الأربعاء ، ٢ جمادى الآخر ، ١٤٤٦ هجري | 04 ديسمبر 2024 ميلادي
مصعب بن عمير رضي الله عنه
وصف الخطبة : -

الغرض من الخطبة: بيان مناقب مصعب بن عمير رضي الله عنه، والاستفادة من سيرته.


سلسلة الخطب المقترحة رقم ((502))

الخطبة الثالثة من شوال لعام 1444 هـ

عنوان الخطبة ((مصعب بن عمير رضي الله عنه))…

الغرض من الخطبة: بيان مناقب مصعب بن عمير رضي الله عنه، والاستفادة من سيرته.

عناصر الخطبة:

1- نشأة مصعب بن عمير وإسلامه رضي الله عنه.

2- مناقب مصعب رضي الله عنه.

3- جهاد واستشهاد.

المقدمة: أما بعد، قال الله تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا). نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ في شهداء أحد رضي الله عنهم، ومنهم: مصعب بن عمير رضي الله عنه.

بين يدي الخطبة:

نشأة مصعب بن عمير وإسلامه رضي الله عنه

مُصْعَبُ الْحَبْرُ هُوَ أبو عبدِ الله مصعبُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيٍّ، الْمُقْرِئُ الَّذِي بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْأَنْصَارِ يُقْرِئُهُمُ الْقُرْآنَ بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ الهجرة. أخرجه الحاكم.

قال أبو نعيم الأصبهاني: مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ الدَّارِيُّ، الْمُحِبُّ الْقَارِيُّ، الْمُسْتَشْهِدُ بِأُحُدٍ. كَانَ أَوَّلَ الدُّعَاةِ، وَسَيِّدَ التُّقَاةِ، سَبَقَ الرَّكْبَ، وَقَضَى النَّحْبَ، وَرَغِبَ عَنِ التَّزْيِيفِ وَالتَّسْوِيفِ، وَغَلَبَ عَلَيْهِ الْحَنِينُ وَالتَّخْوِيفُ. انتهى من حلية الأولياء.

كَانَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ فَتَى مَكَّةَ شَبَابًا وَجَمَالًا وَسَبِيبًا, وَكَانَ أَبَوَاهُ يُحِبَّانِهِ، وَكَانَتْ أُمُّهُ مَلِيئَةً كَثِيرَةَ الْمَالِ، تَكْسُوهُ أَحْسَنَ مَا يَكُونُ مِنَ الثِّيَابِ وَأَرَقَّهُ, وَكَانَ أَعْطَرَ أَهْلِ مَكَّةَ يَلْبَسُ الْحَضْرَمِيَّ مِنَ النِّعَالِ, فَبَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم يَدْعُو إِلَى الْإِسْلَامِ فِي دَارِ أَرْقَمَ بْنِ أَبِي الْأَرْقَمِ, فَدَخَلَ عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ وَصَدَّقَ بِهِ، وَخَرَجَ فَكَتَمَ إِسْلَامَهُ خَوْفًا مِنْ أُمِّهِ وَقَوْمِهِ, فَكَانَ يَخْتَلِفُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم سِرًّا فَبَصُرَ بِهِ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ يُصَلِّي, فَأَخْبَرَ أُمَّهُ وَقَوْمَهُ فَأَخَذُوهُ فَحَبَسُوهُ فَلَمْ يَزَلْ مَحْبُوسًا حَتَّى خَرَجَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ فِي الْهِجْرَةِ الْأُولَى, ثُمَّ رَجَعَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ حِينَ رَجَعُوا فَرَجَعَ مُتَغَيِّرَ الْحَالِ قَدْ حَرَجَ, يَعْنِي غَلُظَ, فَكَفَّتْ أُمُّهُ عَنْهُ مِنَ الْعَذْلِ. انتهى من طبقات ابن سعد بتصرف. العذل: اللَّوْم.

وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه أنه قَالَ: إِنَّا لَجُلُوسٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي المَسْجِدِ إِذْ طَلَعَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ مَا عَلَيْهِ إِلَّا بُرْدَةٌ لَهُ مَرْقُوعَةٌ بِفَرْوٍ فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَكَى لِلَّذِي كَانَ فِيهِ مِنَ النِّعْمَةِ وَالَّذِي هُوَ اليَوْمَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَيْفَ بِكُمْ إِذَا غَدَا أَحَدُكُمْ فِي حُلَّةٍ وَرَاحَ فِي حُلَّةٍ وَوُضِعَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ صَحْفَةٌ وَرُفِعَتْ أُخْرَى وَسَتَرْتُمْ بُيُوتَكُمْ كَمَا تُسْتَرُ الكَعْبَةُ»؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مِنَّا اليَوْمَ نَتَفَرَّغُ لِلْعِبَادَةِ وَنُكْفَى المُؤْنَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَأَنْتُمُ اليَوْمَ خَيْرٌ مِنْكُمْ يَوْمَئِذٍ». أخرجه الترمذي.

مناقب مصعب رضي الله عنه

1- مصعب بن عمير رضي الله عنه أحد السابقين إلى الإسلام، فهنيئًا له قول الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100]، وقوله سبحانه: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [الحديد: 10].

2- مصعب بن عمير رضي الله عنه ممن ترك حياة الترف وما كان فيه من ملذات، فباع الدنيا بالآخرة، فهنيئًا له قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111].

3- مصعب بن عمير رضي الله عنه ممن أوذي وعذب في سبيل الله ثم هاجر إلى الحبشة، فهنيئًا له قول الله تعالى: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [آل عمران: 195].

4- مصعب بن عمير رضي الله عنه السفير الفقيه القارئ المُعلِّم: بعد أن بايع الأنصارُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم في مكة بيعة العقبة الأولى، وانتهى موسم الحج وَانْصَرَفَ القَوْمُ رَاجِعِينَ إِلَى بِلَادِهِمْ، سألَ الأنصارُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يبعث معهم من يعلمهم القرآن وشرائع الإسلام، ويقوم بنشر الإسلام في المدينة بين الذين لم يزالوا على الشرك، فاختار النبيُّ صلى الله عليه وسلم لهذه المهمة شَابًّا مِنْ شَبَابِ المُسْلِمِينَ، السَّابِقِينَ الأوَّلينَ إِلَى الإِسْلَامِ، وَهُوَ مُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ العبدري رضي اللَّه عنه، وَأَمَرَهُ أَنْ يُقْرِئَهُم القُرآنَ، وَيُعَلِّمَهُمْ الإِسْلَامَ، وَيُفَقِّهَهُمْ فِي الدِّينِ، فَكَانَ مُصْعَبٌ رضي اللَّه عنه يُسَمَّى بِالمَدِينَةِ: المُقْرِئَ.

عن البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أنه قَالَ: أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ فَجَعَلاَ يُقْرِئَانِنَا القُرْآنَ. أخرجه البخاري، ولابن حبان: قَالَ الْبَرَاءُ: وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ أَخُو بَنِي عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيٍّ، فَقُلْنَا لَهُ: مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: هُوَ مَكَانَهُ وَأَصْحَابُهُ عَلَى أَثَرِي.

لقد اتصف مصعب بصفات كثيرة، جعلته يستطيع القيام بهذه المهمة العظيمة، ومنها:

أولاً: كان مصعب بن عمير رضي الله عنه من السابقين الأولين للإسلام، فهو يعرف الصبر على المعاناة والألم.

ثانيًا: كان مصعب رضي الله عنه ممن هاجر إلى الحبشة، فهو يعرف معنى الهجرة والغربة عن الديار والأوطان.

ثالثًا: كان مصعب رضي الله عنه على علم بالشرع ومعرفة بالقرآن، فهو يحمل المنهج الذي يريد تبليغه.

رابعًا: كان مصعب رضي الله عنه يكثر الاستدلال بالآيات القرآنية، وهذا له أبلغ الأثر في نفوس السامعين.

خامسًا: كان مصعب رضي الله عنه يتصف بقوة الحجة، وبلاغة العرض، وبالوقار والأناة وحسن السمت، مع معرفته بالناس ومخاطبة كل واحد بما يليق به.

سادسًا: كان عُمْرُ مصعب آنذاك بضعًا وثلاثين سنة، فهو في عنفوان شبابه، مع حكمة وعلم، وذكاء وحلم، ولباقة وتواضع.

