الهدف من الخطبة ضبط المفاهيم وبيان الحقائق عن المسجد الأقصى وأنه ميراث المؤمنين دون المشركين.
((تاريخ الأقصى))
الهدف من الخطبة ضبط المفاهيم وبيان الحقائق عن المسجد الأقصى وأنه ميراث المؤمنين دون المشركين.
عناصر الموضوع
1- الأقصى أُسس على التوحيد والتقوى
2- الأنبياء موحدون
3- الأقصى ميراث أتباع الأنبياء
تاريخ الأقصى
مقدمة الموضوع: أما بعد، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَمَسْجِدِي هَذَا". متفق عليه.
قال ابن حجر رحمه الله: وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ فَضِيلَةُ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ وَمَزِيَّتُهَا عَلَى غَيْرِهَا لِكَوْنِهَا مَسَاجِدَ الْأَنْبِيَاءِ، وَلِأَنَّ الْأَوَّلَ قِبْلَةُ النَّاسِ وَإِلَيْهِ حَجُّهُمْ، وَالثَّانِي كَانَ قِبْلَةَ الْأُمَمِ السالفة وَالثَّالِث أسس على التقوى.
الأقصى أُسس على التوحيد والتقوى
المسجد الأقصى هو اسم لمسجد بيت المقدس بالشام، وسُمِّيَ اَلْأَقْصَى لِبُعْدِهِ عَنْ الْمَسْجِدِ اَلْحَرَام فِي الْمَسَافَةِ، وقيل: لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ وَرَاءَهُ مَسْجِد، وَقِيلَ: هُوَ أَقْصَى بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَسْجِدِ اَلْمَدِينَةِ, فهو بَعِيدٌ مِنْ مَكَّةَ, وَبَيْتُ اَلْمَقْدِسِ أَبْعَدُ مِنْهُ.
والمسجد الأقصى هو جميع الأرض التي داخل السور بمدينة القدس بأرض فلسطين، والذي يبلغ مائة وأربعة وأربعين ألف متر مربع (144000 م2)، ويشتمل على المسجد القبلي ذو القبة الرصاصية، ومسجد قبة الصخرة، فضلاً عن مائتي مَعْلَم آخر من مساجد وقباب ومدارس ومكاتب ومصاطب وأروقة وأشجار ومحاريب ومنابر ومآذن وأبواب وساحات، وغيرها.
وقد اختلف أهل العلم فيمن قام ببناء المسجد الأقصى من الأنبياء، فقيل: نبي الله آدم عليه السلام، وقيل: نبي الله إبراهيم صلى الله عليه وسلمَ، وقيل: إسحاق عليه السلام، وقيل: يعقوب عليه السلام، وقيل: سليمان عليه السلام.
والصحيح أن تأسيس المسجد الأقصى كان بعد المسجد الحرام بأربعين سنة، فعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه أنه قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ: أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ أَوَّلُ؟ قَالَ: «الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ». قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى». قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: «أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَأَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ فَصَلِّ فَهُوَ مَسْجِدٌ». رواه مسلم؛ فالراجح أن تأسيس المسجد الأقصى كان في عهد إبراهيم عليه السلام أو قريبًا منه؛ حيث إن إبراهيم عليه السلام هو من قام بإعمار الأرض المقدسة، قال تعالى: (وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ).
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ إِبْرَاهِيمَ، أَنَّهُ سَلَّمَهُ اللَّهُ مِنْ نَارِ قَوْمِهِ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ مُهَاجِرًا إِلَى بِلَادِ الشَّامِ، إِلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ مِنْهَا. انتهى.
أما سليمان عليه السلام فجاء بعد إبراهيم عليه السلام بزمان طويل، ولا شك أن سليمان عليه السلام قد قام ببناء المسجد الأقصى بناء تجديد لا تأسيس؛ فعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَنَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ سَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خِلَالًا ثَلَاثَةً: سَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حُكْمًا يُصَادِفُ حُكْمَهُ فَأُوتِيَهُ، وَسَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ فَأُوتِيَهُ، وَسَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حِينَ فَرَغَ مِنْ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ أَنْ لَا يَأْتِيَهُ أَحَدٌ لَا يَنْهَزُهُ إِلَّا الصَّلَاةُ فِيهِ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ". رواه النسائي وابن ماجه وصححه الألباني.
