الخميس ، ١٩ جمادى الأول ، ١٤٤٦ هجري | 21 نوفمبر 2024 ميلادي
الفأل الحسن
وصف الخطبة : -

الهدف من الخطبة بيان حكم الفأل والتشاؤم، والحث على حسن الظن بالله، والتوكل على الله تعالى


(الفأل الحسن))........…

الهدف من الخطبة بيان حكم الفأل والتشاؤم، والحث على حسن الظن بالله، والتوكل على الله تعالى

عناصر الموضوع

1) التشاؤم.

2) الفأل الحسن.

3) توكلنا على الله

الفأل الحسن

المقدمة: أما بعد، قال تعالى: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 131]

قال المفسرون: فإذا جاء آلَ فرعون الخَصْبُ وصلاح الثمار ورخص الأسعار قالوا: اعْطِينَا هذه لاستحقاقنا لها واختصاصنا بها، وإن يَنَلْهُمْ أو تُصِبْهم مصيبة من جَدْب وقَحْط وكثرة أمراض وغيرها من الرزايا يتشاءموا بموسى ومن معه من بني إسرائيل، والحق أن ما يصيبهم من ذلك كله إنما هو بتقدير من الله سبحانه، وليس لهم ولا لموسى عليه السلام شأن فيه إلّا ما كان من دعاء موسى عليهم، ولكن أكثرهم لا يعلمون، فينسبونه إلى غير الله. انتهى من المختصر في التفسير.

وقال تعالى: {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ . قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [يس: 18، 19]

قال الكفار للرسل: إنا تشاءمنا بكم، وإن لم تنتهوا عن دعوتنا إلى التوحيد لنعاقبنكم بالرمي بالحجارة حتى الموت، ولينالنَّكم منا عذاب موجع. فقالت الرسل ردًّا عليهم: شؤمكم ملازم لكم بسبب كفركم بالله وترككم اتباع رسله، أتتشاءمون إن ذكرناكم بالله؟ بل أنتم قوم تسرفون في ارتكاب الكفر والمعاصي.

بين يدي الخطبة:

التحذير من التشاؤم

لقد جاء الإسلام وأبطل كل عقائد الجاهلية التي ما أنزل الله بها من سلطان، فأبطل اعتقادهم في الملائكة، وفي الكهانة، والاستسقاء بالنجوم والاعتقاد فيها، والتبرك بالأحجار والأشجار والأماكن، والاعتقاد في لبس الخيط والحلقة والخرز والتمائم، والحلف بغير الله، والذبح لغير الله، والنذر لغير الله، والاستغاثة بغير الله، وغير ذلك من اعتقادات الجاهلية الباطلة، ومن جملة ذلك: إبطال الإسلام للطيرة والتشاؤم.

إن التطير والتشاؤم من عمل أهل الجاهلية والمشركين، وقد ذمهم الله تعالى به ومقتهم; وقد نهى رسول الله صلي الله عليه وسلم عن التطير وأخبر أنه شرك.

أخرج الإمام البخاري ومسلم رحمهما الله عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: «لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ، وَلاَ هَامَةَ وَلاَ صَفَرَ». وفي رواية للإمام مسلم: «لَا عَدْوَى وَلَا هَامَةَ وَلَا نَوْءَ وَلَا صَفَرَ»، وعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا عَدْوَى، وَلَا طِيَرَةَ، وَلَا غُولَ». أخرجه مسلم.

قَالَ الحافظ البيهقي رحمه الله: ثَابِتٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا عَدْوَى»، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانُوا يَعْتَقِدُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ إِضَافَةِ الْفِعْلِ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَدْ يَجْعَلُ اللَّهُ تَعَالَى بِمَشِيئَتِهِ مُخَالَطَةَ الصَّحِيحِ مَنْ بِهِ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْعُيُوبِ سَبَبًا لِحُدُوثِ ذَلِكَ بِهِ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ»، وَقَالَ فِي الطَّاعُونِ: «مَنْ سَمِعَ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا يَقْدِمَنَّ عَلَيْهِ»، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا فِي مَعْنَاهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. انتهى من معرفة السنن والآثار.

وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أنه قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «لَا يُعْدِي شَيْءٌ شَيْئًا، لَا يُعْدِي شَيْءٌ شَيْئًا، لَا يُعْدِي شَيْءٌ شَيْئًا»، فَقَامَ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، النُّقْبَةُ مِنَ الْجَرَبِ تَكُونُ بِمِشْفَرِ الْبَعِيرِ أَوْ بِذَنَبِهِ فِي الْإِبِلِ الْعَظِيمَةِ فَتَجْرَبُ كُلُّهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَمَا أَجْرَبَ الْأَوَّلَ؟ لَا عَدْوَى، وَلَا هَامَةَ، وَلَا صَفَرَ، خَلَقَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ، فَكَتَبَ حَيَاتَهَا، وَمُصِيبَاتِهَا، وَرِزْقَهَا». أخرجه أحمد والترمذي وصححه الألباني، فأخبر صلي الله عليه وسلم أن ذلك كله بقضاء الله وقدره، والعبد مأمور باتقاء أسباب الشر إذا كان في عافية، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فِرَّ مِنَ المَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ». أخرجه البخاري، فكما أنه يؤمر أن لا يلقي نفسه في الماء وفي النار، مما جرت العادة أنه يهلك أو يضر، فكذلك يجتنب مقاربة المريض كالمجذوم، والقدوم على بلد الطاعون؛ فإن هذه كلها أسباب للمرض والتلف، فالله سبحانه هو خالق الأسباب ومسبباتها، لا خالق غيره ولا مقدر غيره.

قوله: "ولا طيرة" قال ابن القيم رحمه الله: وهذا يحتملُ أن يكون نفيًا، وأن يكون نهيًا، أي: لا تطيَّروا، ولكن قوله في الحديث: "ولا عدوى ولا صفَر ولا هامَة"، يدلُّ على أن المرادَ النفيُ وإبطالُ هذه الأمور التي كانت الجاهليةُ تُعانيها، والنفيُ في هذا أبلغُ من النهي؛ لأنَّ النفيَ يدلُّ على بطلان ذلك وعدم تأثيره، والنهي إنما يدلُّ على المنع منه.

وفي صحيح مسلم من حديث معاوية بن الحكم السُّلمي أنه قال: وَمِنَّا رِجَالٌ يَتَطَيَّرُونَ، قَالَ: "ذَاكَ شَيْءٌ يَجِدُونَهُ فِي صُدُورِهِمْ، فَلَا يَصُدَّنَّهُمْ". فأخبر أنَّ تأذِّيه وتشاؤمَه بالتطيُّر إنما هو في نفسه وعقيدته، لا في المتطيَّر به، فوهمُه وخوفُه وإشراكه هو الذي يُطيِّره ويصدُّه، لا ما رآه وسَمِعَه.

وأوضح النبي صلى الله عليه وسلم لأمته الأمر، وبيَّن لهم فسادَ الطِّيَرة؛ ليعلموا أنَّ الله سبحانه لم يجعل لهم عليها علامة، ولا فيها دلالة، ولا نصبها سببًا لما يخافونه ويَحْذرونه، لتطمئنَّ قلوبُهم، ولتسكُن نفوسُهم إلى وحدانيته تعالى التي أرسَل بها رسله، وأنزَل بها كتبه، وخلَق لأجلها السموات والأرض، وعمَّر الدارين الجنة والنار، فبسبب التوحيد -ومن أجله- جعَل الجنةَ دارَ التوحيد ومُوجَباته وحقوقه، والنارَ دارَ الشرك ولوازمه ومُوجَباته، فقطعَ صلى الله عليه وسلم عَلَقَ الشرك من قلوبهم لئلَّا يبقى فيها علقةٌ منها، ولا يتلبَّسوا بعملٍ من أعمال أهله البتَّة. انتهى باختصار من مفتاح دار السعادة.

قوله: "ولا هَامَة"، طير من طير الليل، ومنه البومة، كان العرب يتشاءمون بها إذا وقعت على بيت أحدهم، يقول: نَعَتْ إليّ نفسي أو أحدا من أهل داري، فجاء الحديث بنفي ذلك وإبطاله.

