الخميس ، ١٩ جمادى الأول ، ١٤٤٦ هجري | 21 نوفمبر 2024 ميلادي
دروس من الهجرة النبوية
وصف الخطبة : -

الهدف من الخطبة وقفات مع بعض الدروس المستفادة من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة


((دروس من الهجرة النبوية))

الهدف من الخطبة وقفات مع بعض الدروس المستفادة من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة

عناصر الموضوع

1) الرفيق قبل الطرق.

2) الأخذ بالأسباب.

3) عهده الوفاء وعهدهم الجفاء

دروس من الهجرة النبوية

المقدمة: أما بعد، قال تعالى: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

إن للمتأمل في أحداث هجرة النبي صلى الله عليه وسلم يقف على دروس وعبر كثيرة، ينتفع منها الراغب، ويستفيد منها اللبيب.

ومن تلك الدروس:

بين يدي الخطبة:

الرفيق قبل الطريق

لقد رغب النبي صَلى الله عليه وسلم في أن يكون له رفيقًا وصاحبًا في هجرته من مكة إلى المدينة، ورجا أن يكون أبو بكر الصديق رضي الله عنه هو ذا الصاحب، فبلغه الله ما أراد، فعن عَائِشَةُ رضي الله عنها أنها قالت: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلى الله عليه وسلم لِلْمُسْلِمِينَ: "إِنِّي أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لَابَتَيْنِ" وَهُمَا الْحَرَّتَانِ, فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ الْمَدِينَةِ، وَرَجَعَ عَامَّةُ مَنْ كَانَ هَاجَرَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَاسْتَأذَنَ أَبُو بَكْرٍ النَّبِيَّ صَلى الله عليه وسلم فِي الْخُرُوجِ حِينَ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْأَذَى، فَقَالَ لَهُ رَسُول اللهِ صَلى الله عليه وسلم: "لَا تَعْجَلْ، لَعَلَّ اللهَ يَجْعَلُ لَكَ صَاحِبًا، فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي"، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَلْ تَرْجُو ذَلِكَ بِأَبِي أَنْتَ؟ قَالَ: "نَعَمْ، إِنِّي لَأَرْجُو ذَلِكَ", فَحَبَسَ أَبُو بَكْرٍ نَفْسَهُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلى الله عليه وسلم لِيَصْحَبَهُ, وَعَلَفَ رَاحِلَتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَهُ وَرَقَ السَّمُرِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ -وَهُوَ الْخَبَطُ-، قَالَتْ: فَلَمَّا أُذِنَ لَهُ فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْمَدِينَةِ أَتَاهُ رَسُولُ اللهِ صَلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ ظُهْرًا مُتَقَنِّعًا فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأتِينَا فِيهَا، فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ جَاءَ ظُهْرًا قَالَ: مَا جَاءَنَا رَسُولُ اللهِ صَلى الله عليه وسلم فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلَّا لِأَمْرٍ حَدَثَ, فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: "أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ", فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُول اللهِ لَيْسَ عَلَيْكَ عَيْنٌ إِنَّمَا هُمَا ابْنَتَايَ -يَعْنِي عَائِشَةَ وَأَسْمَاءَ-، وفي رواية: إِنَّمَا هُمْ أَهْلُكَ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُول اللهِ, قَالَ: "فَإِنِّي قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْمَدِينَةِ"، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُول اللهِ الصُّحْبَةَ؟، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلمَ: "الصُّحْبَةَ"، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ يَبْكِي مِنَ الْفَرَحِ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، عِنْدِي نَاقَتَانِ قَدْ كُنْتُ أَعْدَدْتُهُمَا لِلْخُرُوجِ فَخُذْ إِحْدَاهُمَا، قَالَ: "قَدْ أَخَذْتُهَا بِالثَّمَنِ"، فَأَعْطَى النَّبِيَّ صَلى الله عليه وسلم إِحْدَاهُمَا -وَهِيَ الْجَدْعَاءُ-. أخرجه البخاري.

