الهدف من الخطبة : التذكير بحرمة الأشهر الحرم، والترهيب من أنواع الظلم فيها وفي غيرها، والحث على التوبة وهجر الذنوب.
سلسلة الخطب المقترحة رقم ((512))
الخطبة الأولى من محرم لعام 1445 هـ
عنوان الخطبة ((عام هجري جديد))
الهدف من الخطبة : التذكير بحرمة الأشهر الحرم، والترهيب من أنواع الظلم فيها وفي غيرها، والحث على التوبة وهجر الذنوب.
عناصر الموضوع
1) لا تظلموا فيهن أنفسكم.
2) من هو المهاجر؟
3) عام جديد وعلى عملك شهيد
عام هجري جديد
المقدمة: أما بعد، قال الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 217].
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: ولهذا كان القول الراجح من أقوال العلماء: أنه لا يجوز القتال فيها إلا ما كان دفاعاً أو كان قد انعقدت أسبابه من قبل، بمعنى: أنه لا يجوز أن نبدأ قتال الكفار في هذه الأشهر الحرم، إلا إذا كان دفاعاً، بمعنى أنهم هم الذين بدأونا في القتال، أو كان ذلك امتداداً لقتال سابق على هذه الأشهر.
بين يدي الخطبة:
لا تظلموا فيهن أنفسكم
قال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36]، وعَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: «إِنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاَثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو القَعْدَةِ وَذُو الحِجَّةِ وَالمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ، الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ». رواه البخاري.
قال ابن كثير رحمه الله: وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ: "إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يوم خلق الله السموات وَالْأَرْضَ"، تَقْرِيرٌ مِنْهُ، صَلَوَات اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَتَثْبِيتٌ لِلْأَمْرِ عَلَى مَا جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيمٍ وَلَا تَأْخِيرٍ، وَلَا زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ، وَلَا نَسِيءٍ وَلَا تَبْدِيلٍ، كَمَا قَالَ فِي تَحْرِيمِ مَكَّةَ: "إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ"، وَهَكَذَا قَالَ هَاهُنَا: "إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ" أَيْ: الْأَمْرُ الْيَوْمَ شَرْعًا كَمَا ابْتَدَأَ اللَّهُ ذلك في كتابه يوم خلق السموات وَالْأَرْضَ. انتهى.
وأما قوله عليه الصلاة والسلام: "رَجَبُ مُضَرَ"، نسبة إلى قبيلة مضر، وكانت تختلف مع قبيلة ربيعة في شهر رجب، فكانت ربيعة تجعله بين شعبان وشوال -أي بدلاً من رمضان-، وكانت مضر تجعله بين جمادى وشعبان، لذا بيَّن النبي صلى الله عليه وسلمَ الحَقَّ من هذا فقال: «وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ».
وقوله تعالى: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}، أي في هذه الأشهر المحرمة، لأنها آكد وأبلغ في الإثم من غيرها.
وعن ابن عباس في قوله تعالى: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}، في كلهن، ثم اختص من ذلك أربعة أشهر فجعلهن حرامًا، وعظّم حرماتهن، وجعل الذنب فيهن أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم، وقال قتادة في قوله: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}: إن الظّلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرًا من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيمًا، ولكن الله يعظّم من أمره ما يشاء. وقال: إن الله اصطفى صفايا من خلقه: اصطفى من الملائكة رسلاً ومن الناس رسلاً، واصطفى من الكلام ذكره، واصطفى من الأرض المساجد، واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم، واصطفى من الأيام يوم الجمعة، واصطفى من الليالي ليلة القدر، فعظموا ما عظّم الله، فإنما تُعَظّم الأمور بما عظمها الله به عند أهل الفهم وأهل العقل. انتهى ملخّصا من تفسير ابن كثير رحمه الله.