قوله: "ولا صَفَر" قيل: هي حية أو دودة تكون في البطن تصيب الماشية والناس، وهي أعدى من الجرب عند العرب، وعلى هذا المعنى فالمراد بنفيه ما كانوا يعتقدونه من العدوى.

وقيل: المراد به شهر صفر، والنفي لما كان أهل الجاهلية يفعلونه في النسيء، وكانوا يحلون المحرم ويحرمون صفر مكانه.

وعن بَقِيَّة بن الوليد أنه قَالَ: قُلْتُ لِمُحَمَّدٍ يَعْنِي ابْنَ رَاشِدٍ، قَوْلُهُ «هَامَ»؟ قَالَ: كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تَقُولُ: لَيْسَ أَحَدٌ يَمُوتُ فَيُدْفَنُ إِلَّا خَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ هَامَةٌ، قُلْتُ: فَقَوْلُهُ صَفَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ يَسْتَشْئِمُونَ بِصَفَرٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا صَفَرَ». قَالَ مُحَمَّدٌ: وَقَدْ سَمِعْنَا مَنْ يَقُولُ: هُوَ وَجَعٌ يَأْخُذُ فِي الْبَطْنِ، فَكَانُوا يَقُولُونَ: هُوَ يُعْدِي، فَقَالَ: «لَا صَفَرَ»

وروى أبو داود عن محمد بن راشد عمن سمعه يقول: أن أهل الجاهلية يتشاءمون بصفر، ويقولون: إنه شهر مشئوم; فأبطل النبي صلي الله عليه وسلم ذلك. قال ابن رجب: ولعل هذا القول أشبه الأقوال، والتشاؤم بصفر هو من جنس الطيرة المنهي عنها، وكذلك التشاؤم بيوم من الأيام كيوم الأربعاء، وتشاؤم أهل الجاهلية بشوال في النكاح فيه خاصة.

قوله: "ولا نوء" النوء واحد الأنواء، وهي الاعتقاد في النجوم، فنفى صلى الله عليه وسلم أن يكون للنجوم تأثيرًا في جلب نفع أو دفع ضر، أو معرفة غيب، بل هي خلق من خلق الله تعالى، خلقها الله تعالى لثلاث.

قَالَ قَتَادَةُ السدوسي: إِنَّمَا خُلِقَتْ هَذِهِ النُّجُومُ لِثَلَاثِ خِصَالٍ: خَلَقَهَا اللَّهُ زِينَةً لِلسَّمَاءِ، وَرُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ، وَعَلَامَاتٍ يُهْتَدَى بِهَا، فَمَنْ تَأَوَّلَ فِيهَا غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ قَالَ بِرَأْيِهِ وَأَخْطَأَ حَظَّهُ، وَأَضَاعَ نَصِيبَهُ، وَتَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ. رَوَاهُ ابْنُ جرير.

قال تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} [الملك: 5]، وقال تعالى: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16]، أي: وجعل لكم النجوم في السماء رجاء أن تهتدوا بها ليلًا.

قوله: "ولا غُول" هو واحد الغيلان، وهو جنس من الجن والشياطين كانت العرب تزعم أن الغول في الصحراء تتراءى للناس، تتلون تلونا في صور شتى وتغولهم، أي تضلهم عن الطريق وتهلكهم، فنفاه النبي صلي الله عليه وسلم وأبطله. والمراد ليس نفي وجود الغول، بل ما يزعمه العرب من تصرفه في نفسه، أو أنها لا تستطيع أن تضل أحدا مع ذكر الله والتوكل عليه.

إن التطير والتشاؤم شرك، فلا يجوز التشاؤم بالأيام ولا الأرقام ولا الألوان ولا الأصوات ولا الحيوانات والطيور، ولا أحوال ما وأفعال معينة كسير الطير يمينًا أو يسارًا، فقد حرم الله تعالى الطيرة وأوحى لنبيه صلى الله عليه وسلم أنها من الشرك، وأمره أن يبلغ أمته ذلك، لئلا يتطيروا أو يتشاءموا، بل يتوكلوا على الله تعالى، وكفى بالله وكيلاً.

