الخميس ، ١٩ جمادى الأول ، ١٤٤٦ هجري | 21 نوفمبر 2024 ميلادي
غزوة مؤتة
وصف الخطبة : -

معالجة الهزيمة النفسية عند المسلمين، وبيان أن الانتصار لا يكون بالعدة والعتاد.


سلسلة الخطب المقترحة رقم (( 531 ))

الخطبة الثالثة من شهر جمادى أول 1445 هـ

بعنوان ((غزوة مؤتة......... ))

الهدف من الخطبة معالجة الهزيمة النفسية عند المسلمين، وبيان أن الانتصار لا يكون بالعدة والعتاد.

عناصر الموضوع

1- نبض معركة مؤتة.

2- نبض المدينة النبوية.

3- من دروس مؤتة.

غزوة مؤتة

مقدمة الموضوع: أما بعد، قال الله تعالى: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)، وقال تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)، فنحن أمة لا تنتصر بالقوة والكثرة، ولا بالعدد والعدة، بل بالدين والإيمان، فكم من قلة مؤمنة قهرت كثرة كافرة، قال الله تعالى: (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)، وقد تكرر هذا في تاريخ أمتنا كثيرًا، ومن ذلك ما وقع في غزوة الأمراء، أو غزوة مؤتة، وهي أول لقاء بين المسلمين والروم، بل أول لقاء مع العجم، وهو أول لقاء خارج الجزيرة العربية.

نبض معركة مؤتة

في جمادى الأولى سنة ثمان للهجرة (8هـ) بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثة إلى مؤتة، واستعمل عليهم زيد بن حارثة.

قَالَ أَبُو قَتَادَةَ -فَارِسُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَيْشَ الْأُمَرَاءِ وَقَالَ: «عَلَيْكُمْ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ, فَإِنْ أُصِيبَ زَيْدٌ فَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ, فَإِنْ أُصِيبَ جَعْفَرٌ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ», فَوَثَبَ جَعْفَرٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, مَا كُنْتُ أَرْهَبُ أَنْ تَسْتَعْمِلَ عَلَيَّ زَيْدًا, فَقَالَ: «امْضِ, فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَيُّ ذَلِكَ خَيْرٌ».

فتجهز الناس ثم تهيئوا للخروج، وهم ثلاثة آلاف، فلما حضر خروجهم، ودع الناسُ أمراءَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وسلموا عليهم، فلما ودع عبد الله بن رواحة من ودع، من أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى، فقالوا: ما يبكيك يا ابن رواحة؟ فقال: أما والله ما بي حب الدنيا ولا صبابة بكم، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ آية من كتاب الله عز وجل، يذكر فيها النار: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا)، فلست أدرى كيف لى بالصدور بعد الورود؟ فقال المسلمون: صحبكم الله ودفع عنكم، وردكم إلينا صالحين. ثم خرج القوم، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يودعهم، وكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ثُمَّ قَالَ: "اغْزُوَا بسمِ اللَّهِ قَاتَلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ اغْزُوَا فَلَا تَغُلُّوا وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تَمْثُلُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ أَوْ خِلَالٍ فَأَيَّتَهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ يُجْرَى عَلَيْهِمْ حُكْمُ الله الَّذِي يُجْرَى عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي يُجْرَى عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ هم أَبَوا فعلهم الْجِزْيَةَ فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ فَلَا تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَلَا ذِمَّةَ نَبِيِّهِ وَلَكِنِ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَكَ وَذِمَّةَ أَصْحَابِكَ فَإِنَّكُمْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ أَصْحَابِكُمْ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ وَإِنْ حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي: أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لَا؟" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ثم مضوا حتى نزلوا معان، من أرض الشام، فبلغ الناس أن هرقل قائد الروم قد نزل مآب من أرض البلقاء، في مائة ألف من الروم، وانضم إليهم مائة ألف منهم أخرى من نصارى الشام، فبلغ قوام الجيش مائتي ألف من الروم ونصارى الشام الذين خرجوا معهم، فلما بلغ ذلك المسلمون أقاموا في معان ليلتين، يفكرون ويتشاورون في أمرهم، وقالوا: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا بالرجال، وإما أن يأمرنا بأمره، فنمضي له.

