؛ فكذبت به اليهود، وقالوا لأمه بهتانًا عظيمًا، وجعلته النصارى إلهًا وولدًا، وجعله الله روحه وكلمته؛ فهدى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم للحق من ذلك. انتهى من تفسير ابن كثير.
من الدروس المستفادة
إن في أمر تحويل القبلة دروسًا وفوائد كثيرة من أهمها:
مكانة المسجد الحرام وفضله: حيث إنه قبلة إبراهيم صلى الله عليه وسلم، ورغبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في التوجه إليه، وهو أفضل بقاع الأرض ومساجدها، ولا يحل الأذى فيه أو عنده، ولا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد وهو أولها وأعظمها مكانة وأجرًا، قال تعالى: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا)، وقال سبحانه: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ)، وقال عز وجل: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)، وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَمَسْجِدِي هَذَا". متفق عليه، وعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ». رواه أحمد وابن ماجه وصححه الألباني.
مكانة المسجد الأقصى: حيث إنه قبلة كثير من الأنبياء عليهم السلام قبلنا، وهو أول قبلة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، كان إليه مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من البقاع المباركة، والتي يجوز شد الرحال إليها، وهو ثاني مسجد وضع في الأرض، وفيه الملحمة الكبرى، وهو من أرض الشام ويثبت له ما ثبت لها من فضائل كثيرة جليلة، والصلاة فيه لها فضل خاص، فعَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه قَالَ: تَذَاكَرْنَا وَنَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ: مَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ مَسْجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ فِيهِ، وَلَنِعْمَ الْمُصَلَّى، وَلَيُوشِكَنَّ لَأَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ مِثْلُ شَطَنِ فَرَسِهِ مِنَ الْأَرْضِ حَيْثُ يَرَى مِنْهُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ خَيْرٌ لَهُ مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعًا"، أَوْ قَالَ: "خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا". أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي والألباني أيضًا. [شطن: حبل]، فالصلاة في المسجد الأقصى تعدل مائتين وخمسين صلاة، ولنعم المصلى هو، وإليه يشتاق المؤمنون، وللصلاة فيه فضل خاص من رجاء غفران الذنب: فعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَنَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ سَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خِلَالًا ثَلَاثَةً: سَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حُكْمًا يُصَادِفُ حُكْمَهُ فَأُوتِيَهُ، وَسَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ فَأُوتِيَهُ، وَسَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حِينَ فَرَغَ مِنْ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ أَنْ لَا يَأْتِيَهُ أَحَدٌ لَا يَنْهَزُهُ إِلَّا الصَّلَاةُ فِيهِ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ". رواه النسائي وابن ماجه وصححه الألباني.
ومنها: بيان طبيعة يهود وحالهم، من إلقاء الشبه، والإعراض عن الحقيقة والصواب، والافتراء والكذب على الحق، وحسدهم وحقدهم لأهله، فإن اليهود لم يسكتوا عند نسخ الصلاة إلى البيت المقدس وتحويلها إلى البيت الحرام بل حسدوا المسلمين على هذا الاصطفاء، وألقوا الشبهات عليهم، وتحدثوا بالأباطيل عن شريعتهم، فعن عائشة رضي الله عنها أنها قَالَتْ: بَيْنَا أَنَا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ، فَأَذِنَ لَهُ، فَقَالَ: السَّامُ عَلَيْكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَعَلَيْكَ" قَالَتْ: فَهَمَمْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ، قَالَتْ: ثُمَّ دَخَلَ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَعَلَيْكَ"؛ قَالَتْ: ثُمَّ دَخَلَ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: السَّامُ عَلَيْكَ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: بَلِ السَّامُ عَلَيْكُمْ وَغَضَبُ اللهِ إِخْوَانَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ، أَتُحَيُّونَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا لَمْ يُحَيِّهِ بِهِ اللهُ؟ قَالَتْ: فَنَظَرَ إِلَيَّ، فَقَالَ: "مَهْ، إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَلَا التَّفَحُّشَ، قَالُوا قَوْلًا، فَرَدَدْنَاهُ عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يَضُرَّنَا شَيْءٌ، وَلَزِمَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، إِنَّهُمْ لَا يَحْسُدُونَا عَلَى شَيْءٍ كَمَا يَحْسُدُونَا عَلَى يَوْمِ الْجُمُعَةِ الَّتِي هَدَانَا اللهُ لَهَا وَضَلُّوا عَنْهَا، وَعَلَى الْقِبْلَةِ الَّتِي هَدَانَا اللهُ لَهَا وَضَلُّوا عَنْهَا، وَعَلَى قَوْلِنَا خَلْفَ الْإِمَامِ: آمِينَ". رواه أحمد وصححه لغيره الألباني، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: كان أول ما نسخ من القرآن القبلة. وذلك أن رسول صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة -وكان أهلها اليهود-أمره الله أن يستقبل بيت المقدس. ففرحت اليهود فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهرا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب قبلة إبراهيم، فكان يدعو وينظر إلى السماء، فأنزل الله: (قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها) إلى قوله: (فولوا وجوهكم شطره)، فارتاب من ذلك اليهود، وقالوا: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، فأنزل الله: (قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) وقال: (فأينما تولوا فثم وجه الله). انتهى من تفسير ابن كثير.
وقال ابن كثير رحمه الله: ولما وقع هذا حصل لبعض الناس -من أهل النفاق والريب والكفرة من اليهود -ارتياب وزيغ عن الهدى وتخبيط وشك، وقالوا: (ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها) أي: ما لهؤلاء تارة يستقبلون كذا، وتارة يستقبلون كذا؟ فأنزل الله جوابهم في قوله: (قل لله المشرق والمغرب) أي: الحكم والتصرف والأمر كله لله، وحيثما تولوا فثم وجه الله، و (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله)، أي: الشأن كله في امتثال أوامر الله، فحيثما وجهنا توجهنا، فالطاعة في امتثال أمره، ولو وجهنا في كل يوم مرات إلى جهات متعددة، فنحن عبيده وفي تصريفه وخدامه، حيثما وجهنا توجهنا. انتهى من تفسير ابن كثير.
ومن الدروس المستفادة أيضًا من تحويل القبلة: مكانة النبي صلى الله عليه وسلمَ عند الله تعالى، حيث ولاه قبلة يرضاها، وكان صلى الله عليه وسلمَ، يقلب وجهه في السماء يهوى ويحب ويرغب ويرضى قبلة أبيه إبراهيم، قال تعالى: (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ).
ومنها: فضل هذه الأمة على غيرها من الأمم: قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)، وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُجَاءُ بِنُوحٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ يَا رَبِّ فَتُسْأَلُ أُمَّتُهُ: هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: مَا جَاءَنَا مِنْ نَذِيرٍ. فَيُقَالُ: مَنْ شُهُودُكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ»؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فيجاء بكم فتشهدون على أنَّه قد بلَّغَ» ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا). رَوَاهُ البُخَارِيّ.
ومنها: بيان أن الغرض من التحويل هو الابتلاء والتمحيص: قال تعالى: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ)، فكان تحويل القبلة اختبارًا من الله تعالى لعباده، فأما الصحابة فقد ظهر معدنهم، فاستقاموا على اتباع الأمر، بلا شك ولا ريب، وأما السفهاء من اليهود والمشركين والمنافقين، فقد اضطربوا وأنكروا، فقالوا: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ قال تعالى: (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)، وقال: (وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ)، أي: وإن كان هذا الأمر عظيمًا في النفوس، إلا على الذين هدى الله قلوبهم، وأيقنوا بتصديق الرسول، وأن كل ما جاء به فهو الحق الذي لا مرية فيه، وأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فله أن يكلف عباده بما شاء،ويوجههم حيث شاء، وينسخ ما يشاء، وله الحكمة التامة والحجة البالغة في جميع ذلك، بخلاف الذين في قلوبهم مرض، فإنه كلما حدث أمر أحدث لهم شكًا.
