الغرض من الخطبة: تحقيق مولد النبي صلى الله عليه وسلم، ونسبه الشريف، والحث على اتباع السنة والتحذير من البدع.
(مولد نبي الهدى صلى الله عليه وسلم)
الغرض من الخطبة: تحقيق مولد النبي صلى الله عليه وسلم، ونسبه الشريف، والحث على اتباع السنة والتحذير من البدع.
عناصر الخطبة:
1- تحقيق مولد النبي صلى الله عليه وسلمَ.
2- النسب الشريف للنبي صلى الله عليه وسلمَ.
3- مولد النبي صلى الله عليه وسلم بين السنة والبدعة.
المقدمة: أما بعد، قال الله تعالى: { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128].
بين يدي الخطبة:
تحقيق مولد النبي صلى الله عليه وسلمَ
وُلِدَ رسول الله صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ، لِمَا رَوَاهُ الإمام مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الإِثْنَيْنِ؟ قَالَ: «ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَيَوْمٌ بُعِثْتُ -أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ-».
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: وَهَذَا مَا لا خلاف فِيهِ أَنه ولد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الإِثْنَيْنِ. وَأَبْعَدَ بَلْ أَخْطَأَ مَنْ قَالَ: وُلِدَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِسَبْعَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ. انتهى من السيرة النبوية لابن كثير.
واختلف العلماء وأهل التاريخ والسير في تعيين الشهر واليوم الذي ولد فيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فالجمهور عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ؛ فَقِيلَ: لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْهُ، وَقِيلَ: لِعَشْرٍ خَلَوْنَ مِنْهُ، وَقِيلَ لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْهُ. قال ابن كثير: وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقِيلَ: لسبعة عشر خَلَتْ مِنْهُ، وَقِيلَ: لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْهُ.
وقيل: أَنَّهُ وُلِدَ يَوْمَ الإِثْنَيْنِ لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ.
ثم اختلفوا في العام الذي ولد فيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ قال ابن إسحاق: وَكَانَ مَوْلِدُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَامَ الْفِيلِ.
قال ابن كثير: وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنِ الْجُمْهُورِ؛ ثم قال: وَالْمَقْصُودُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُلِدَ عَامَ الْفِيلِ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ؛ فَقِيلَ بَعْدَهُ بِشَهْرٍ، وَقِيلَ بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَقِيلَ بِخَمْسِينَ يَوْمًا، وَهُوَ أَشْهَرُ، وقيل: بَعْدَهُ بِخَمْسٍ وَخَمْسِينَ لَيْلَةً. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَ عَامُ الْفِيلِ قَبْلَ مَوْلِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَشْرِ سِنِينَ. وَقِيلَ بِثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً. وَقِيلَ: بَعْدَ الْفِيلِ بِثَلَاثِينَ سَنَةً. وقيل: بَعْدَ الْفِيلِ بِأَرْبَعِينَ عَامًا، وَهَذَا غَرِيب جدًا، وَأغْرب مِنْهُ قيل: قَبْلَ الْفِيلِ بِخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً. انتهى باختصار.
فظهر بذلك أن ليلة مولد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليست معلومة على الوجه القطعي، بل اختلف أهل العلم في ذلك، والأقرب والله أعلم أن ذلك كان يوم الإثنين من أيام شهر ربيع الأول من عام الفيل، دون تعيين اليوم الذي ولد فيه على سبيل القطع والجزم واليقين، وحينئذ يكون تعيين مولد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الناحية التاريخية على سبيل الظن.
قال الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: ولد محمد صلى الله عليه وسلم بمكة ولادة معتادة، لم يقع فيها ما يستدعي العجب أو يستلفت النظر، ولم يمكن المؤرخين تحديد اليوم والشهر والعام الذي ولد فيه على وجه الدقة؛ وأغلب الروايات تتجه إلى أن ذلك كان عام هجوم الأحباش على مكة سنة (570 م) في الثاني عشر من ربيع الأول (53 ق. هـ).