فقام عبد الله بن رواحة، فشجع الناس، وقال: يا قوم! والله إن التي تكرهون، لَلَتِي خرجتم تطلبون الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذى أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظهور، وإما شهادة. فقال الناس: قد والله صدق ابن رواحة.

فمضى الناس، حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء، لقيتهم جموع هرقل، من الروم ونصارى العرب، بقرية من قرى البلقاء، يقال لها: مشارف، ثم دنا العدو، وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها: مؤتة، فالتقى الناس عندها، فتعبأ لهم المسلمون، فجعلوا على الميمنة قطبة بن قتادة من بنى عذرة، وعلى الميسرة عباية بن مالك من الأنصار، ثم التقى الناس واقتتلوا، فقاتل الأمير الأول زيد بن حارثة براية رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شاط فى رماح القوم –أي سال دمه حتى مات-.

ثم أخذها الأمير الثاني جعفر، فقاتل بها، حتى إذا ألجمه القتال، اقتحم عن فرس له شقراء فعقرها، فكان جعفر أول رجل من المسلمين عقر فى الإسلام، فأخذ اللواء بيمينه وقاتل القوم حتى قطعت يمينه، فأخذه بشماله فقطعت، فاحتضنه بعضديه حتى قتل رضى الله عنه، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، فأثابه الله بذلك جناحين فى الجنة يطير بهما حيث شاء.

فلما قتل جعفر، أخذ الأمير الثالث عبد الله بن رواحة الراية، ثم تقدم بها، وهو على فرسه، فجعل يستنزل نفسه، ويتردد بعض التردد، ثم نزل. فلما نزل أتاه ابن عم له بعرق من لحم، فقال: شد بهذا صلبك، فإنك قد لقيت فى أيامك هذه ما لقيت، فأخذه من يده، ثم انتهش منه نهشة، ثم سمع الحطمة فى ناحية الناس، فقال: وأنت فى الدنيا! ثم ألقاه من يده، ثم أخذ سيفه فتقدم، فقاتل حتى قتل.

ثم أخذ الراية ثابت بن أقرم، أخو بنى العجلان، فقال: يا معشر المسلمين، اصطلحوا على رجل منكم، قالوا: أنت، قال: ما أنا بفاعل، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد، فلما أخذ الراية دافع القوم، وحاشى بهم، ثم انحاز وانحيز عنه، حتى انصرف بالناس.

وقيل في ذلك: إن خالدًا قلب ألوية الجيش، فجعل الميمنة ميسرة، والميسرة ميمنة، والمقدمة ساقة، والساقة مقدمة، فلما التقى المسلمون الروم وجدوا وجوهًا غير الوجوه، وظنوا أن المسلمين قد جاءهم مدد، فظفر المسلمون بهم ونالوا منهم.

نبض المدينة النبوية

وفي المدينة صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِنْبَرَ وَأَمَرَ أَنْ يُنَادَى الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ, فَاجْتَمَعَ النَّاسُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "ثَابَ خَيْرٌ، ثَابَ خَيْرٌ" ثَلَاثًا, "ألا أُخْبِرُكُمْ عَنْ جَيْشِكُمْ هَذَا الْغَازِي, إنهم انْطَلَقُوا فَلَقُوا الْعَدُوَّ فَقُتِلَ زَيْدٌ شَهِيدًا فَاسْتَغْفِرُوا لَهُ", فَاسْتَغْفَرَ لَهُ النَّاسُ. "ثُمَّ أَخَذَ اللِّوَاءَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَشَدَّ عَلَى الْقَوْمِ حَتَّى قُتِلَ شَهِيدًا, اشْهَدُوا لَهُ بِالشَّهَادَةِ وَاسْتَغْفِرُوا لَهُ, ثُمَّ أَخَذَ اللِّوَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَأَثْبَتَ قَدَمَيْهِ حَتَّى قُتِلَ شَهِيدًا فَاسْتَغْفِرُوا لَهُ, ثُمَّ أَخَذَ اللِّوَاءَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْأُمَرَاءِ, هُوَ أَمَّرَ نَفْسَهُ", ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ إِنَّهُ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِكَ، فَأَنْتَ تَنْصُرُهُ», فَمِنْ يَوْمَئِذٍ سُمِّيَ سَيْفَ اللَّهِ, وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «انْفِرُوا فَأَمِدُّوا إِخْوَانَكُمْ, وَلَا يَتَخَلَّفَنَّ مِنْكُمْ أَحَدٌ», فَنَفَرُوا مُشَاةً وَرُكْبَانًا.

وعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَى زَيْدًا، وَجَعْفَرًا، وَابْنَ رَوَاحَةَ لِلنَّاسِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ خَبَرُهُمْ، فَقَالَ: «أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَ جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَ ابْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ» وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ: «حَتَّى أَخَذَ الرَّايَةَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ، عَنْ غَيْرِ إِمْرَةٍ فَفُتِحَ لَهُ، حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ: مَا يَسُرُّنَا أَنَّهُمْ عِنْدَنَا، أَوْ قَالَ: مَا يَسُرُّهُمْ أَنَّهُمْ عِنْدَنَا -وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ-» رواه البخاري.

وفي المدينة أيضًا كان النبي صلى الله عليه وسلم يواسي أهل المصاب، ويقوم على حاجاتهم، فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنهما قَالَ بعد أن ذكر صعود النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر وإخباره بالخبر: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "انْفِرُوا فَأَمِدُّوا إِخْوَانَكُمْ, وَلَا يَتَخَلَّفَنَّ أَحَدٌ" فَنَفَرَ النَّاسُ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ, مُشَاةً وَرُكْبَانًا، فَلَمَّا جَاءَ نَعْيُ جَعْفَرٍ، رَجَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَهْلِهِ, فَقَالَ: "إِنَّ آلَ جَعْفَرٍ قَدْ شُغِلُوا بِشَأنِ مَيِّتِهِمْ، فَاصْنَعُوا لَهُمْ طَعَامًا)، وفي رواية: (اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا , فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ)، ثُمَّ أَمْهَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم آلَ جَعْفَرٍ ثَلَاثًا أَنْ يَأتِيَهُمْ, ثُمَّ أَتَاهُمْ, فَقَالَ: "لَا تَبْكُوا عَلَى أَخِي بَعْدَ الْيَوْمِ"، ثُمَّ قَالَ: "ادْعُوا لِي ابْنَيْ أَخِي", قَالَ عَبْدُ اللهِ بن جعفر: فَجِيءَ بِنَا كَأَنَّا أَفْرُخٌ, فَقَالَ: "ادْعُوا إِلَيَّ الْحَلَّاقَ", فَجِيءَ بِالْحَلَّاقِ, فَحَلَقَ رُءُوسَنَا, ثُمَّ قَالَ: "أَمَّا مُحَمَّدٌ, فَشَبِيهُ عَمِّنَا أَبِي طَالِبٍ, وَأَمَّا عَبْدُ اللهِ, فَشَبِيهُ خَلْقِي وَخُلُقِي", ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَأَشَالَهَا فَقَالَ: "اللَّهُمَّ اخْلُفْ جَعْفَرًا فِي أَهْلِهِ, وَبَارِكْ لِعَبْدِ اللهِ فِي صَفْقَةِ يَمِينِهِ, اللَّهُمَّ اخْلُفْ جَعْفَرًا فِي أَهْلِهِ, وَبَارِكْ لِعَبْدِ اللهِ فِي صَفْقَةِ يَمِينِهِ, اللَّهُمَّ اخْلُفْ جَعْفَرًا فِي أَهْلِهِ, وَبَارِكْ لِعَبْدِ اللهِ فِي صَفْقَةِ يَمِينِهِ -قَالَهَا ثَلَاثَ مِرَارٍ-", قَالَ: فَجَاءَتْ أُمُّنَا فَذَكَرَتْ لَهُ يُتْمَنَا, وَجَعَلَتْ تُفْرِحُ لَهُ فَقَالَ لَهَا: "الْعَيْلَةَ تَخَافِينَ عَلَيْهِمْ وَأَنَا وَلِيُّهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؟" رواه أحمد بتمامه وصححه الألباني.