وقوع النسخ في شريعتنا: فنُسخت القبلة الأولى وهي الصلاة نحو بيت المقدس، بالقبلة الثانية وهي الصلاة نحو الكعبة.
وقد اشتمل تحويل القبلة على دروس كثيرة أخرى أيضًا منها ما ذكره العلامة عبدالرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله عند تفسيره لآيات تحويل القبلة فقال: قد اشتملت الآية الأولى على معجزة، وتسلية، وتطمين قلوب المؤمنين، واعتراض وجوابه، من ثلاثة أوجه، وصفة المعترض، وصفة المسلم لحكم الله دينه. فأخبر تعالى أنه سيعترض السفهاء من الناس، وهم الذين لا يعرفون مصالح أنفسهم، بل يضيعونها ويبيعونها بأبخس ثمن، وهم اليهود والنصارى، ومن أشبههم من المعترضين على أحكام الله وشرائعه، وذلك أن المسلمين كانوا مأمورين باستقبال بيت المقدس، مدة مقامهم بمكة، ثم بعد الهجرة إلى المدينة، نحو سنة ونصف - لما لله تعالى في ذلك من الحكم التي سيشير إلى بعضها، وكانت حكمته تقتضي أمرهم باستقبال الكعبة، فأخبرهم أنه لا بد أن يقول السفهاء من الناس: {مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} وهي استقبال بيت المقدس، أي: أيُّ شيء صرفهم عنه؟ وفي ذلك الاعتراض على حكم الله وشرعه، وفضله وإحسانه، فسلاهم، وأخبر بوقوعه، وأنه إنما يقع ممن اتصف بالسفه، قليل العقل، والحلم، والديانة، فلا تبالوا بهم، إذ قد علم مصدر هذا الكلام، فالعاقل لا يبالي باعتراض السفيه، ولا يلقي له ذهنه. ودلت الآية على أنه لا يعترض على أحكام الله، إلا سفيه جاهل معاند، وأما الرشيد المؤمن العاقل، فيتلقى أحكام ربه بالقبول، والانقياد، والتسليم كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآية، {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} وقد كان في قوله {السفهاء} ما يغني عن رد قولهم، وعدم المبالاة به. ولكنه تعالى مع هذا لم يترك هذه الشبهة، حتى أزالها وكشفها مما سيعرض لبعض القلوب من الاعتراض، فقال تعالى: {قُلْ} لهم مجيبا: {لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي: فإذا كان المشرق والمغرب ملكا لله، ليس جهة من الجهات خارجة عن ملكه، ومع هذا يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، ومنه هدايتكم إلى هذه القبلة التي هي من ملة أبيكم إبراهيم، فلأي شيء يعترض المعترض بتوليتكم قبلة داخلة تحت ملك الله، لم تستقبلوا جهة ليست ملكا له؟ فهذا يوجب التسليم لأمره، بمجرد ذلك، فكيف وهو من فضل الله عليكم، وهدايته وإحسانه، أن هداكم لذلك فالمعترض عليكم، معترض على فضل الله، حسدا لكم وبغيا. ولما كان قوله: {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} والمطلق يحمل على المقيد، فإن الهداية والضلال، لهما أسباب أوجبتها حكمة الله وعدله، وقد أخبر في غير موضع من كتابه بأسباب الهداية، التي إذا أتى بها العبد حصل له الهدى كما قال تعالى: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ} ذكر في هذه الآية السبب الموجب لهداية هذه الأمة مطلقا بجميع أنواع الهداية، ومنة الله عليها فقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} أي: