الأحد ، ٢٢ جمادى الأول ، ١٤٤٦ هجري | 24 نوفمبر 2024 ميلادي
خطورة التسرع في الطلاق
وصف الخطبة : -

بيان أسباب الطلاق، وخطورته على الفرد والمجتمع، وشيء من فقهه


سلسلة الخطب المقترحة رقم : ( 534)

الخطبة الثانية من شهر جمادى أخر 1445هـ

بعنوان ((خطورة التسرع في الطلاق)) ............................

الغرض من الخطبة: بيان أسباب الطلاق، وخطورته على الفرد والمجتمع، وشيء من فقهه .

عناصر الموضوع:

1- الطلاق داء أم دواء؟

2- الطريقة الشرعية لعلاج الخلافات الزوجية.

3- السبيل الشرعي للطلاق.

4- أسباب الطلاق.

5- خطورة التسرع في الطلاق على الفرد والمجتمع.

المقدمة: أما بعد، قال الله تعالى: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا)، وعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى المَاء ثمَّ يبْعَث سراياه فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: فَعَلَتُ كَذَا وَكَذَا؛ فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا، قَالَ: ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا تَرَكَتُهُ حَتَّى فَرَّقَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، قَالَ: فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ نَعَمْ أَنْتَ، فيلتزمه». رَوَاهُ مُسلم.

بين يدي الخطبة:

فثمة أمراض كثيرة تفشت في مجتمعاتنا الإسلامية مؤخرًا، نتج عنها سلبيات وأضرارًا كثيرة في مجالات متعددة، ومن هذه الأمراض ظاهرة ارتفاع معدلات الطلاق إلى نسب مخيفة، ولا شك أن هذا يهدد أمن واستقرار المجتمع، ويتسبب في ظهور العديد من المشكلات الصعبة، فما هي تلك الأسباب؟ وما هي طبيعة تلك المشكلة؟ وما هي الحلول؟

الطلاق داء أم دواء؟

شرع الله تعالى الزواج وجعل الأصل استمرارية الحياة الزوجية بين الزوجين، وشرع سبحانه له أحكاماً كثيرة وآداباً جمّة لاستمراره، وضمان بقائه؛ إلا أن هذه الآداب قد لا تكون مرعيَّة من قبل الزوجين أو أحدهما، فيقع التنافر بينهما حتى لا يبقى مجال للإصلاح؛ فجاء التشريع بأحكام تؤدي إلى حَلِّ عقدة الزواج على نحو لا تهدر فيه حقوق أحد الزوجين، ما دامت أسباب التعايش قد باتت معدومة فيما بينهما؛ وهنا يكون الطلاق دواءً نافعًا، فالطلاق مشروع بالكتاب والسنة والإجماع، قال تعالى: (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ)، وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما، أنه طلق امرأته وهي حائض، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعمر: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لْيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا أَوْ حَامِلًا» متفق عليه، وأجمع علماء الأمة على جواز الطلاق ومشروعيته. انتهى بتصرف من الفقه الميسر لمجموعة علماء.

فمن تأمل التشريع علم أن الله تعالى شرع الطلاق تيسيرًا على هذه الأمة، فإن اليهود يطلقون ولا رجعة عندهم، والنصارى لا طلاق عندهم، أما في شريعتنا فشرع لنا الطلاق والرجعة، فيكون حلاً لمشاكل حياة في حكم العدم، وهو آخر الأدوية وأشدها ألمًا، كالكي في الاستشفاء للأبدان؛ ومعلوم أن الدواء إن استخدم خطأ كان داء وهو حال كثير من الناس مع الطلاق، فصار ظاهرة مؤرقة مقلقة، بحيث يطلق الرجل زوجته، وأم ولده، ومكمن سره، ومأواه عند تعبه، ومسكنه ومستقره عند حاجته، لأتفه الأسباب، والله المستعان.

أين عقول الرجال ؟! أين الحكمة ؟! أين القوامة ؟! أين الالتزام والاستقامة؟!