ثم هنا سؤال اختلف فيه أهل السير: ما نتيجة غزوة مؤتة، النصر أم الهزيمة؟

الصحيح أنها كانت نصرًا لا هزيمة، وأدلة ذلك أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «اللَّهُمَّ إِنَّهُ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِكَ، فَأَنْتَ تَنْصُرُهُ» رواه أحمد وابن أبي شيبة في مصنفه وصححه الألباني، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَتَّى أَخَذَ الرَّايَةَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ، عَنْ غَيْرِ إِمْرَةٍ فَفُتِحَ لَهُ، حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» رواه البخاري. فهذا دليل على أنه نصر وفتح من الله تعالى.

ومما يوضح احتساب النصر للمسلمين على الروم: أنه جاء في أخبار المعركة أن عدد من قتلوا من المسلمين اثنا عشر شهيدًا.

قال ابن كثير رحمه الله تحت عنوان: " فصل في من استشهد يوم مؤتة من المسلمين": ... فالمجموع على القولين اثنا عشر رجلاً، وهذا عظيم جدًا أن يتقاتل جيشان متعاديان في الدين، أحدهما وهو الفئة التي تقاتل في سبيل الله، عدتها ثلاثة آلاف مقاتل، وأخرى كافرة عدتها مائتا ألف مقاتل، من الروم مائة ألف، ومن نصارى العرب مائة ألف، يتبارزون ويتصاولون، ثم مع هذا كله لا يقتل من المسلمين إلا اثنا عشر رجلاً، وقد قتل من المشركين خلق كثير. هذا خالد وحده يقول: لقد اندقت في يدي يومئذ تسعة أسياف، وما صبرت في يدي إلا صفيحة يمانية. فماذا ترى قد قتل بهذه الأسياف كلها؟! اهـ [صفيحة: أي سيف عريض].

وهذا مما يوضح ضراوة القتال في تلك المعركة، ومما يوضح ذلك أيضًا أن عَبْدَ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: كُنْتُ فِيهِمْ فِي تِلْكَ الغَزْوَةِ، فَالْتَمَسْنَا جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَوَجَدْنَاهُ فِي القَتْلَى، وَوَجَدْنَا مَا فِي جَسَدِهِ بِضْعًا وَتِسْعِينَ، مِنْ طَعْنَةٍ وَرَمْيَةٍ. رواه البخاري. وفي رواية أَنَّهُ وَقَفَ عَلَى جَعْفَرٍ يَوْمَئِذٍ، وَهُوَ قَتِيلٌ، فقال: فَعَدَدْتُ بِهِ خَمْسِينَ، بَيْنَ طَعْنَةٍ وَضَرْبَةٍ، لَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ فِي دُبُرِهِ -يَعْنِي فِي ظَهْرِهِ-. رواه البخاري.

ثم إن انحياز خالد رضي الله عنه بالجيش يحسب له، فقد كان انحيازه وانصرافه بالناس منظمًا، وَعُدَّ نصرًا، إذ لو لم يكن كذلك لزحف الروم خلف الجيش المسلم وأغاروا على جزيرة العرب، فلما لم يفعلوا ذلك علمنا تحقق النصر للمسلمين، بفضل الله ومنته.