عدلا خيارا، وما عدا الوسط، فأطراف داخلة تحت الخطر، فجعل الله هذه الأمة، وسطا في كل أمور الدين، وسطا في الأنبياء، بين من غلا فيهم، كالنصارى، وبين من جفاهم، كاليهود، بأن آمنوا بهم كلهم على الوجه اللائق بذلك، ووسطا في الشريعة، لا تشديدات اليهود وآصارهم، ولا تهاون النصارى. وفي باب الطهارة والمطاعم، لا كاليهود الذين لا تصح لهم صلاة إلا في بيعهم وكنائسهم، ولا يطهرهم الماء من النجاسات، وقد حرمت عليهم الطيبات، عقوبة لهم، ولا كالنصارى الذين لا ينجسون شيئا، ولا يحرمون شيئا، بل أباحوا ما دب ودرج. بل طهارتهم أكمل طهارة وأتمها، وأباح الله لهم الطيبات من المطاعم والمشارب والملابس والمناكح، وحرم عليهم الخبائث من ذلك، فلهذه الأمة من الدين أكمله، ومن الأخلاق أجلها، ومن الأعمال أفضلها. ووهبهم الله من العلم والحلم، والعدل والإحسان، ما لم يهبه لأمة سواهم، فلذلك كانوا {أُمَّةً وَسَطًا} [كاملين] ليكونوا {شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} بسبب عدالتهم وحكمهم بالقسط، يحكمون على الناس من سائر أهل الأديان، ولا يحكم عليهم غيرهم، فما شهدت له هذه الأمة بالقبول، فهو مقبول، وما شهدت له بالرد، فهو مردود. فإن قيل: كيف يقبل حكمهم على غيرهم، والحال أن كل مختصمين غير مقبول قول بعضهم على بعض؟ قيل: إنما لم يقبل قول أحد المتخاصمين، لوجود التهمة فأما إذا انتفت التهمة، وحصلت العدالة التامة، كما في هذه الأمة، فإنما المقصود، الحكم بالعدل والحق، وشرط ذلك، العلم والعدل، وهما موجودان في هذه الأمة، فقبل قولها. فإن شك شاك في فضلها، وطلب مزكيا لها، فهو أكمل الخلق، نبيهم صلى الله عليه وسلم، فلهذا قال تعالى: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}، ومن شهادة هذه الأمة على غيرهم، أنه إذا كان يوم القيامة، وسأل الله المرسلين عن تبليغهم، والأمم المكذبة عن ذلك، وأنكروا أن الأنبياء بلغتهم، استشهدت الأنبياء بهذه الأمة، وزكاها نبيها.
وفي الآية دليل على أن إجماع هذه الأمة، حجة قاطعة، وأنهم معصومون عن الخطأ، لإطلاق قوله: {وَسَطًا} فلو قدر اتفاقهم على الخطأ، لم يكونوا وسطا، إلا في بعض الأمور، ولقوله: {ولتكونوا شهداء على الناس} يقتضي أنهم إذا شهدوا على حكم أن الله أحله أو حرمه أو أوجبه، فإنها معصومة في ذلك. وفيها اشتراط العدالة في الحكم، والشهادة، والفتيا، ونحو ذلك.
يقول تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} وهي استقبال بيت المقدس أولا {إِلا لِنَعْلَمَ} أي: علما يتعلق به الثواب والعقاب، وإلا فهو تعالى عالم بكل الأمور قبل وجودها. ولكن هذا العلم، لا يعلق عليه ثوابا ولا عقابا، لتمام عدله، وإقامة الحجة على عباده، بل إذا وجدت أعمالهم، ترتب عليها الثواب والعقاب، أي: شرعنا تلك القبلة لنعلم ونمتحن {مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} ويؤمن به، فيتبعه على كل حال، لأنه عبد مأمور مدبر، ولأنه قد أخبرت الكتب المتقدمة، أنه يستقبل الكعبة، فالمنصف الذي مقصوده الحق، مما يزيده ذلك إيمانا، وطاعة للرسول.