إن النساء صرن يتعجبن من أفعال الرجال وأحوالهم واضطراباتهم، حتى سألن لماذا جعل الشارع الحكيم الطلاق بيد الرجال؟ وهذا ليس طعنًا منهن في الشريعة المحكمة، ولا اعتراضًا عليها، ولا شكًا في أحكامها وإحكامها وحكمتها، بل ألجأهن حال الرجال إلى السؤال، إذ صار كثير من الرجال يلجأ إلى الطلاق دون الاحتياج إليه، فيتعاطى دواء لغير مرضه، أو بغير مرض أصلاً، ونقول: لقد علم الرجال والنساء تنزيه الشرع عن العبث، فليس العيب في التشريع، ولكن العيب فيمن استعمل الطلاق في غير محله، حتى صار سجية بعضهم الحلف بالطلاق، ظنًا أن هذه رجولة!

قال تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ)؛ فقد جعل الشارع الطلاق بيد الزوج وحده لحكم عظيمة منها: أن هذا هو الذي يتفق مع الفطرة، فالرجل هو المسؤول الأول عن الأسرة وبيده مفاتيح الحل والعقد، والرجل أقدر من المرأة في الغالب على ضبط عواطفه وانفعالاته، وتحكيم عقله وخاصة عندما تقع المشكلات بين الزوجين ويثور الغضب بينهما، فقوة العقل والإرادة وسعة الإدراك، وبعد النظر لعواقب الأمور، عند الرجال بخلاف المرأة فليست كذلك، فيدرك الرجل ما يترتب على إيقاع الطلاق من تبعات مختلفة كالأمور المالية وما يتعلق بالأولاد وتربيتهم والعناية بهم وغير ذلك؛ ولأن الرجل مكلف بالإنفاق، وكونه صاحب السيطرة والأمر والنهي في بيته، فهو عماد البيت ورب لأسرته، ولأن المهر يجب على الزوج، فجعل الطلاق في يده؛ لئلا تطمع المرأة، فإذا تزوجت وأخذت المهر طلقت زوجها للحصول على مهر آخر وهكذا، وهذا يضر الزوج؛ إلى غير ذلك من الحكم الجليلة.

فتأمل أيها الرجل أين جعلك الشرع؟ وماذا اختار لك وارتضى؟ ثم تأمل أين وضعت نفسك؟ وما الذي اخترته لها؟!

الطريقة الشرعية لعلاج الخلافات الزوجية

أولاً: لقد جاءت الوصية بالنساء وبالرفق بهن كثيرًا في شريعتنا؛ فيا معشر الرجال اتقوا الله في النساء، وفي الأمانة التي وكلتم بها، احفظوا أيمانكم، تحملوا المسئولية فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّهُنَّ خُلِقْنَ مِنْ ضِلَعٍ وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسْرَتَهُ وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ». متفق عليه، وَعَنْهُ أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ لَنْ تَسْتَقِيمَ لَكَ عَلَى طَرِيقَةٍ، فَإِنِ اسْتَمْتَعْتَ بِهَا اسْتَمْتَعْتَ بِهَا وَبِهَا عِوَجٌ، وَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهَا، كَسَرْتَهَا وَكَسْرُهَا طَلَاقُهَا». رَوَاهُ مُسلم، وَعَنْهُ أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ». رَوَاهُ مُسلم، (لا يفرك): أي لا يبغض.

وقال تعالى: (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً)، فإن عدمت المودة بقيت الرحمة.

ثانيًا: لقد أحكم الله سبحانه وتعالى شرعه، وبين كيف يتعامل الزوجان في حال حصول الاضطرابات الأسرية والاختلافات الزوجية، قال تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا).