ولا شك أن رحلة عظيمة بمنزلة الهجرة وحمل الرسالة تحتاج إلى نوع خاص من الأصحاب، وقد اتصف أبو بكر الصديق رضي الله عنه بتلك الصفات المؤهلة لارتقاء تلك المنزلة وخوض تلك الرحلة، وهذا يبين أهمية الصاحب عمومًا، وأهمية اختيار الرفيق قبل سلوك أي طريق خصوصًا، فبالرغم من أن المهاجر هو رسول الله صَلى الله عليه وسلم، المعصوم المؤيد، المُبَشَّرُ ببلوغ أمره الأقطار، ووصول رسالته الأمصار، إلا أنه رجا رفيقًا وصاحبًا في هجرته، ثم انتظر حتى أُذن له في الهجرة والصحبة.

فاحرص عبد الله على أن يكون لك صاحبًا وصديقًا، وفيًا ورفيقًا، ينصح لك، ويقبل نصحك، تصلح منه ويصلح منك، يرتقي بك ولا تنحط به.

الأخذ بالأسباب

إن من أبرز الدروس المستفادة من هجرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مكة إلى المدينة التوكل على الله تعالى والأخذ بالأسباب، فلقد تجلى ذاك الدرس في مواقف شتى من هجرته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن ذلك:

- ثبات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدائم، وعدم تعجله بالخروج من مكة، وانتظاره الإذن بالهجرة لأربعة أشهر أو أكثر من هجرة أصحابه رضي الله عنهم، حتى إن كفار قريش كانوا يخططون لقتله، ويجتمعون لحصاره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو ينتقل بين ديار مكة -مع أخذ الحيطة والحذر- يتجهز للهجرة.

ومما يبين ثبات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتوكله على الله تعالى، جوابه على أبي بكر رضي الله عنه لما بلغ المشركون فم الغار، فعن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الغَارِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِأَقْدَامِ القَوْمِ، فَرَأَيْتُ آثَارَ المُشْرِكِين، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ رَفَعَ قَدَمَهُ رَآنَا، فَقَالَ: «مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا». أخرجه البخاري.

وكذا ثباته وتوكله على ربه تعالى عند خروجه من بيته من بين أظهر المشركين، فقد روى ابن إسحاق: دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَبِيتَ عَلَى فِرَاشِهِ، وَأَنْ يَتَسَجَّى ببُرد لَهُ أَخْضَرَ، فَفَعَلَ، ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْقَوْمِ وَهُمْ عَلَى بَابِهِ، وخَرَج مَعَهُ بِحَفْنَةٍ مِنْ تُرَابٍ، فَجَعَلَ يذرها على رؤوسهم، وَأَخَذَ اللَّهُ بِأَبْصَارِهِمْ عَنْ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ يَقْرَأُ: {يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} إِلَى قَوْلِهِ: {فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ}.

- اتخاذ الصاحب والرفيق في السفر.

- تجهيز أبو بكر الصديق رضي الله عنه لراحلة السفر وعلفها أربعة أشهر.

- اختيار علي بن أبي طالب رضي الله عنه للنوم في فراش النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورد الأمانات إلى أهلها، فعن محمد بن إسحاق بسنده أنه قال: فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَقَامَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ثَلَاثَ لَيَالٍ وَأَيَّامَهَا؛ حَتَّى أَدَّى عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَدَائِعَ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَهُ لِلنَّاسِ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهَا لَحِقَ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أخرجه البيهقي وحسنه الألباني.

- اختيار غار ثور مكانًا للإقامة المؤقتة قبيل الهجرة، وقبل الجد في السفر.

- تحديد المدة الزمانية للإقامة بغار ثور، وهي ثلاثة أيام.