وتحديد يوم الميلاد لا يرتبط به من الناحية الإسلامية شيء ذو بال؛ فالأحفال التي تقام لهذه المناسبة تقليد دنيوي لا صلة له بالشريعة.
وقد روى البعض أن إرهاصات بالبعثة وقعت عند الميلاد؛ فسقطت أربع عشرة شرفة من إيوان كسرى؛ وخمدت النار التي يعبدها المجوس؛ وانهدمت الكنائس حول بحيرة (ساوة) بعد أن غاضت.
وهذا الكلام تعبير غلط عن فكرة صحيحة؛ فإنّ ميلاد محمد عليه الصلاة والسلام كان حقا إيذانا بزوال الظلم واندثار عهده واندكاك معالمه. انتهى باختصار من فقه السيرة.
ويرى الشيخ المحقق صفي الرحمن المباركفوري رحمه الله –تبعًا لغيره- أن الراجح في مولد النبي صلى الله عليه وسلم أنه ولد يوم الإثنين التاسع من ربيع أول لأول عام من حادث الفيل.
قال الشيخ المحقق صفي الرحمن المباركفوري: وُلِدَ سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم في شعب بني هاشم بمكة في صبيحة يوم الإثنين التاسع من شهر ربيع الأول، لأول عام من حادثة الفيل، ولأربعين سنة خلت من ملك كسرى أنوشروان، ويوافق ذلك العشرين أو الثاني وعشرين من شهر أبريل سنة 571 م حسبما حققه العالم الكبير محمد سليمان المنصور فوري والمحقق الفلكي محمود باشا. انتهى من الرحيق المختوم.
النسب الشريف للنبي صلى الله عليه وسلمَ
لقد اختار الله تعالى محمدًا صلى الله عليه وسلم ليكون خاتم الأنبياء والمرسلين الذي بشر به الأنبياء السابقون عليهم السلام، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم من أشرف الناس حسبًا ونسبًا، وأعلاهم شرفًا وأصلاً، فكان من خير الأصلاب، شريف في قومه، من أكرم الأنساب من صلب إسماعيل ثم الخليل إبراهيم عليهما السلام، ومن أعرق قبيلة عربية، وهي قريش، ومن أشرف بيت في تلك القبيلة وهو بيت بني هاشم.
عن وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ رضي الله عنه أنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ اللهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ». أخرجه مسلم.
قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128].
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: يَقُولُ تَعَالَى مُمْتَنًّا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ، أَيْ: مِنْ جِنْسِهِمْ وَعَلَى لُغَتِهِمْ، كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ} [الْبَقَرَةِ: 129] ، وَقَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آلِ عِمْرَانَ: 164] ، وَقَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} أَيْ: مِنْكُمْ وَبِلُغَتِكُمْ، كَمَا قَالَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ لِلنَّجَاشِيِّ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ لِرَسُولِ كِسْرَى: إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ فِينَا رَسُولًا مِنَّا، نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِفَتَهُ، وَمُدْخَلَهُ وَمُخْرَجَهُ، وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. انتهى.
وعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «خَرَجْتُ مِنْ نِكَاحٍ وَلَمْ أَخْرُجْ مِنْ سِفَاحٍ مِنْ لَدُنْ آدَمَ إِلَى أَنْ وَلَدَنِي أَبِي وَأُمِّي , لَمْ يُصِبْنِي مِنْ سِفَاحِ الْجَاهِلِيَّةِ شَيْءٌ». أخرجه الآجري في الشريعة والطبراني في الأوسط وحسنه الألباني.