وقد حرم الله الظلم بكل أنواعه، فعَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِي عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: «يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا..». الحديث رَوَاهُ مُسلم، وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الظُّلْمُ ثَلاثَةٌ: فَظُلْمٌ لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ، وظلم يغفره الله، وَظُلْمٌ لا يَتْرُكُهُ اللَّهُ؛ فَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لا يَغْفِرُهُ اللَّهُ: فَالشِّرْكُ، وَقال اللَّهُ: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}، وَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي يَغْفِرُهُ اللَّهُ: فَظُلْمُ الْعِبَادِ لأَنْفُسِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ، وَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لا يَتْرُكُهُ اللَّهُ: فَظُلْمُ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا حَتَّى يَدِينَ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ». رواه البزار وحسنه الألباني.
بَيَّنَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن للظلم أنواعًا ثلاثة:
1- الظلم الأكبر، وهو الشرك، ومنه ما هو أكبر ومنه ما هو أصغر؛ فالشرك الأكبر لا يغفره الله تعالى لمن مات عليه ولم يتب منه، قال سبحانه: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254]، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48]، وعَن عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أنه قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانهم بظُلْم) شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالُوا: يَا رَسُول الله أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسِهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَيْسَ ذَاكَ إِنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ، أَلَمْ تَسْمَعُوا قَوْلَ لُقْمَانَ لِابْنِهِ: (يَا بني لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)". وفِي رِوَايَةٍ: «لَيْسَ هُوَ كَمَا تَظُنُّونَ إِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ لُقْمَان لِابْنِهِ». مُتَّفق عَلَيْهِ.
والشرك الأكبر هو ما ينافي التوحيد، ويُخرج من الملة، كصرف العبادة لغير الله، كالسجود أو الدعاء؛ وهذا الشرك يحبط عمل صاحبه، ويُخرجه من الملة، ولا يُغفر له إن مات عليه، ويخلد به في النار عياذًا بالله، قال تعالى: (وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا)، أي: شركًا، وقال جل وعلا: (وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ)، وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثِنْتَانِ مُوجِبَتَانِ». قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْمُوجِبَتَانِ؟ قَالَ: «مَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ، وَمَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئا دخل الْجنَّة». رَوَاهُ مُسلم.
وَالشرك الأصغر: هو ما كان ذريعة للشرك الأكبر، ولم يخرج صاحبه من الملة، كاتخاذ ما ليس بسبب شرعي سببًا، والشرك الأصغر منه ما يكون باطنًا، كالرياء، ومنه ما يكون ظاهرًا في الأقوال أو الأفعال، كالحلف بغير الله، والتطير، والواو الشركية نحو قول: ما شاء الله وشئت، وكتعليق ما يعتقد أنه سبب في جلب نفع أو دفع ضر مما لم يثبت كونه سببًا شرعيًا، كلبس الحلقة والخيط والتميمة والخرز ونحو ذلك.
2- ظلم العبد لنفسه بارتكاب الذنوب والمعاصي، كتضييع الصلاة، ومنع للزكاة، والفطر في رمضان، والقتل والكذب والخيانة والرشوة والزنا والسرقة والربا.
وكل هذا يحتاج إلى توبة بشروطها، قَالَ الله تَعَالَى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، وَقالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحا}، وَقالَ تَعَالَى: { وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، وعن أَنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «للهُ أفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ سَقَطَ عَلَى بَعِيرهِ وقد أضلَّهُ في أرضٍ فَلاةٍ». مُتَّفَقٌ عليه، وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم: «إِنَّ الْعَبَدَ إِذَا اعْتَرَفَ ثُمَّ تَابَ تَابَ الله عَلَيْهِ». متفق عليه، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ عَبْدًا أَذْنَبَ ذَنْبًا فَقَالَ: رَبِّ أَذْنَبْتُ فَاغْفِرْهُ فَقَالَ رَبُّهُ أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ؟ غَفَرْتُ لِعَبْدِي ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا فَقَالَ: رَبِّ أَذْنَبْتُ ذَنْبًا فَاغْفِرْهُ فَقَالَ رَبُّهُ: أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ؟ غَفَرْتُ لِعَبْدِي ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنبا قالَ: رب أذنبت ذَنبا آخر فَاغْفِر لِي فَقَالَ: أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ؟ غَفَرْتُ لِعَبْدِي فَلْيَفْعَلْ مَا شَاءَ" متفق عليه، وعن أبي موسَى الأشْعريِّ رضي الله عنه عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ: «إنَّ الله تَعَالَى يَبْسُطُ يَدَهُ بالليلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، ويَبْسُطُ يَدَهُ بالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِها». رواه مسلم، وعن أبي هُريرةَ رضي الله عنه أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِها تَابَ اللهُ عَلَيهِ». رواه مسلم، وعن عبد الله بنِ عمَرَ رضيَ اللهُ عنهما، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ: «إِنَّ الله عز وجل يَقْبَلُ تَوبَةَ العَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ». رواه الترمذي وَحسنه الألباني، وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رضي الله عنه أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعَتُ أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ" قَالَ: «وَمَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ». رَوَاهُ البُخَارِيّ، وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وحسنه الألباني.