- تجهيز الغار وتأمينه قبل دخوله واللبث فيه: فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه ذُكِرَ عِنْدَهُ أَبُو بَكْرٍ فَبَكَى، وَقَالَ: وَدِدْتُ أَنَّ عَمَلِي كُلَّهُ مِثْلُ عَمَلِهِ يَوْمًا وَاحِدًا مِنْ أَيَّامِهِ وَلَيْلَةً وَاحِدَةً مِنْ لَيَالِيهِ؛ أَمَّا لَيْلَتُهُ فَلَيْلَةٌ سَارَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْغَار، فَلَمَّا انتهينا إِلَيْهِ قَالَ: وَاللَّهِ لَا تَدْخُلُهُ حَتَّى أَدْخُلَ قَبْلَكَ فَإِنْ كَانَ فِيهِ شَيْءٌ أَصَابَنِي دُونَكَ، فَدَخَلَ فَكَسَحَهُ وَوَجَدَ فِي جَانِبِهِ ثُقْبًا فَشَقَّ إزَاره وسدها بِهِ وَبَقِي مِنْهَا اثْنَان فألقمها رِجْلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ادْخُلْ، فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَوُضِعَ رَأسه فِي حجره وَنَامَ فَلُدِغَ أَبُو بَكْرٍ فِي رِجْلِهِ مِنَ الْجُحر وَلم يَتَحَرَّك مَخَافَة أَن ينتبه رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَقَطَتْ دُمُوعُهُ عَلَى وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «مَا لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ؟» قَالَ: لُدِغْتُ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، فَتَفِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَهَبَ مَا يَجِدُهُ ثُمَّ انْتَقَضَ عَلَيْهِ وَكَانَ سَبَبَ مَوْتِهِ. وَأَمَّا يَوْمُهُ، فَلَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْتَدَّتِ الْعَرَبُ وَقَالُوا: لَا نُؤَدِّي زَكَاةً. فَقَالَ: لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا لَجَاهَدْتُهُمْ عَلَيْهِ. فَقُلْتُ: يَا خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَأَلَّفِ النَّاسَ وَارْفُقْ بِهِمْ. فَقَالَ لِي: أَجَبَّارٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَخَوَّارٌ فِي الْإِسْلَامِ؟ إِنَّهُ قَدِ انْقَطَعَ الْوَحْيُ وَتَمَّ الدِّينُ أَيَنْقُصُ وَأَنا حَيّ؟ رَوَاهُ رزين كما في مشكاة المصابيح.

- اختيار أسماء بنت أبي بكر وعائشة رضي الله عنهم لإعداد الزاد من طعام وشراب حال اللبث في غار ثور، فقد كانتا تعدان الطعام في البيت، ثم تلفه أسماء في نطاقها، وهي قطعة قماش تشد على الوسط، ثم تحمله إلى الغار في حذر شديد لئلا يشعر كفار قريش بمكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فعن عَائِشَة رضي الله عنها أنها قالت: فَجَهَّزْنَاهُمَا أَحَثَّ الْجِهَازِ، وَضَعْنَا لَهُمَا سُفْرَةً فِي جِرَابٍ، فَقَطَعَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ قِطْعَةً مِنْ نِطَاقِهَا، فَرَبَطَتْ بِهِ عَلَى فَمِ الْجِرَابِ -فَبِذَلِكَ سُمِّيَتْ ذَاتَ النِّطَاقِيْنِ- ثُمَّ لَحِقَ رَسُولُ اللهِ صَلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ بِغَارٍ فِي جَبَلِ ثَوْرٍ، فَتَوَارَيَا فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ. أخرجه البخاري.

- اختيار عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما لنقل أخبار مجتمع قريش إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فعن عَائِشَة رضي الله عنها أنها قالت: ثُمَّ لَحِقَ رَسُولُ اللهِ صَلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ بِغَارٍ فِي جَبَلِ ثَوْرٍ، فَتَوَارَيَا فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ، يَبِيتُ عِنْدَهُمَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَهُوَ غُلَامٌ شَابٌّ, ثَقِفٌ, لَقِنٌ، فَيَرْحَلُ مِنْ عِنْدِهِمَا سَحَرًا، فَيُصْبِحُ مَعَ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ كَبَائِتٍ، فلَا يَسْمَعُ أَمْرًا يُكَادَانِ بِهِ إِلَّا وَعَاهُ، حَتَّى يَأتِيَهُمَا بِخَبَرِ ذَلِكَ حِينَ يَخْتَلِطُ الظَّلَامُ. أخرجه البخاري.