وسواء قام إبراهيم عليه السلام أو أحد ذريته ببناء المسجد الأقصى فإنه بني على التوحيد والتقوى لا على الشرك والفسوق؛ فإن إبراهيم عليه السلام كان حنيفًا مسلمًا ولم يكن من المشركين ولا تزال النبوة والرسالة في ذريته حتى ختمت الرسالات ببعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلمَ من ذريته عليه السلام.
الأنبياء موحدون
لماذا يتنازع اليهود والنصارى على شرف الانتساب لإبراهيم عليه السلام وهو بريء منهم؟!
نحن أولى وأحق بالخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فإنه إمام وولي للموحدين والمؤمنين، وقد تبرأ من الشرك والمشركين.
قال تعالى: (يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ . هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ . مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ).
وقال تعالى: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ . إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ . وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ . أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ).
وقال سبحانه: (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).
وقال تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ . إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ).
إن ميراث إبراهيم عليه السلام ميراث ملة ودين وعقيدة لا يستحقه إلا من كان على دينه من الإيمان والتوحيد، وهكذا ميراث إخوانه من الأنبياء والمرسلين.
الأقصى ميراث أتباع الأنبياء
قال تعالى: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ . أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)، وقال سبحانه: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا).
لا حق للمشركين في المساجد ولو كان لهم عناية ببنيانها وتشييدها، أو كان لهم عناية بالفقراء والمساكين من إطعام الطعام ونحوه، فضلاً عن أن يكونوا هدّامين لبيوت الله، ظالمين لخلق الله، سفاكيم للدماء، منتهكين للأعراض، أمثال اليهود قاتلهم الله الجبار.
لما كانت الرسالة في بني إسرائيل وكانوا مسلمين فُضِّلوا على العالمين وورثوا الأنبياء والرسل والمسجد الأقصى، وشرط ذلك الإيمان وعدم الكفر، ثم إنهم لما بدلوا وغيروا أُخذوا بالسنين والعذاب، ورفع النعم، وحلول النقم، وجرت فيهم سنة التدوال بين الناس، فقُتِّلوا وهُجِّروا وهدم المسجد الأقصى ودمرت مدينة بيت المقدس، وهذا له شواهد على مر التاريخ، ومن ذلك:
1- بعد ملك يوسف عليه السلام لمصر، وحصول الجدب والقحط في بلاد الشام أيام يعقوب عليه السلام، هاجر يعقوب عليه السلام ببني إسرائيل إلى مصر، قال تعالى: (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ)، ثم إنهم مكثوا فيها حتى عهد موسى وهارون عليهما السلام حتى خرجوا معهما بعد ما أصاب بني إسرائيل ما أصابهم من بغي فرعون وبطشه، قال تعالى: (وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى . فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ . وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى . يَابَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى . كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى)؛ فلما هلك فرعون وكان موسى عليه السلام قريبًا من بيت المقدس وقد سكنها الجبارون، أمر موسى عليه السلام بني إسرائيل أن يقاتلوا الجبارين، ويدخلوا الأرض المقدسة، فقد كتبها الله لهم -ما داموا مسلمين- فأبوا فضرب الله تعالى عليهم التيه، قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ . يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ . قَالُوا يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ . قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . قَالُوا يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ . قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ . قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِين)؛ ومات هارون عليه السلام ثم مات موسى عليه السلام في زمن التيه، وجاء يوشع بن نون عليه السلام فأمر بني إسرائيل بدخول الأرض المقدسة التي أبوا دخلوها من قبل، فأطاعوه وحبست لهم الشمس حتى دخلوا المدينة وفتحوا بيت المقدس، وسكنها المؤمنون من بني إسرائيل مدة من الزمان إلى أن وقع ما أخبر الله تعالى عنهم من الفساد والعلو، قال تعالى: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا . فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا . ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا)، وكان الإفساد الذي وقع منهم: فساد الاعتقاد والعمل، من الشرك والكفر وتكذيب الأنبياء وقتلهم بغير حق بعد ما جاءوهم بالبينات الواضحات والآيات المحكمات، ولعل أولى الإفسادتين كانت ظهور بُختُنَصَّر وتدميره لبيت المقدس، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى بعدما ساق بإسناده إلى سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ أنه يَقُولُ: ظَهَرَ بُختنَصَّر عَلَى الشَّامِ، فَخَرَّبَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَقَتَلَهُمْ، ثُمَّ أَتَى دِمَشْقَ فَوَجَدَ بِهَا دَمًا يَغْلِي عَلَى كِبًا، فَسَأَلَهُمْ: مَا هَذَا الدَّمُ؟ فَقَالُوا أَدْرَكْنَا آبَاءَنَا عَلَى هَذَا، وَكُلَّمَا ظَهَرَ عَلَيْهِ الْكِبَا ظَهَرَ. قَالَ: فَقَتَلَ عَلَى ذَلِكَ الدَّمِ سَبْعِينَ أَلْفًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ، فَسَكَنَ؛ ثم قال: وَهَذَا صَحِيحٌ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ، وَأَنَّهُ قَتَلَ أَشْرَافَهُمْ وَعُلَمَاءَهُمْ، حَتَّى إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مَنْ يَحْفَظُ التَّوْرَاةَ، وَأَخَذَ مَعَهُ خَلْقًا مِنْهُمْ أَسْرَى مِنْ أَبْنَاءِ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ. انتهى.