قال النووي رحمه الله: قَالَ العلماءُ: التَّوْبَةُ وَاجبَةٌ مِنْ كُلِّ ذَنْب، فإنْ كَانتِ المَعْصِيَةُ بَيْنَ العَبْدِ وبَيْنَ اللهِ تَعَالَى لاَ تَتَعلَّقُ بحقّ آدَمِيٍّ فَلَهَا ثَلاثَةُ شُرُوط: أحَدُها: أَنْ يُقلِعَ عَنِ المَعصِيَةِ. والثَّانِي: أَنْ يَنْدَمَ عَلَى فِعْلِهَا. والثَّالثُ: أَنْ يَعْزِمَ أَنْ لا يعُودَ إِلَيْهَا أَبَدًا.
فَإِنْ فُقِدَ أَحَدُ الثَّلاثَةِ لَمْ تَصِحَّ تَوبَتُهُ.
وإنْ كَانَتِ المَعْصِيةُ تَتَعَلقُ بآدَمِيٍّ فَشُرُوطُهَا أرْبَعَةٌ: هذِهِ الثَّلاثَةُ، وأَنْ يَبْرَأَ مِنْ حَقّ صَاحِبِها، فَإِنْ كَانَتْ مالًا أَوْ نَحْوَهُ رَدَّهُ إِلَيْه، وإنْ كَانَت حَدَّ قَذْفٍ ونَحْوَهُ مَكَّنَهُ مِنْهُ أَوْ طَلَبَ عَفْوَهُ، وإنْ كَانْت غِيبَةً استَحَلَّهُ مِنْهَا.
ويجِبُ أَنْ يَتُوبَ مِنْ جميعِ الذُّنُوبِ، فَإِنْ تَابَ مِنْ بَعْضِها صَحَّتْ تَوْبَتُهُ عِنْدَ أهْلِ الحَقِّ مِنْ ذلِكَ الذَّنْبِ وبَقِيَ عَلَيهِ البَاقي. وَقَدْ تَظَاهَرَتْ دَلائِلُ الكتَابِ والسُّنَّةِ، وإجْمَاعِ الأُمَّةِ عَلَى وُجوبِ التَّوبةِ. انتهى.