وأما من انقلب على عقبيه، وأعرض عن الحق، واتبع هواه، فإنه يزداد كفرا إلى كفره، وحيرة إلى حيرته، ويدلي بالحجة الباطلة، المبنية على شبهة لا حقيقة لها. {وَإِنْ كَانَتْ} أي: صرفك عنها {لَكَبِيرَةٌ} أي: شاقة {إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} فعرفوا بذلك نعمة الله عليهم، وشكروا، وأقروا له بالإحسان، حيث وجههم إلى هذا البيت العظيم، الذي فضله على سائر بقاع الأرض، وجعل قصده، ركنا من أركان الإسلام، وهادما للذنوب والآثام، فلهذا خف عليهم ذلك، وشق على من سواهم.
ثم قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} أي: ما ينبغي له ولا يليق به تعالى، بل هي من الممتنعات عليه، فأخبر أنه ممتنع عليه، ومستحيل، أن يضيع إيمانكم، وفي هذا بشارة عظيمة لمن مَنَّ الله عليهم بالإسلام والإيمان، بأن الله سيحفظ عليهم إيمانهم، فلا يضيعه، وحفظه نوعان: حفظ عن الضياع والبطلان، بعصمته لهم عن كل مفسد ومزيل له ومنقص من المحن المقلقة، والأهواء الصادة، وحفظ له بتنميته لهم، وتوفيقهم لما يزداد به إيمانهم، ويتم به إيقانهم، فكما ابتدأكم، بأن هداكم للإيمان، فسيحفظه لكم، ويتم نعمته بتنميته وتنمية أجره، وثوابه، وحفظه من كل مكدر، بل إذا وجدت المحن المقصود منها، تبيين المؤمن الصادق من الكاذب، فإنها تمحص المؤمنين، وتظهر صدقهم، وكأن في هذا احترازا عما قد يقال إن قوله: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} قد يكون سببا لترك بعض المؤمنين إيمانهم، فدفع هذا الوهم بقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} بتقديره لهذه المحنة أو غيرها. ودخل في ذلك من مات من المؤمنين قبل تحويل الكعبة، فإن الله لا يضيع إيمانهم، لكونهم امتثلوا أمر الله وطاعة رسوله في وقتها، وطاعة الله، امتثال أمره في كل وقت، بحسب ذلك، وفي هذه الآية، دليل لمذهب أهل السنة والجماعة، أن الإيمان تدخل فيه أعمال الجوارح.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} أي: شديد الرحمة بهم عظيمها، فمن رأفته ورحمته بهم، أن يتم عليهم نعمته التي ابتدأهم بها، وأن ميَّزَ عنهم من دخل في الإيمان بلسانه دون قلبه، وأن امتحنهم امتحانا، زاد به إيمانهم، وارتفعت به درجتهم، وأن وجههم إلى أشرف البيوت، وأجلها. انتهى.
ومن الدروس المستفادة: فضل الصحابة رضي الله عنهم، وعظيم اتباعهم، وحسن استجابتهم، وسرعتهم في التزام الأمر: حيث إنهم رضي الله عنهم لما جاءهم الخبر أسرعوا واستداروا إلى الكعبة، وهم في الصلاة، فلم يخرجوا منها بالتسليم أو الإبطال ليتأكدوا مثلاً، ولم ينتظروا حتى يقضوا صلاتهم، فيسألوا أو يستفسروا أو يتحققوا، بل سمعوا الخبر فاتبعوه واستجابوا له رضي الله عنهم، فعَنْ أَنَس بن مالك أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ كَانُوا يُصَلُّونَ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ)، فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ، فَنَادَاهُمْ وَهُمْ رُكُوعٌ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ: وَقَدْ صَلَّوْا رَكْعَةً، فَنَادَى: أَلَا إِنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ حُوِّلَتْ، أَلَا إِنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ حُوِّلَتْ إِلَى الْكَعْبَةِ، قال: فَمَالُوا كَمَا هُمْ رُكُوعٌ إِلَى الْكَعْبَةِ. رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه الألباني. وهذا يدل على كمال طاعتهم لله ورسوله، وانقيادهم لأوامر الله عز وجل، رضي الله عنهم أجمعين.