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: «الطِّيَرَةُ شِرْكٌ، وَمَا مِنَّا إِلَّا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ». أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وصححه الألباني، وأخرجه البيهقي، وقال: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللهُ: يُرِيدُ -وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ- الطِّيَرَةُ شِرْكٌ عَلَى مَا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَعْتَقِدُونَ فِيهَا ثُمَّ قَالَ: وَمَا مِنَّا إِلَّا يُقَالُ: هَذَا مِنْ قَوْلِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَلَيْسَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْلُهُ: وَمَا مِنَّا إِلَّا وَقَعَ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ عِنْدَ ذَلِكَ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، وَقَضَتْ بِهِ التَّجَارِبُ، لَكِنَّهُ لَا يُقُرُّ فِيهِ بَلْ يُحْسِنُ اعْتِقَادَهُ أَنْ لَا مُدَبِّرَ سِوَى اللهِ تَعَالَى، فَيَسْأَلُ اللهَ الْخَيْرَ وَيَسْتَعِيذُ بِهِ مِنَ الشَّرِّ وَيَمْضِي عَلَى وَجْهِهِ مُتَوَكِّلًا عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، كَمَا رُوِّينَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا أُرِيتَ مِنَ الطِّيَرَةِ مَا تَكْرَهُ فَقُلِ: اللهُمَّ لَا يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إِلَّا أَنْتَ وَلَا يَدْفَعُ السَّيِّئَاتِ إِلَّا أَنْتَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ". انتهى من شعب الإيمان.

وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ رَدَّتْهُ الطِّيَرَةُ مِنْ حَاجَةٍ، فَقَدْ أَشْرَكَ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا كَفَّارَةُ ذَلِكَ؟ قَالَ: «أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ: اللَّهُمَّ لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُكَ، وَلَا طَيْرَ إِلَّا طَيْرُكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ». أخرجه أحمد وحسنه الأرناؤوط.

الفأل الحسن

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنه قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ الْفَأْلَ الْحَسَنَ، وَيَكْرَهُ الطِّيَرَةَ». أخرجه أحمد وأبو داود وصححه الألباني، وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: «لَا عَدْوَى، وَلَا طِيَرَةَ، وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ» قَالَ قِيلَ: وَمَا الْفَأْلُ؟ قَالَ: «الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ». متفق عليه، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لاَ طِيَرَةَ، وَخَيْرُهَا الفَأْلُ» قَالُوا: وَمَا الفَأْلُ؟ قَالَ: «الكَلِمَةُ الصَّالِحَةُ يَسْمَعُهَا أَحَدُكُمْ». متفق عليه.

الفأل هو التفاؤل، وهو محبوب لأنه من حسن الظن والرجاء والتوكل على الله تعالى، فالناس إذا أمّلوا فائدة الله ورجوا عائدته عند كل سبب ضعيف أو قوي فهم على خير، وإذا قطعوا آمالهم ورجاءهم من الله تعالى كان ذلك من الشر، بخلاف الطيرة فإن فيها سوء الظن بالله وتوقع البلاء.

قال الحليمي: وإنما كان صلي الله عليه وسلم يعجبه الفأل؛ لأن التشاؤم سوء ظن بالله تعالى بغير سبب محقق، والتفاؤل حسن ظن به، والمؤمن مأمور بحسن الظن بالله تعالى على كل حال. انتهى.

والفأل المشروع هو ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم وهو الكلمة الطيبة، أو الصالحة يسمعها المسلم فيستبشر ويغلب على ظنه تحقق ما يرجوه، ويشترط أن يحصل ذلك اتفاقًا لا عمدًا، وهذا مثل أن يكون رجل مريض فيتفاءل بما يسمع من كلام، فيسمع آخر يقول يا سالم. أو يكون طالب ضالة فيسمع آخر يقول يا واجد. فيقع في ظنه أنه يبرأ من مرضه ويجد ضالته.