3- ظلم العبد لغيره من الخلق، بالقول أو الفعل، وهذا يحتاج إلى توبة بشروطها في حقه، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلمَةٌ لأَخِيهِ، مِنْ عِرضِهِ أَوْ مِنْ شَيْءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ اليَوْمَ قبْلَ أَنْ لاَ يَكُونَ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ؛ إنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلمَتِهِ، وَإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيهِ». رواه البخاري، وَعَنْهُ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟» قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ؛ فَقَالَ: «إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْم الْقِيَامَة بِصَلَاة وَصِيَام وَزَكَاة وَيَأْتِي وَقَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرح فِي النَّار». رَوَاهُ مُسلم، وَعَنْهُ رضي الله عنه أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَتُؤَدَّنَّ الْحُقُوقُ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: "إِذَا خَلَصَ المُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ حُبِسُوا بِقَنْطَرَةٍ بَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيَتَقَاصُّونَ مَظَالِمَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا نُقُّوا وَهُذِّبُوا، أُذِنَ لَهُمْ بِدُخُولِ الجَنَّةِ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَأَحَدُهُمْ بِمَسْكَنِهِ فِي الجَنَّةِ أَدَلُّ بِمَنْزِلِهِ كَانَ فِي الدُّنْيَا". رواه البخاري، وعن عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "إنَّ الشيطانَ قَدْ يئسَ أنْ تُعْبد الأصنامُ في أرْضِ العربِ، ولكنَّه سَيَرْضَى منكُم بدونِ ذلك بالمحَقَّراتِ، وهي الموِبقَاتُ يومَ القِيامَةِ، اتَّقوا الظُّلْمَ ما اسْتَطَعْتُم؛ فإنَّ العَبْدَ يَجيءُ بالحَسَناتِ يَوْمَ القِيامَة يَرى أنَّها سَتُنْجِيه، فَما زالَ عَبْدٌ يقومُ يقول: يا ربِّ ظَلَمني عبدُكَ مَظْلَمَةً، فيقولُ: امْحوا مِنْ حَسنَاتِه، وما يَزالُ كذلك حتى ما يَبْقى لَهُ حَسنَةٌ مِنَ الذنوبِ، وإنَّ مِثْلَ ذلك كَسَفْرٍ نَزَلوا بِفَلاةٍ منَ الأرْضِ ليسَ مَعهُم حَطبٌ، فَتَفرَّقَ القَوْمُ لِيَحْتَطِبوا فَلَمْ يَلْبَثوا أنْ حَطبوا، فَأعْظَموا النارَ وطَبخَوا ما أرَادوا، وكذلك الذنوبُ". رواه أبو يعلى وصححه لغيره الألباني، وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اتَّقوا دعْوَة المظْلومِ؛ فإنَّها تصعَدُ إلى السماءِ كأنَّها شَرارَةٌ". رواه الحاكم وصححه الألباني، وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا». فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْصُرُهُ مَظْلُومًا فَكَيْفَ أَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟ قَالَ: «تَمنعهُ من الظُّلم فَذَاك نصرك إِيَّاه». مُتَّفق عَلَيْهِ.
فاحذروا عباد الله من الظلم بكل صوره لا سيما الظلم الأكبر، وهو الشرك، فإن الله عز وجل لا يغفر للمشرك الشرك الأكبر إذا مات عليه.
من المهاجر؟
إن الهجرة لم تنقطع بعد بل هي إلى أشراط الساعة، فعَنْ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى يَنْقَطِع التَّوْبَةُ، وَلَا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا». رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَصححه الألباني.
وتأمل في ارتباط الهجرة بالتوبة كما في الحديث، فإن المهاجر الحقيقي هو الذي هجر المحرمات والمنكرات، واجتنب ما نهى الله تعالى عنه، فإنما هاجر من هاجر من الأنبياء والمرسلين والصالحين، فرارًا بالحق من الباطل، وخروجًا من أرض المعصية إلى أرض الطاعة، فإذا ما أغلق باب التوبة فلا معنى للهجرة آنذاك.
فليس الغرض من الهجرة تكلف المشقة والعناء والسفر والترحال وهجر الأوطان؛ بل الغرض هجر الشرك والمنكرات والمعاصي والسيئات إن وجدت؛ فهجرة البدن وترحاله تحمل في طياتها هجرة معنوية حقيقية، والهجرة المعنوية هذه تحمل في طياتها هجرتين: هجرة باطنة قلبية، وهجرة ظاهرة عملية.
فالهجرة الباطنة القلبية: هي ترك الشرك الخفي، وأمراض القلوب وهجرها إلى التوحيد والاتباع وحب الله ورسوله وأعمال القلوب.
والهجرة الظاهرة العملية: هي ترك بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، وترك أماكن الفسق والفجور إلى أماكن الطاعات والاستقامة كما في قصة توبة قاتل المائة نفس.
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: «المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ». رواه البخاري، وفي رواية لابن حبان: «المُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السَّيِّئَاتِ». وصححه الألباني.