- اختيار عامر بن فهيرة رضي الله عنه وكان مولى لأبي بكر ليرعى الأغنام حول الغار، ليعفي أثر الأقدام حوله، وليسقي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من حليبها هو وصاحبه، فعن عَائِشَة رضي الله عنها أنها قالت: وَيَرْعَى عَلَيْهِمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ, مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ, مِنْحَةً مِنْ غَنَمٍ، فَيُرِيحُهَا عَلَيْهِمَا حِينَ تَذْهَبُ سَاعَةٌ مِنْ الْعِشَاءِ، فَيَبِيتَانِ فِي رِسْلِهِمَا، ثُمَّ يَسْرَحُ بِهَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ بِغَلَسٍ، فلَا يَفْطُنُ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الرِّعَاءِ، يَفْعَلُ ذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ مِنْ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلَاثِ. أخرجه البخاري.

- اختيار الدليل الحاذق بسبل الصحراء وطريق الهجرة، فقد استأجر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلاً من المشركين اسمه عبد الله بن أريقط ليدله على طريق المدينة، ولا شك أن هذا الاختيار كان شديدًا، لأن شرط الأمانة في الدليل أعظم من مجرد معرفته بسبل الصحراء، لاسيما وكان هذا الدليل مشركًا، فعن عَائِشَة رضي الله عنها أنها قالت: وَاسْتَأجَرَ رَسُولُ اللهِ صَلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ رَجُلًا مِنْ بَنِي الدِّيلِ هَادِيًا خِرِّيتًا، قَدْ غَمَسَ يَمِينَ حِلْفٍ فِي آلِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ، وَهُوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَأَمِنَاهُ, فَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا، وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ. فَأَتَاهُمَا بِرَاحِلَتَيْهِمَا صَبِيحَةَ لَيَالٍ ثَلَاثٍ، فَارْتَحَلَا وَانْطَلَقَ مَعَهُمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ, وَالدَّلِيلُ الدِّيلِيُّ، فَأَخَذَ بِهِمْ أَسْفَلَ مَكَّةَ، وَهُوَ طَرِيقُ السَّاحِلِ. أخرجه البخاري.

- الدعاء من أعظم الأسباب، ولا بأس باستعمال المعاريض المنضبطة شرعًا لاسيما عند الضرر: فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: أَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى المَدِينَةِ وَهُوَ مُرْدِفٌ أَبَا بَكْرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ شَيْخٌ يُعْرَفُ، وَنَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَابٌّ لاَ يُعْرَفُ، قَالَ: فَيَلْقَى الرَّجُلُ أَبَا بَكْرٍ فَيَقُولُ يَا أَبَا بَكْرٍ مَنْ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْكَ؟ فَيَقُولُ: هَذَا الرَّجُلُ يَهْدِينِي السَّبِيلَ، قَالَ: فَيَحْسِبُ الحَاسِبُ أَنَّهُ إِنَّمَا يَعْنِي الطَّرِيقَ، وَإِنَّمَا يَعْنِي سَبِيلَ الخَيْرِ، فَالْتَفَتَ أَبُو بَكْرٍ فَإِذَا هُوَ بِفَارِسٍ قَدْ لَحِقَهُمْ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا فَارِسٌ قَدْ لَحِقَ بِنَا، فَالْتَفَتَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ اصْرَعْهُ»، فَصَرَعَهُ الفَرَسُ، ثُمَّ قَامَتْ تُحَمْحِمُ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، مُرْنِي بِمَا شِئْتَ، قَالَ: «فَقِفْ مَكَانَكَ، لاَ تَتْرُكَنَّ أَحَدًا يَلْحَقُ بِنَا». قَالَ: فَكَانَ أَوَّلَ النَّهَارِ جَاهِدًا عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ آخِرَ النَّهَارِ مَسْلَحَةً لَهُ. رواه البخاري.