ومن ذلك أيضًا أن المسلمين غنموا في تلك الغزوة، وعادوا بالغنائم إلى المدينة، فعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ، قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ فَرَافَقَنِي مَدَدٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُ سَيْفِهِ، فَنَحَرَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ جَزُورًا فَسَأَلَهُ الْمَدَدِيُّ طَائِفَةً مِنْ جِلْدِهِ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ، فَاتَّخَذَهُ كَهَيْئَةِ الدَّرْقِ وَمَضَيْنَا فَلَقِينَا جُمُوعَ الرُّومِ وَفِيهِمْ رَجُلٌ عَلَى فَرَسٍ لَهُ أَشْقَرَ عَلَيْهِ سَرْجٌ مُذْهَبٌ وَسِلَاحٌ مُذْهَبٌ، فَجَعَلَ الرُّومِيُّ يُغْرِي بِالْمُسْلِمِينَ، فَقَعَدَ لَهُ الْمَدَدِيُّ خَلْفَ صَخْرَةٍ فَمَرَّ بِهِ الرُّومِيُّ فَعَرْقَبَ فَرَسَهُ فَخَرَّ وَعَلَاهُ فَقَتَلَهُ وَحَازَ فَرَسَهُ وَسِلَاحَهُ، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْمُسْلِمِينَ بَعَثَ إِلَيْهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَأَخَذَ مِنَ السَّلَبِ. قَالَ عَوْفٌ: فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: يَا خَالِدُ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنِّي اسْتَكْثَرْتُهُ. قُلْتُ: لَتَرُدَّنَّهُ عَلَيْهِ أَوْ لَأُعَرِّفَنَّكَهَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَبَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ قَالَ عَوْفٌ: فَاجْتَمَعْنَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ قِصَّةَ الْمَدَدِيِّ وَمَا فَعَلَ خَالِدٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا خَالِدُ مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟» قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدِ اسْتَكْثَرْتُهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا خَالِدُ رُدَّ عَلَيْهِ مَا أَخَذْتَ مِنْهُ». قَالَ عَوْفٌ: فَقُلْتُ لَهُ: دُونَكَ يَا خَالِدُ، أَلَمْ أَفِ لَكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَا ذَلِكَ؟» فَأَخْبَرْتُهُ قَالَ: فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا خَالِدُ لَا تَرُدَّ عَلَيْهِ، هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِي أُمَرَائِي؟ لَكُمْ صَفْوَةُ أَمْرِهِمْ وَعَلَيْهِمْ كَدَرُهُ» رواه مسلم وأبو داود واللفظ له.

من دروس مؤتة

1- النصر ليس بالكثرة بل هو بالثبات والصبر وتقوى الله؛ فالنصر من عند الله تعالى؛ ولو كان المسلمون قلة إذا رجعوا إلى دينهم ونصروا الله في أنفسهم، قال تعالى: (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)، وقال تعالى: (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)، وقال تعالى: (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ).

2- ميزان التفاضل هو التقوى، ولذا وَلّى صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة مولاه وقَدّمه على ابن عمه الشريف القرشي، وابن رواحة الأنصاري.

3- الوصية النبوية للجيش تمثل سماحة الإسلام وقمة العدل والإِنصاف، فلا تدمير للممتلكات، ولا قتل للضعفاء والعجزة وغير المقاتلين.

4– الاستعداد والتخطيط والتدبير الجيد للمعركة حيث أمّر النبي صلى الله عليه وسلم زيد ثم قال، فإن أصيب فجعفر، ثم قال: فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة.

5- إيمان الصحابة العميق وشجاعتهم وحبهم للشهادة وحرصهم عليها، الذي جعل المسلمين يتقدمون لملاقاة جيش يفوق جيشهم، في غير تردد أو خوف من الموت في سبيل الله.

6- منزلة جعفر ومن معه من القادة وأنهم من أهل الجنة.

7- رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالمسلمين، فقد حزن وبكى عندما نعى الأمراء، ودمعت عيناه.

8- خالد بن الوليد سيف من سيوف الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وهبه الله عبقرية عسكرية نادرة.

9- مؤتة أول لقاء بين المسلمين والروم، اكتسب منه المسلمون خبرة أفادتهم عند الفتوحات الإِسلامية لبلاد الشام.

10- من أعلام النبوة، ومن معجزات النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة مؤتة، أنه حين عيّن الأمراء أشار من طرفٍ خفىٍّ إلى استشهادهم حيث أمّر ثلاثة أمراء على الترتيب.

ومن ذلك أن الله تعالى أطلعه على كل ما دار في أرض المعركة بمؤته، وأراهُ ما كان فيها، فنعى الشهداء إلى أهليهم قبل أن يأتيه الخبر من أرض المعركة.

11- موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من أسر الشهداء، فيه توجيه للمسلمين إلى ما يجب عليهم نحو المحزونين من عناية ومواساة لهم وإعداد طعام يبعثون به إليهم، لأنهم قد شغلوا بأنفسهم.

12- موقف خالد بن الوليد ومهارته الحربية غيرت الوضع في هذه المعركة، من خوف إلى أمن، ومن هزيمة إلى نصر، لأن إنقاذ الجيش من فناء محقق والنجاة في مثل هذا الظرف العصيب يقوم مقام النصر وزيادة.

مع تحيات

اللجنة العلمية لملتقى الخطيب المؤثر أسد المنابر