وقد أقر أبو سفيان وهو لم يزل على الكفر بفضل نسب النبي صلى الله عليه وسلم، حينما سأله هرقل عظيم الروم عن نسب النبي صلى الله عليه وسلم، فعن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَهُ: أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانُوا تُجَّارًا بِالشَّأْمِ فِي المُدَّةِ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَادَّ فِيهَا أَبَا سُفْيَانَ وَكُفَّارَ قُرَيْشٍ، فَأَتَوْهُ وَهُمْ بِإِيلِيَاءَ، فَدَعَاهُمْ فِي مَجْلِسِهِ، وَحَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ، ثُمَّ دَعَاهُمْ وَدَعَا بِتَرْجُمَانِهِ، فَقَالَ: أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا بِهَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ؟ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَقُلْتُ أَنَا أَقْرَبُهُمْ نَسَبًا، فَقَالَ: أَدْنُوهُ مِنِّي، وَقَرِّبُوا أَصْحَابَهُ فَاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ، ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُمْ إِنِّي سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ، فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ. فَوَاللَّهِ لَوْلاَ الحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا عَلَيَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْهُ. ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَنْ قَالَ: كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ؟ قُلْتُ: هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ. الحديث أخرجه البخاري ومسلم.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «بُعِثْتُ مِنْ خَيْرِ قُرُونِ بَنِي آدَمَ، قَرْنًا فَقَرْنًا، حَتَّى كُنْتُ مِنَ القَرْنِ الَّذِي كُنْتُ فِيهِ». أخرجه البخاري.
وعَنْه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ». أخرجه مسلم.
وعَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ، قَالَ: قَالَ الْعَبَّاسُ: بَلَغَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضُ مَا يَقُولُ النَّاسُ، قَالَ: فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَقَالَ: «مَنْ أَنَا؟» قَالُوا: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ: «أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِ خَلْقِهِ، وَجَعَلَهُمْ فِرْقَتَيْنِ، فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِ فِرْقَةٍ، وَخَلَقَ الْقَبَائِلَ، فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِ قَبِيلَةٍ، وَجَعَلَهُمْ بُيُوتًا، فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهِمْ بَيْتًا، فَأَنَا خَيْرُكُمْ بَيْتًا وَخَيْرُكُمْ نَفْسًا». أخرجه أحمد والترمذي وحسنه، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: حسن لغيره.
فظهر بهذا أنه من أكرم الناس نسبًا، فهو: أبو القاسم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. ونسبه صلى الله عليه وسلم إلى هنا معلوم الصحة، وما فوق عدنان مختلف فيه، ولا خلاف أن عدنان من ولد إسماعيل عليه السلام. والصواب أن إسماعيل عليه السلام هو الذبيح، والقول بأن الذبيح هو إسحاق قول باطل.
مولد النبي صلى الله عليه وسلم بين السنة والبدعة
إن تعظيم النبي صلى الله عليه وسلمَ هو ما يقتضيه مقام النبوة والرسالة من كمال الأدب وتمام التوقير، وهو من أعظم مظاهر حبه، ومن آكد حقوقه صلى الله عليه وسلمَ على أمته، كما أنه من أهم واجبات الدين، وتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم يكون بالقلب، واللسان والجوارح؛ فالتعظيم بالقلب، هو ما يستلزم اعتقاد كونه رسولاً اصطفاه الله برسالته، وخصه بنبوته، وأعلى قدره، ورفع ذكره، وفضله على سائر الخلق أجمعين، كما يستلزم تقديم محبته على النفس والولد والوالد والناس أجمعين.
أما التعظيم باللسان فيكون بالثناء عليه بما هو أهله، مما أثنى به عليه ربه، أو أثنى به على نفسه، من غير غلو ولا تقصير، ويدخل في ذلك الصلاة والسلام عليه، كما يشمل الأدب في الخطاب معه والحديث عنه صلى الله عليه وسلمَ.
وأما التعظيم بالجوارح فيشمل العمل بطاعته، وتجديد متابعته، وموافقته في حب ما يحبه، وبغض ما يبغضه، والسعي في إظهار دينه، ونصرة شريعته، والذب عنه وصون حرمته.