- تلاوة النبي صَلى الله عليه وسلم للقرآن أثناء الطريق، وحراسة أبي بكر الصديق رضي الله عنه له عليه الصلاة والسلام: فعن سُرَاقَة بْنِ جُعْشُمٍ أنه قال: أَمَرْتُ جَارِيَتِي أَنْ تَخْرُجَ بِفَرَسِي وَهِيَ مِنْ وَرَاءِ أَكَمَةٍ, فَتَحْبِسَهَا عَلَيَّ، وَأَخَذْتُ رُمْحِي، فَخَرَجْتُ بِهِ مِنْ ظَهْرِ الْبَيْتِ فَحَطَطْتُ بِزُجِّهِ الْأَرْضَ، وَخَفَضْتُ عَالِيَهُ، حَتَّى أَتَيْتُ فَرَسِي فَرَكِبْتُهَا، فَرَفَعْتُهَا تُقَرِّبُ بِي, حَتَّى دَنَوْتُ مِنْهُمْ, فَعَثَرَتْ بِي فَرَسِي فَخَرَرْتُ عَنْهَا، فَقُمْتُ فَأَهْوَيْتُ يَدِي إِلَى كِنَانَتِي، فَاسْتَخْرَجْتُ مِنْهَا الْأَزْلَامَ، فَاسْتَقْسَمْتُ بِهَا, أَضُرُّهُمْ أَمْ لَا؟ فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهُ أَنْ لَا أَضُرَّهُمْ، فَعَصَيْتُ الْأَزْلَامَ, وَرَكِبْتُ فَرَسِي تُقَرِّبُ بِي, حَتَّى إِذَا سَمِعْتُ قِرَاءَةَ رَسُولِ اللهِ صَلى الله عليه وسلم وَهُوَ لَا يَلْتَفِتُ, وَأَبُو بَكْرٍ يُكْثِرُ الِالْتِفَاتَ سَاخَتْ يَدَا فَرَسِي فِي الْأَرْضِ, حَتَّى بَلَغَتَا الرُّكْبَتَيْنِ فَخَرَرْتُ عَنْهَا، ثُمَّ زَجَرْتُهَا فَنَهَضَتْ، فَلَمْ تَكَدْ تُخْرِجُ يَدَيْهَا، فَلَمَّا اسْتَوَتْ قَائِمَةً, إِذَا لِأَثَرِ يَدَيْهَا عُثَانٌ سَاطِعٌ فِي السَّمَاءِ مِثْلَ الدُّخَانِ، فَاسْتَقْسَمْتُ بِالْأَزْلَامِ, فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهُ، فَنَادَيْتُهُمْ بِالْأَمَانِ فَوَقَفُوا، فَرَكِبْتُ فَرَسِي حَتَّى جِئْتُهُمْ، وَوَقَعَ فِي نَفْسِي حِينَ لَقِيتُ مَا لَقِيتُ مِنْ الْحَبْسِ عَنْهُمْ أَنْ سَيَظْهَرُ أَمْرُ رَسُولِ اللهِ صَلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ قَوْمَكَ قَدْ جَعَلُوا فِيكَ الدِّيَةَ، وَأَخْبَرْتُهُمْ أَخْبَارَ مَا يُرِيدُ النَّاسُ بِهِمْ، وَعَرَضْتُ عَلَيْهِمْ الزَّادَ وَالْمَتَاعَ، فَلَمْ يَرْزَآنِي وَلَمْ يَسْأَلَانِي شَيْئًا، إِلَّا أَنْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلى الله عليه وسلم: "أَخْفِ عَنَّا"، فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَكْتُبَ لِي كِتَابَ مُوَادَعَةٍ آمَنُ بِهِ، فَأَمَرَ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ, فَكَتَبَ لِي فِي رُقْعَةٍ مِنْ أَدِيمٍ، ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللهِ صَلى الله عليه وسلم. أخرجه البخاري.

عباد الله إن التوكل على الله تعالى عبادة عظيمة جليلة، والتوكل هو صدق اعتماد القلب على الله تعالى مع الأخذ بالأسباب.

فمن انقطع تعلقه بالله، وأخذ بالأسباب واعتقد فيها فقد أشرك بالله عياذًا بالله، ومن زعم تعلق قلبه بالله وقعد عن الأسباب فقد طعن في شرع الله تعالى، فالميزان الصحيح هو أن يتعلق القلب بالله مع الأخذ بالأسباب الممكنة المباحة.