قوله: (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ) أي والنساء اللاتي تتخوفون أن ينشزن على أزواجهن؛ والنشوز هو الارتفاع، فالمرأة الناشز هي المرتفعة على زوجها، التاركة لأمره، المعرضة عنه، المبغضة له؛ فمتى ظهر له منها أمارات النشوز فليعظها وليخوفها عقاب الله في عصيانه؛ فإن الله قد أوجب حق الزوج عليها وطاعته، وحرم عليها معصيته لما له عليها من الفضل والإفضال، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، من عظم حقه عليها".

ثم نقل عن ابن عباس في قوله: (واهجروهن) أنه قال: الهجران هو أن لا يجامعها، ويضاجعها على فراشها ويوليها ظهره.

وفي رواية عنه: ولا يكلمها مع ذلك ولا يحدثها.

وعنه أيضًا: يعظها، فإن هي قبلت وإلا هجرها في المضجع، ولا يكلمها من غير أن يذر نكاحها، وذلك عليها شديد.

قوله: (واضربوهن) أي: إذا لم يرتدعن بالموعظة ولا بالهجران، فلكم أن تضربوهن ضربًا غير مبرح، كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلمَ: أنه قال في حجة الوداع: "واتقوا الله في النساء، فإنهن عندكم عوان، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن فاضربوهن ضربًا غير مبرح، ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف".

قال الفقهاء: هو ألا يكسر فيها عضوًا ولا يؤثر فيها شيئًا.

وقوله: (فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً) أي: فإذا أطاعت المرأة زوجها في جميع ما يريد منها، مما أباحه الله له منها، فلا سبيل له عليها بعد ذلك، وليس له ضربها ولا هجرانها.

وقوله: (إن الله كان عليًا كبيرًا) تهديد للرجال إذا بغوا على النساء من غير سبب، فإن الله العلي الكبير وليهن وهو منتقم ممن ظلمهن وبغى عليهن. انتهى باختصار من تفسير ابن كثير.

قال السعدي رحمه الله: فإن حصل المقصود بواحد من هذه الأمور وأطعنكم (فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا) أي: فقد حصل لكم ما تحبون فاتركوا معاتبتها على الأمور الماضية، والتنقيب عن العيوب التي يضر ذكرها ويحدث بسببه الشر. انتهى.

وقال تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا)، وقال تعالى: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ).

فإن وقع الشقاق والاختلاف من كلا الزوجين فيما بينهما، تدخل المصلحون من قومهما، فيأتي صالحًا من أهله، وصالحًا من أهلها، ينظران في أمرهما، فإن رأيا أن يجمعا جمعا، وإن رأيا أن يفرقا فرقا؛ وجانب الإصلاح والتوفيق أرجح وأفضل، كما قال تعالى: (إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا)، وقال سبحانه: (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ).

وعليه فعلى الرجل أن يتبع ذلك مع كل مشكلة، فإن وعظها فانتهت فعليه أن ينتهى، وإلا هجرها فإن انتهت انتهى، وإلا ضربها ضربًا غير مبرح فإن انتهت انتهى، وإلا فالإصلاح بينهما، وربما نتج عنه الطلاق، مع الانتباه إلى أن الزوج عليه أن يبدأ من الوعظ مع كل خلاف، ولا يبني الخلافات على بعضها، بل إن انتهت بالهجر في مشكلة، ثم اختلفوا بدأ بالوعظ مجددًا وهكذا.

فظهر أن طريقة الشرع في التعامل مع الخلافات الزوجية على النحو التالي:

أولاً: الوعظ والتذكير بالله تعالى. ثانياً: الهجر في الفراش. ثالثاً: الضرب غير المبرح الذي لا يكسر عظماً ولايجرح عضوًا.

رابعاً: إذا لم تطع يُبعث حكمان من أهله ومن أهلها للإصلاح. خامساً: الطلاق إذا تعين حلاً وهو آخر علاج، وآخر الدواء الكي.