قال ابن القيم رحمه الله: ليس في الإعجاب بالفأل ومحبته شيء من الشرك، بل ذلك إبانة عن مقتضى الطبيعة وموجب الفطرة الإنسانية التي تميل إلى ما يوافقها ويلائمها، كما أخبرهم صلي الله عليه وسلم: "أنه حبب إليه من الدنيا النساء والطيب"، وكان يحب الحلواء والعسل، ويحب حسن الصوت بالقرآن والأذان ويستمع إليه، ويحب معالي الأخلاق ومكارم الشيم. وبالجملة يحب كل كمال وخير وما يفضي إليهما، والله سبحانه قد جعل في غرائز الناس الإعجاب بسماع الاسم الحسن ومحبته، وميل نفوسهم إليه، وكذلك جعل فيها الارتياح والاستبشار والسرور باسم الفلاح والسلام والنجاح والتهنئة والبشرى والفوز والظفر ونحو ذلك، فإذا قرعت هذه الأسماء الأسماع استبشرت بها النفوس وانشرح لها الصدر، وقوي بها القلب، وإذا سمعت أضدادها أوجب لها ضد هذه الحال، فأحزنها ذلك، وأثار لها خوفا وطيرة وانكماشا وانقباضا عما قصدت له وعزمت عليه; فأورث لها ضررا في الدنيا ونقصا في الإيمان ومقارفة الشرك.

وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعْجِبُهُ إِذَا خَرَجَ لِحَاجَتِهِ أَنْ يَسْمَعَ: يَا رَاشِدُ، يَا نَجِيحُ. أخرجه الترمذي وصححه الألباني، وعَنْ بُرَيْدَةَ بن الحصيب: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يَتَطَيَّرُ مِنْ شَيْءٍ، وَكَانَ إِذَا بَعَثَ عَامِلًا سَأَلَ عَنِ اسْمِهِ، فَإِذَا أَعْجَبَهُ اسْمُهُ فَرِحَ بِهِ وَرُئِيَ بِشْرُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، وَإِنْ كَرِهَ اسْمَهُ رُئِيَ كَرَاهِيَةُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، وَإِذَا دَخَلَ قَرْيَةً سَأَلَ عَنِ اسْمِهَا فَإِنْ أَعْجَبَهُ اسْمُهَا فَرِحَ وَرُئِيَ بِشْرُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، وَإِنْ كَرِهَ اسْمَهَا رُئِيَ كَرَاهِيَةُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ». أخرجه أحمد والترمذي وصححه الألباني.

وقد كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يغير الاسم القبيح، واستبشر خيرًا لما جاء سهيل بن عمرو لصلح الحديبية، وقال: «لَقَدْ سَهُلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ». أخرجه البخاري.

هذا ولا يجوز التفاؤل بأمور لم يشرع التفاؤل بها، كفتح بعض الناس للمصحف، فإن فتح على آية رحمة أو نحوها استبشر، وإلا تطير، وربما قعد عما عزم على فعله، وكتفاؤل بعضهم ببعض الألوان والأحوال ونحو ذلك مما لم يشرع.

توكلنا على الله

إن التوكل على الله تعالى من أعظم الفلاح في الدنيا والآخرة، فمن توكل على الله تعالى في الدنيا كفاه الله هم الدنيا والآخرة، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]، وقد أمر الله تعالى عباده بالتوكل عليه، فقال: قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء: 81]، وقال سبحانه: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159]، وقال عز وجل: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23].

وحقيقة التوكل: صدق اعتماد القلب على الله تعالى والثقة فيما عنده، مع الأخذ بالأسباب المشروعة.

فمن توكل على الله تعالى، انشرح صدره، وحصل مراده، ونبذ التطير والتشاؤم وكرهه.