وعَنْه رضي الله عنه أنه قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْهِجْرَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «أَنْ تَهْجُرَ مَا كَرِهَ رَبُّكَ عَزَّ وَجَلَّ»، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْهِجْرَةُ هِجْرَتَانِ: هِجْرَةُ الْحَاضِرِ، وَهِجْرَةُ الْبَادِي؛ فَأَمَّا الْبَادِي فَيُجِيبُ إِذَا دُعِيَ، وَيُطِيعُ إِذَا أُمِرَ، وَأَمَّا الْحَاضِرُ فَهُوَ أَعْظَمُهُمَا بَلِيَّةً، وَأَعْظَمُهُمَا أَجْرًا". رواه النسائي وصححه الألباني.
إننا في حاجة ماسة إلى هجرة حقيقية، نهجر فيها ما نهى الله عنه، ونقبل على ما يرضي الله تعالى، هجرة من المنكرات والبدع والمعاصي إلى الطاعات والصالحات، هجرة من أماكن الفسق والعصيان إلى المساجد، هجرة من الهوى إلى التمسك بالكتاب والسنة.
عام هجري جديد وعلى عملك شهيد
نصح أحد العلماء يومًا –وهو الشيخ ابن عثيمين رحمه الله- فقال: أيها الإخوة: تعرفون ما لله سبحانه وتعالى من الحكم البالغة في تعاقب الليل والنهار، والشهور والأعوام، ومن ذلك ما أشار إليه في قوله: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} [الفرقان:62]، أي: يخلف بعضه بعضًا، {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان:62]، فإن الإنسان يتذكر كلما تجدد يومٌ وليلة، يتذكر ويعمل العمل الصالح، ويجدد له ذلك نشاطاً يجده في نفسه، وراحةً يجدها في قلبه، بتجدد الزمان عليه، وتعاقب الليل والنهار، وكذلك بالنسبة للسنوات والشهور، وإذا كان تجار الدنيا يحصون ما حصل لهم في العام عند نهايته، فإن الذي ينبغي لتاجر الآخرة -وتجارة الآخرة أعظم وخير وأبقى- أن يحاسب نفسه على ما مضى من عامه، ويجدد النشاط لما يستقبل من عامه الجديد، أقول هذا وأنا أعتبر نفسي أشد الناس تقصيراً، ولكني أستغفر الله وأتوب إليه.
إن المؤمن يتذكر فيما يتذكر بتجدد الأعوام والسنين، يتذكر من كان معه من إخوانه في مثل هذا الوقت من العام الماضي، حيث انفردوا بأعمالهم في قبورهم مرتهنين، لا يملك الواحد منهم زيادة حسنة ولا نقص سيئة، ويعلم علم اليقين أن هذا سيكون له إن عاجلاً وإن آجلاً، فينتهز الفرصة بالعمل الصالح حتى لا يغبن في حياته، كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: "نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالفَرَاغُ"، فكم من إنسان مضت عليه صحته أياماً بل شهوراً بل أعواماً لم ينتفع من هذه الصحة بشيء، وهو إذا لم ينتفع بها بشيء فإنه قد خسرها؛ لقول الله تعالى: {وَالْعَصْرِ . إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ . إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1-3]، فإذا خسرها كان مغبوناً فيها، وكم من إنسان مضت عليه أوقات فراغ كثيرة لا يتعب نفسياً ولا جسمياً بتحصيل معاشه، بل قد منَّ الله عليه بالنعمة والرغد، ومع ذلك غبن في هذا الفراغ حتى كأنه شاغل لهذه الفراغات لا يستطيع أن يتفرغ لعبادة الله.
فخذوا أيها الإخوة من صحتكم لمرضكم، ومن حياتكم لموتكم، واستعدوا ليوم الرحيل، وأودعوا في كتاب أعمالكم حسنات تجدوها عند الله سبحانه وتعالى خيراً وأعظم أجراً، أقول هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب. انتهى.
مع تحيات
اللجنة العلمية لملتقى الخطيب المؤثر أسد المنابر