السبيل الشرعي للطلاق

إن وصل الأمر إلى الطلاق فينبغي أن يكون طلاقًا شرعيًا، وذلك أن يراعى فيه عدد الطلاق، والحال الذي يقع فيه؛ فالسنة إذا اضطر الزوج إلى الطلاق، أن يطلق طلقة واحدة في طهر لم يجامعها فيه، ويتركها فلا يتبعها طلاقاً آخر حتى تنقضي عدتها؛ لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ)، أي: في الوقت الذي يَشرعن فيه في استقبال العدة وهو الطهر، وعليه فلو أراد الزوج أن يطلق وكانت امرأته حائضًا أو في طهر جامعها فيه، فعليه حينها أن ينتظر حتى تطهر؛ فتأمل كيف تبعدك الشريعة عن التسرع والعجلة.

أما إن طلقها ثلاثاً بلفظ واحد، أو متفرقات في طهر واحد، أو طلقها وهي حائض أو نفساء، أو طلقها في طهر جامعها فيه، ولم يتبيَّن حملها، فإن هذا يقع كالطلاق السني، ولكنه طلاق بدعيُّ محرمٌ، منهيٌّ عنه شرعاً، وفاعله آثم، ويستحب له أن يراجعها: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَةً لَهُ وَهِيَ حَائِضٌ فَذَكَرَ عُمَرُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَغَيَّظَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: «ليراجعها ثمَّ يمْسِكهَا حَتَّى تطهر ثمَّ تحيض فَتطهر فَإِن بدا لَهُ أَنْ يُطْلِّقَهَا فَلْيُطْلِّقْهَا طَاهِرًا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُطْلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ» . وَفِي رِوَايَةٍ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لْيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا أَوْ حَامِلًا». متفق عليه.

فإن طلقها لم يخرجها من بيتها، بل تقضي عدتها في بيت الزوجية، قال تعالى: (لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ)، فأضاف البيت إليهن إضفة إسكان لا إضافة تمليك؛ وهذا أقرب للصلح والرجعة، فتأمل في حرص الشرع على الصلح والائتلاف؛ فإن راجعها، وعادا إلى الاختلاف عادا إلى الطريقة الشرعية في التعامل أيضًا، فيعظها فإن انتهت، وإلا هجرها، وإلا ضربها، وإلا فالصلح بينهما، وإلا فالطلاق في طهر لم يجامعها فيه، ثم تعتد في بيت الزوجية، وله أن يراجعها في العدة، فإن راجعها، وعادا واختلفا، أعاد، فإن طلقها الثالثة لم تحل له حتى تنكح زوجًا غيره زواجًا حقيقيًا بلا حيلة، قال تعالى: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ)، فلا يفشي أحد الزوجين سر الآخر، ولا يشنع أحدهما بالآخر، ولا يضار به، بل فرقة بإحسان، (وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً)، وقال سبحانه: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ)، وعن عُقْبَة بْن عَامِرٍ أنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ»، قَالُوا: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «هُوَ الْمُحَلِّلُ، لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ، وَالْمُحَلَّلَ لَهُ». رواه ابن ماجه وحسنه الألباني، وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: جَاءَتِ امْرَأَةُ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إِنِّي كُنْتُ عِنْدَ رِفَاعَةَ فَطَلَّقَنِي فَبَتَّ طَلَاقِي فَتَزَوَّجْتُ بَعْدَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَمَا مَعَهُ إِلَّا مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ فَقَالَ: «أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ؟» قَالَتْ: نَعَمْ قَالَ: «لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ». متفق عليه، يعني: لا حتى يحصل جماع، فتذوقا لذة جماع بعضكما.