عهده الوفاء وعهدهم الجفاء

تناقض عجيب في أحوال كفار قريش وإصدارهم الأحكام جزافًا، فهم الذين قالوا عن النبي صَلى الله عليه وسلم: الصادق الأمين، وهم الذين أودعوه ودائعهم ليحفظها لهم، فهو قوي أمين يحفظ الأمانات لأهلها، وهم الذين عاينوا صدقه وأمانته وعفافه ووفاءه، وأيقنوا بعلو قدره، وسمو خصاله، وحسن أخلاقه، وجميل فعاله، وشرف نسبه. ثم ها هم يقولون: شاعر وكاهن ومجنون وساحر!

وها هم يمكرون به، ويجدون في البحث عنه ليقتلوه. أليس هذا تناقضًا عجيبًا؟! إنها الإساءة للمحسنين، ونكران جميل المنذِرين.

أما الرسول الكريم صَلى الله عليه وسلم فطبعه السخاء، وسجيته العطاء، وعهده الوفاء، فبالرغم من فعال المشركين الشنيعة، ومكرهم السيء كلف النبي صَلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن يبقى بمكة بعده ليرد الودائع إلى أهلها.

عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أنه قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ، أَنَّ هِرَقْلَ قَالَ لَهُ: سَأَلْتُكَ مَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ فَزَعَمْتَ: «أَنَّهُ أَمَرَكُمْ بِالصَّلاَةِ، وَالصِّدْقِ، وَالعَفَافِ، وَالوَفَاءِ بِالعَهْدِ، وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ»، قَالَ: وَهَذِهِ صِفَةُ نَبِيٍّ. أخرجه البخاري.

فالمؤمن هو أحق الناس بالوفاء، ورد الحقوق إلى أهلها، ولو كان كفارًا، أو مسيئين.

قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1].

وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58].

وقال عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون: 8].

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ». أخرجه أبو داود والترمذي وصححه الألباني.

وعَنْه رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ». أخرجه أحمد والترمذي والنسائي وقال الألباني: حسن صحيح.

وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أنه قَالَ: مَا خَطَبَنَا نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا قَالَ: «لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ». أخرجه أحمد وصححه الألباني.

وَعَنْ زَاذَانَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أنه قَالَ: "الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللهِ يُكَفِّرُ الذُّنُوبَ كُلَّهَا إِلَّا الْأَمَانَةَ, يُؤْتَى بِصَاحِبِ الْأَمَانَةِ -وَإِنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ- فَيُقَالُ لَهُ: أَدِّ أَمَانَتَكَ فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ, كَيْفَ وَقَدْ ذَهَبَتِ الدُّنْيَا؟ فَيَقُولُ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى الْهَاوِيَةِ، فَيُذْهَبُ بِهِ إِلَيْهَا, وتُمَثَّلُ لَه أَمَانَتُهُ, فَيَجِدُهَا كَهَيْئَتِهَا يوم دُفِعَتْ إِلَيْهِ, فَيَرَاهَا فَيَعْرِفُهَا, فَيَهْوِي في أثَرِهَا حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى قَعْرِهَا, فَيَأخُذُهَا فَيَحْمِلُهَا عَلَى عَاتِقِهِ, ثُمَّ يَصْعَدُ بِهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ، حَتَّى إِذَا رَأَى أَنَّهُ قَدْ خَرَجَ بِهَا, زَلَّتْ فَهَوَتْ، فَهُوَ فِي أَثَرِهَا أَبَدَ الْآبِدِينَ، ثُمَّ قَالَ: الصَلَاةُ أَمَانَةٌ، وَالْوُضُوءُ أَمَانَةٌ, والْوَزْنُ أَمَانَةٌ, والكَيْلُ أَمَانَةٌ, وَأَشَدُّ ذَلِكَ الْوَدَائِعُ.

قَالَ زَاذَانُ: فَلَقِيتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ رضي الله عنه فَقُلْتُ: أَلَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ أَخُوكَ عَبْدُ اللهِ؟ فَقَالَ: صَدَقَ، أَمَا سَمِعْتَ اللهَ يَقُولُ: {إِنَّ اللهَ يَأمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}. أخرجه البيهقي في شعب الإيمان وحسنه الألباني.

مع تحيات

اللجنة العلمية لملتقى الخطيب المؤثر أسد المنابر