قال ابن القيم رحمه الله: من علم أَن الله على كل شَيْء قدير وَأَنه المتفرد بِالِاخْتِيَارِ وَالتَّدْبِير وَأَن تَدْبيره لعَبْدِهِ خير من تَدْبِير العَبْد لنَفسِهِ وَأَنه أعلم بمصلحته من العَبْد وأقدر على جلبها وتحصيلها مِنْهُ وأنصح للْعَبد مِنْهُ لنَفسِهِ وأرحم مِنْهُ بِنَفسِهِ وَأبر بِهِ مِنْهُ بِنَفسِهِ وَعلم مَعَ ذَلِك أَنه لَا يَسْتَطِيع أَن يتَقَدَّم بَين يَدي تَدْبيره خطْوَة وَاحِدَة وَلَا يتَأَخَّر عَن تَدْبيره لَهُ خطْوَة وَاحِدَة فَلَا مُتَقَدم لَهُ بَين يَدي قَضَائِهِ وَقدره وَلَا يتَأَخَّر فَألْقى نَفسه بَين يَدَيْهِ وَسلم الْأَمر كُله إِلَيْهِ وانطرح بَين يَدَيْهِ انطراح عبد مَمْلُوك ضعف بَين يَدي ملك عَزِيز قاهر لَهُ التَّصَرُّف فِي عَبده بِكُل مَا يَشَاء وَلَيْسَ للْعَبد التَّصَرُّف فِيهِ بِوَجْه من الْوُجُوه فاستراح حِينَئِذٍ من الهموم والغموم والأنكاد والحسرات وَحمل كُله حَوَائِجه ومصالحه من لَا يُبَالِي بحملها وَلَا يثقله وَلَا يكترث بهَا فتولاها دونه وَأرَاهُ لطفه وبره وَرَحمته وإحسانه فِيهَا من غير تَعب من العَبْد وَلَا نصب وَلَا اهتمام مِنْهُ لِأَنَّهُ قد صرف اهتمامه كُله إِلَيْهِ وَجعله وَحده همه فصرف عَنهُ اهتمامه بحوائجه ومصالح دُنْيَاهُ وَفرغ قلبه مِنْهَا فَمَا أطيب عيشه وَمَا أنعم قلبه وَأعظم سروره وفرحه.

وَإِن أَبى إِلَّا تَدْبيره لنَفسِهِ واختياره لَهَا واهتمامه بحظه دون حق ربه خلاه وَمَا اخْتَارَهُ وولاه مَا تولى فحضره الْهم وَالْغَم والحزن والنكد الْخَوْف والتعب وكسف البال وَسُوء الْحَال فَلَا قلب يصفو وَلَا عمل يزكو وَلَا أمل يحصل وَلَا رَاحَة يفوز بهَا وَلَا لَذَّة بَينهَا بهَا بل بل قد حيل بَينه وَبَين مسرته وفرحه وقرة عينه فَهُوَ يكدح فِي الدُّنْيَا كدح الْوَحْش وَلَا يظفر مِنْهُ بأمل وَلَا يتزود مِنْهَا لِمَعَاد. انتهى من الفوائد.

قال الشيخ السعدي: ومتى اعتمد القلب على الله، وتوكل عليه، ولم يستسلم للأوهام ولا ملكته الخيالات السيئة، ووثق بالله وطمع في فضله، اندفعت عنه بذلك الهموم والغموم، وزالت عنه كثير من الأسقام القلبية والبدنية، وحصل للقلب من القوة والانشراح والسرور ما لا يمكن التعبير عنه، والمعافى من عافاه الله ووفقه لجهاد نفسه لتحصيل الأسباب النافعة المقوية للقلب، الدافعة لقلقه، قال تعالى "ومن يتوكل على الله فهو حسبه" أي كافيه جميع ما يهمه من أمر دينه ودنياه.

فالمتوكل على الله قوي القلب لا تؤثر فيه الأوهام، ولا تزعجه الحوادث لعلمه أن ذلك من ضعف النفس ومن الخور والخوف الذي لا حقيقة له، ويعلم مع ذلك أن الله قد تكفل لمن توكل عليه بالكفاية التامة، فيثق بالله ويطمئن لوعده، فيزول همه وقلقه، ويتبدل عسره يسرا، وترحه فرحا، وخوفه أمنا فنسأله تعالى العافية وأن يتفضل علينا بقوة القلب وثباته بالتوكل الكامل الذي تكفل الله لأهله بكل خير، ودفع كل مكروه وضير.

ملاحظة: أغلب مادة هذه الخطبة مستفادة من كتاب فتح المجيد شرح كتاب التوحيد.

مع تحيات

اللجنة العلمية لملتقى الخطيب المؤثر أسد المنابر