وكما جعل الله تعالى للرجل والمرأة سبيلاً في الطلاق، جعل للمرأة سبيلاً في افتداء نفسها بالخلع، مع تحذيرها من طلب الطلاق لغير ضرر أو بأس، فعَنْ ثَوْبَانَ أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا طَلَاقًا فِي غَيْرِ مَا بَأْسٍ فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ الْجَنَّةِ». رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وصححه الألباني، وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْمُخْتَلِعَاتِ، وَالْمُنْتَزِعَاتِ هُنَّ الْمُنَافِقَاتُ». رواه الطبراني وصححه الألباني، وهؤلاء هن اللاتي يطلبن الخلع والطلاق عن أزواجهن من غير بأس؛ فإن كان لبأس وضرر جاز ولو افتدت نفسها بعوض، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قِيسٍ أَتَتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ مَا أَعْتِبُ عَلَيْهِ فِي خُلُقٍ وَلَا دِينٍ وَلَكِنِّي أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الْإِسْلَامِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟» قَالَتْ: نَعَمْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقْبَلِ الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً». رَوَاهُ البُخَارِيّ.

أسباب الطلاق

للطلاق أسباب كثيرة منها: عدم الوئام بين الزوجين بألا تحصل محبة من أحدهما للآخر، أو من كل منهما، ومنها سوء خلق المرأة، أو عدم السمع والطاعة لزوجها في المعروف، ومنها سوء خلق الزوج وظلمه للمرأة وعدم إنصافه لها، ومنها عجزه عن القيام بحقوقها أو عجزها عن القيام بحقوقه، ومنها وقوع المعاصي من أحدهما أو من كل واحد منهما فتسوء الحال بينهما بسبب ذلك، حتى تكون النتيجة الطلاق، ومن ذلك تعاطي الزوج المسكرات أو التدخين، أو تعاطي المرأة ذلك، ومنها سوء الحال بين المرأة ووالدي الزوج أو أحدهما، وعدم استعمال السياسة الحكيمة في معاملتها أو أحدهما؛ ومنها عدم عناية المرأة بالنظافة والتصنع للزوج باللباس الحسن والرائحة الطيبة والكلام الطيب والبشاشة الحسنة عند اللقاء والاجتماع . اهـ من كلام الشيخ ابن باز رحمه الله .

وللطلاق أسباب أخرى كثيرة منها:

1- التهاون بموضوع الطلاق وعدم فهم المراد منه: ويظهر ذلك في صور منها:

- الحلف بالطلاق: قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: هؤلاء السفهاء الذين يطلقون ألسنتهم بالطلاق في كل هين وعظيم، هؤلاء مخالفون لما أرشد إليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: "مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ". رواه البخاري؛ فإذا أرد المؤمن أن يحلف فليحلف بالله عز وجل، ولا ينبغي أيضاً أن يكثر من الحلف لقوله تعالى: (وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ)، ومن جملة ما فسرت به الآية أن المعنى: لا تكثروا الحلف بالله؛ أمّا أن يحلفوا بالطلاق مثل: علي الطلاق أن تفعل كذا أو علي الطلاق ألا تفعل أو إن فعلت فامرأتي طالق أو إن لم تفعل فامرأتي طالق وما أشبه ذلك من الصيغ فإن هذا خلاف ما أرشد إليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. انتهى.

- الهزل في الطلاق: فطلاق الهازل يقع في قول جماهير أهل العلم، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "ثَلَاثٌ جَدُّهُنَّ جَدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جَدُّ: النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالرِّجْعَةُ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ والتِّرْمِذِيُّ وحسنه الألباني.

2- عدم تحمل المسئولية من الزوجين أو أحدهما، فيحمل على إرادة الافتراق؛ فيجب على المسلم أن يقوم بواجبه، فالزوج راع لأسرته، وهي مسئولة منه، في الرعاية والنفقة والقوامة؛ والزوجة راعية كذلك في بيتها، وعليها القيام على شأن زوجها وأولادها.

3- عدم إدراك حقيقة الزواج وطبيعته، والمراد منه: فبعض الأزواج هذه مشكلتهم، أنهم تزوجوا لأغراض دنيوية، مثل الشهوة، أو المال، أو الجمال، أو الحسب، ونحوه، دون النظر إلى الأغراض والنوايا والأهداف الشرعية البديعة، من بناء بيت مسلم على أساس التقوى، والطاعة لله ولرسوله، والعمل بالوحي، وإنشاء لبنة صالحة في بناء المجتمع المسلم، وإنجاب الذرية الصالحة ونحو ذلك.