وقد أوجب الله على الأمة كلها تعظيم النبي صلى الله عليه وسلمَ وتوقيره، وبين لهم كيفية التأدب معه صلى الله عليه وسلمَ، قال تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا . لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا)، فالتسبيح لله عز وجل، والتعزير والتوقير للنبي صلى الله عليه وسلمَ، وقال تعالى: (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)، والتعزير بمعنى التعظيم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: والتعزير اسم جامع لنصره وتأييده ومنعه من كل ما يؤذيه، والتوقير اسم جامع لكل ما فيه سكينة وطمأنينة من الإجلال والإكرام، وأن يعامل من التشريف والتكريم والتعظيم بما يصونه عن كل ما يخرجه عن حد الوقار. انتهى.
إن حقيقة محبة المسلم للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتعظيمه له ليست مجرد ادعاء بالأقوال، بل يلزم انقياد الجوارح باتباعه وطاعته؛
قال الله تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، قال ابن كثير رحمه الله: هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله، وليس هو على الطريقة المحمدية فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر، حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأحواله، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلمَ أنه قال: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" ولهذا قال: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} أي: يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه، وهو محبته إياكم، وهو أعظم من الأول، كما قال بعض الحكماء العلماء: ليس الشأن أن تُحِبَّ، إنما الشأن أن تُحَبَّ؛ وقال الحسن البصري وغيره من السلف: زعم قوم أنهم يحبون الله فابتلاهم الله بهذه الآية، فقال: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله}. انتهى.
فبقدر محبة العبد للنبي صلى الله عليه وسلمَ يكون اتباعه له، وهذا يعني نبذ الهوى أيًا كانت غلبته، ولو رأى العبد أنه من القربات، إذ من لوزام المحبة التصديق التام وعدم المخالفة ولو بزعم المحبة؛ فالمحبة تعني طاعة المحبوب، وقد يسول الشيطان لبعض الناس أنواعًا من الغلو ويوسوس لهم أنها من القربات المقربات وهي في الحقيقة من البدع والمهلكات؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلمَ بين كل قربة ونهى عن كل بدعة؛ فيلزم الالتزام بما بينه وترك ما نهى عنه.
ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلمَ نهى عن الغلو والإطراء فيه، ونهى عن المبالغة في مدحه، ورفعه فوق منزلته؛ فعَنْ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ فَقُولُوا: عبدُ الله ورسولُه". مُتَّفق عَلَيْهِ.
فالمحبة الحقيقية في الاتباع والاقتداء بهديه وسنته، لا بادعاء محبته بالابتداع، والمبالغة في مدحه ونحوه، حتى بلغ الأمر ببعضهم أن ينسب إليه معرفة علم الغيب، وتصريف أمور الكون، ونحو ذلك مما لا يستقيم مع المحبة الصادقة، فإن المحب لمن أحب مطيع.
فينبغي التنبيه على أمرين: الأول: أنه يجب على المسلم المعظم لرسول الله صلى الله عليه وسلمَ أن يفرق بين حقوق الله تعالى التي هي من خصائص ربوبيته وألوهيته، والتي لا يجوز صرفها لغير الله تعالى، وبين حقوق النبي صلى الله عليه وسلمَ ليضع كل شيء في موضعه حتى لا يقع في الشرك والغلو.
الأمر الثاني: الفرق بين التعظيم المشروع وغير المشروع، ينبغي على المسلم أن يعلم أن التعظيم الذي أوجبه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم هو التعظيم المشروع اللائق بمقام النبوة والرسالة، ومداره على الاتباع والاقتداء به صلى الله عليه وسلمَ؛ فحيثما بلغ الاتباع بلغت المحبة والتعظيم، فبحسب الاتباع يكون التعظيم والمحبة.
وننبه هنا إلى حكم الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلمَ:
أولاً: كما سبق أن مولده صلى الله عليه وسلمَ لم يثبت من الناحية التاربخية على سبيل القطع واليقين.
ثانيًا: الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلمَ من الناحية الشرعية لا أصل له؛ لأنه لو كان من شرع الله لفعله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو بلغه لأمته؛ فلما لم يكن شيء من ذلك عُلم أنه ليس من دين الله، وإذا لم يكن من دين الله فإنه لا يجوز لنا أن نتعبد به لله عز وجل أو نتقرب به إليه، فإن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلمَ، وكل بدعة ضلالة، ولو كان خيرًا لسبقونا، وكل خير في اتباع من سلف، وكل شرع في ابتداع من خلف.