2- وفق الله تعالى بني إسرائيل إلى التوبة في عهد نبي لهم جاء من بعد موسى عليه السلام، فسألوا نبيهم أن يبعث فيهم من يقودهم لقتال الكفار الذين ظهروا على بيت المقدس، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ . وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا..) الآيات، إلى قوله تعالى: (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ)؛ آتى الله تعالى داود عليه السلام الملك بعد طالوت فملك بيت المقدس، وآتاه الحكمة وجعله نبيًا، وآتاه الزبور، وآتاه فضلاً عظيمًا، قال تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا..) الآيات، ثم ورثه سليمان عليه السلام قال تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ . وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَاأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ)، وقد قام سليمان عليه السلام بإعادة بناء المسجد الأقصى.
3- استمر ملك بني إسرائيل لبيت المقدس حتى عهد زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام، ويذكر أن الرومان ظهروا على بني إسرائيل وهدموا المسجد الأقصى، بسبب كفرهم وكبرهم وفسادهم، قال تعالى: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا . عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا).
4- وبعد بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلمَ أخبر أن من علامات الساعة فتح بيت المقدس؛ فعن عَوْف بْن مَالِكٍ أنه قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَهُوَ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ، فَقَالَ: "اعْدُدْ سِتًّا بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ: مَوْتِي، ثُمَّ فَتْحُ بَيْتِ المَقْدِسِ.." الحديث رواه البخاري، وقد فُتح مرتين في أمتنا، الأولى: في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة 16 هـ، وكان فتحًا عظيمًا، استلم عمر مفاتيح بيت المقدس بنفسه، وبنى المسجد الأقصى، وجعل الصخرة خلف قبلته حتى لا تعظم بالصلاة إليها مع الكعبة إذا جعلت في اتجاه القبلة، وبنى عبدالملك بن مروان مسجد قبة الصخرة في عهده.
5- لما وقع التفريط من المسلمين في القرن الخامس الهجري، وغرقوا في البدع والشهوات، تسلط عليهم التتر والصليبين فقتلوا أهل بيت المقدس، ورفعوا الصليب على قبة الصخرة، وظل بيت المقدس تحت الاحتلال الصليبي 88 سنة، جعلوا المسجد الأقصى اسطبلاً للحيوانات، ومكانًا لتجميع القمامة، حتى جاء رجال دولة محمود نور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي وبدأ المسلمون في الإصلاح وقاتلوا الصليبين في معارك أشهرها معركة حطين، فتحرر المسجد الأقصى وعاد إلى المسلمين، وطهر مما تراكم فيه من القمامة ونحوها، وعاد إليه النداء والذكر والصلاة.
6- ثم لما ظهرت البدع والشركيات والتصوف وعبادة القبور في أواخر الدولة العثمانية، تسلط الإنجليز على المنطقة، ووهبوا ما لا يملكون من الأرض إلى اليهود، ولازال المسجد أسيرًا وبيت المقدس محتلاً إلى يومنا هذا.
هذا وسيفتح بيت المقدس مرة أخرى، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلمَ، وسينزل المسيح عيسى ابن مريم فيقتل الخنزير ويضع الجزية ويكسر الصليب ويقتل المسيح الدجال، والعاقبة للمتقين.
مع تحيات اللجنة العلمية لملتقى الخطيب المؤثر أسد المنابر