4- المخالفات الشرعية: وهي أساس من أسس زوال الأمم فضلاً عن الأسر والمجتمعات، ومن جملة المخالفات، العشق والغرام قبل العقد: فيستنفذ هؤلاء كثيرًا من رصيد المشاعر والعواطف التي ينبغي أن تكون بين الزوجين، فإذا تزوج هؤلاء، انكشفت الحقائق، وتغيرت القلوب، والله المستعان.

5- التخبيب: وهو إفساد ذات بين الزوجين، والتحريش بينهما، بالوشاية، وبالغيبة والنميمة، والتدخل في شئون الزوجين، ونحو ذلك، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ خَبَّبَ امْرَأَةً عَلَى زَوْجِهَا أَوْ عَبْدًا عَلَى سَيّده». رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وصححه الألباني.

6- الغضب: وقد نهى الشرع عن الغضب عمومًا، لأنه يفضي إلى مفاسد، فعَن أبي هريرةَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم: أوصني، قَالَ: «لَا تغضبْ» فردَّدَ ذَلِكَ مِرَارًا قَالَ: «لَا تَغْضَبْ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وأغلب الطلاق في الغضب يقع، إذ لا يطلق الرجل زوجته إلا وهو غاضب أو متقلب المزاج، أو مضطرب النفس، ونحو ذلك، والغضب الذي لا يقع معه الطلاق هو الذي يكون مع الإغلاق، فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا طَلَاقَ وَلَا عَتَاقَ فِي إِغْلَاقٍ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَه وحسنه الألباني.

خطورة التسرع في الطلاق على الفرد والمجتمع

إن اختلال الأسرة وضعف تماسكها، ليس فسادًا للأسرة وحدها، أو شقاءً لأفرادها فقط، ولكنه فسادٌ للمجتمع كله، لذلك فإن الشيطان لا يحرص على شيء حرصه على تفريق الأسرة، والدخول بين الرجل وأهله ليفتت لبنة المجتمع، ويمزق أصول الأمة، فعَنْ جَابِرٍ أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى المَاء ثمَّ يبْعَث سراياه فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: فَعَلَتُ كَذَا وَكَذَا؛ فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا، قَالَ: ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا تَرَكَتُهُ حَتَّى فَرَّقَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، قَالَ: فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ نَعَمْ أَنْتَ، فيلتزمه». رَوَاهُ مُسلم.

كيف لا يحرص الشيطان على تفكيك الأسر، وهو سبيل انهيار المجتمع، من تشريد الأولاد، وافتقاد القدوة، والحنان والدفء الأبوي، وانعدام التنشئة والتربية الصحيحة في ربوع الأسرة، فينحرف الأولاد، ويكونوا فريسة سهلة لشرار البشر، لانعدام الرقابة من الأبوين لتمزق أسرتهم.

لذا فينبغي على الزوجين أن يبتعدوا قدر استطاعتهم عن الطلاق لما يترتب عليه من آثار جسيمة، ثم إن وصل إلى مرحلة الطلاق فعلى الزوجين أن يصلحا من أمرهما ويتراجعا حفاظاً على الأسرة ورعاية للأطفال حتى لا يتعرضوا للتشريد والضياع، فارتجاع الزوجان بابٌ من أبواب الإصلاحِ، لذلك نجدُ الشريعة الإسلامية قد نظمت أحكامها، ومن حكم تشريع الرجعة أن الحاجة ماسة إليها; لأن الإنسان قد يطلق زوجته ثم يندم على ذلك، فجعل الشارع له سبيلاً لدرء الندم ولم الشمل، ورجوع الوئام الأسري بعد درس قاسٍ، قال تعالى: (لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا).

مع تحيات

اللجنة العلمية لملتقى الخطيب المؤثر