والاحتفال بالمولد بدعة أحدثها الفاطميون بنو عبيد الله القداح في القرن الرابع والخامس الهجري؛ فهل يعقل أن يغيب الخير والحق عن النبي صلى الله عليه وسلمَ، ثم عن الصحابة رضي الله عنهم، ثم عن التابعين وأتباع التابعين وعلماء المسلمين كالأئمة الأربعة ثم يظهر فجأة على يد الشيعة الباطنية؟! أيعبد الله تعالى بما يتصل سنده إلى أهل الضلال؟!
إن الاحتفال المولد لم يثبت عن العدول الثقات، وليس له سند ينتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلمَ أو إلى حملة المنهج من أهل السنة والجماعة رضي الله عنهم، فلا يجوز الاحتفال بذلك.
ولا شك أن بعض الذين يحتفلون بالمولد يريدون بذلك تعظيم الرسول عليه الصلاة والسلام، وإظهار محبته في ذلك الاحتفال، ولكن كم من مريد للخير لا يبلغه؛ لأنه لا يجوز التقرب إلى الله تعالى إلا بما شرعه، والاحتفال بالمولد بدعة غير مشروعة لا تجوز.
هذا في أصل الاحتفال إذا خلا من منكرات، بمعنى أن هذا في تخصيص يوم المولد بالاجتماع فيه على الذكر وتلاوة القرآن والطعام والشراب والأمور المباحة؛ أما إذا اشتمل على منكرات -كما هو الحال- من الغلو والإطراء والمدح والغناء والإنشاد المشتمل على الاستغاثة وطلب المدد وغيرها من أمور الشرك، ومن الرقص والمزمار والطبل والاختلاط والمخدرات ونحو ذلك، فإن ذلك أعظم فسادًا وإثمًا، وهي مجالس الشيطان زعموا حب النبي صلى الله عليه وسلمَ واتخذوا ذلك وسيلة لارتكاب المنكرات، والله المستعان.
وقد يحتج بعض من يسوغون الاحتفال بأن النبي صلى الله عليه وسلمَ كان يحتفل بمولده فيصوم يوم الإثنين كما رواه مسلم عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الإِثْنَيْنِ؟ قَالَ: «ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَيَوْمٌ بُعِثْتُ -أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ-».
فيقال لهم: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ في جوابه بين المولد والبعثة ولم يخص المولد بالذكر، ولم يذكر أن ذلك عيدًا أو احتفالاً منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمولده، ثم إنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يجعله عيدًا سنويًا بل كان يصوم ما شاء الله، فإن كان هذا احتفالاً، فلماذا لا نلتزم به كما جاء دون تغيير أو تبديل، فنصوم يوم الإثنين أسبوعيًا أو نكثر من صومه؟ وإن كان هذا الصوم احتفالاً وداومتم عليه فلماذا التوسع عما ثبت فيه؟ هل في الحديث: احتفلوا بمولدي؟! هل في الحديث خُصُّوه بشيء؟! هل فيه اجتمعوا وتوسعوا فيه بأمور ما؟! إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوحى إليه وعلينا أن نتبع ولا نبتدع؛ فلا يسعنا إلا العمل بما جاء كما جاء.
إن صوم يوم الإثنين سنة ثابتة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستحب للمسلم العمل بها والمحافظة عليها سواء أعلم سبب صيام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهذا اليوم أم لا، ونلزم من يستدل بهذا الحديث على جواز الاحتفال بلزوم ما جاء كما جاء دون زيادة أو نقصان أو تغيير أو تبديل، والعمل بما شرعه الله تعالى، فإن احتجاجه بهذا الحديث الشريف حجة عليه.
مع تحيات
اللجنة العلمية لملتقى الخطيب المؤثر أسد المنابر