ومنها: الإخوة الإيمانية بين الصحابة رضي الله عنهم: حيث إن الصحابة قد شغلهم أمر إخوانهم الذين ماتوا قبل حويل القبلة، ماذا عن صلاتهم تجاه بيت المقدس؟ وماذا عن أجرها؟ هل ضاع على أهله أم ثبت لهم؟ فعن البراء بن عازب أنه قال: وَكَانَ الَّذِي مَاتَ عَلَى القِبْلَةِ قَبْلَ أَنْ تُحَوَّلَ قِبَلَ البَيْتِ رِجَالٌ قُتِلُوا، لَمْ نَدْرِ مَا نَقُولُ فِيهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ). رواه البخاري، أي: وما كان الله ليضيع صلاتكم إلى بيت المقدس قبل ذلك، فإن ثوابها لا يضيع عند الله.
وختامًا: ننبه على أهمية الإخوة الإيمانية بين المسلمين، وأهمية العقيدة الصحيحة وصلاح ذات البين، لاسيما قبل ليلة النصف من شعبان، فإنهما من أسباب الفوز بمغفرة الله تعالى، فعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَيَطَّلِعُ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ». أخرجه ابن ماجه وحسنه الألباني، ولابن حبان عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: «يَطْلُعُ اللَّهُ إِلَى خَلْقِهِ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ». وحسنه الألباني.
احرص على الألفة والعفو والتسامح وانتبه واحذر من التشاحن والبغضاء والخصومة: فقد نهى شرعنا عن التشاحن، والتباغض، والتهاجر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلمَ: "لا تباغضوا" رواه مسلم، وقال صلى الله عليه وسلمَ: "لا يَحِلُّ لمسلمٍ أنْ يَهْجُر أخاه فوقَ ثلاثِ ليالٍ، يَلْتَقِيانِ؛ فيُعْرِضُ هذا، ويُعْرِضُ هذا، وخيرُهما الَّذي يَبْدأُ بالسلامِ" رواه مالك والبخاري ومسلم والترمذي وأبو داود، وفي رواية لأبي داود: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يحلُّ لمؤمنٍ أن يهجرَ مؤمناً فوق ثلاث، فإن مرت به ثلاث فليلْقَه فليسلمِ عليه، فإن رَدَّ عليه السلامَ فقد اشتركا في الأجرِ، وإن لم يردّ عليه فقد باء بالإثم، وخرج المسلِّمُ من الهجر".
وجعل شرعنا هذه الأمور مانعة من المغفرة، كما في حديث ليلة النصف من شعبان، وكما في قوله صلى الله عليه وسلمَ: "تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا، إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ؛ فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا". رواه مسلم.
وأمر الشرع بالصلح، وإصلاح ذات البين، قال تعالى: (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا)، وقال: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ)، وقال: (والصلح خير)، وقال: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُم)، وقال: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ من درجةِ الصِّيامِ والصدقةِ وَالصَّلَاة؟» قُلْنَا: بَلَى. قَالَ: «إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وصححه الألباني، وقال: «دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمُ الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ هِيَ الْحَالِقَةُ لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ ولكنْ تحلق الدّين». رَوَاهُ أَحْمد وَالتِّرْمِذِيّ وحسنه الألباني لغيره.
فعلى العبد الحرص على تحصيل المغفرة، والتعرض لرحمات الله، بالحرص على سلامة التوحيد، وسلامة الصدر، والعفو عن الناس، وترك الشرك، والتشاحن والخصومة والهجر.
مع تحيات
اللجنة العلمية لملتقى الخطيب المؤثر أسد المنابر