سابعًا: كان مصعب بن عمير رضي الله عنه من أشراف أهل مكة، من بني عبد الدار من قريش، وقد يكون هذا مُعَزِزًا لدعوته؛ فإن فيه قدوة للأغنياء الذين يريدون الإسلام ويترددون بسبب مُلكهم أو أموالهم؛ لأن مصعباً يقدم لهم مثالاً حقيقيًا لرجل استطاع أن يترك المال من أجل الدعوة، وكذلك قدوة للفقراء لأنهم سيتأكدون أن الإسلام لا يفرق بين الغني والفقير.

5- القيام بأعباء الدعوة، ومهام البعثة، وأعمال السفارة في المدينة: لما بعث النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُصعبَ بْنَ عميرٍ إلى المدينة امتثل الأمر من فوره، وانطلق مهاجرًا إليها، ولما بلغ المدينة نزل عَلَى السَّيِّدِ الجَلِيلِ السَّابِقِ إِلَى الخَيْرِ أَسْعَدِ بنِ زُرَارَةَ رضي اللَّه عنه، فأخذا يبثان الإسلام في أهلها بجد وحماس، ومن المهام التي قام بها مصعب رضي الله عنه آنذاك: تعليم الناس القرآن، وتفقيههم في الدين، وإقامة شعائر الإسلام، والدعوة إلى الإسلام.

وَقَدْ نَجَحَ مُصْعَبٌ رضي اللَّه عنه أَيَّمَا نَجَاحٍ فِي نَشْرِ الإِسْلَامِ، وَجَمْعِ النَّاسِ عَلَيْهِ، وَاسْتَطَاعَ أَنْ يتخَطَّى الصِّعَابَ التِي تُوجَدُ دَائِمًا فِي طَرِيقِ كُلِّ نَازِحٍ غَرِيبٍ، فَهُوَ بَعِيدٌ عَنْ مَكَّةَ، بَعِيدٌ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ظَهْرُهُ مَكْشُوفٌ لِلْجَمِيعِ، يُحَاوِلُ أَنْ يَنْقُلَ النَّاسَ مِنْ مَوْرُوثَاتٍ أَلِفُوها إِلَى نِظَامٍ جَدِيدٍ، يَشْمَلُ الحَاضِرَ وَالمُسْتَقْبَلَ، وَيَعُمَّ الإيمَانَ وَالعَمَلَ، وَالخُلُقَ وَالسُّلُوكَ، وَمَا كَانَ مُصْعَبٌ رضي اللَّه عنه يَمْلِكُ مِنْ وَسَائِلِ الإِغْرَاءِ مَا يَطْمَعُ طُلَابُ الدُّنْيَا وَنَهازِي الفُرَصِ، كُلُّ مَا يَمْلِكُهُ رِسَالَةَ رَبِّهِ، هِيَ زَادُهُ وَهِيَ سِلَاحُهُ، يَقْتَحِمُ الْأَهْوَالِ بِهَا، لَا يَأْبَهُ إِنْ ضُرِبَ أَوْ مَاتَ فَمَا خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ يَبْحَثُ عَنْ حُطَامِ الْدُّنْيَا، بَلْ كَانَ يَتَحَسَّسُ حُطَامَ الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ، لِيَجْمَعَهَا مِنْ جَدِيدٍ، لَدَيْهِ ثَرْوَةٌ مِنَ الكِيَاسَةِ وَالفِطْنَةِ، قَبَسَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وِإِخْلَاصٌ للَّهِ، جَعَلَهُ يُضَحِّي بِمَالِ أُسْرَتِهِ وَجَاهِها فِي سَبِيلِ عَقِيدَتِهِ، ثُمَّ هَذَا القُرْآنُ الذِي يَتَأَنَّقُ فِي تِلَاوَيهِ، وَيَتَخَيَّرُ مِنْ رَوَائِعِهِ مَا يَغْزُو بِهِ الألْبَابَ، فَإِذَا الأفْئِدَةُ تَرِقُّ لَهُ، وَتَنْفَتِحُ لهذا الدِّينِ. وَكَانَ مِمَّنْ أَسْلَمَ عَلَى يَدِ مُصْعَبٍ رضي اللَّه عنه: سَيِّدَا بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ: سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ، وَأُسَيْدُ بنُ حُضَيْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَبِإِسْلَامِهِمَا أَسْلَمَ جَمِيعُ بَنِي عَبْدِ الأشْهَلِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، إِلَّا مَا كَانَ مِنَ الأُصَيْرِمِ وَهُوَ عَمْرُو بنُ ثَابِتٍ، فَإِنَّهُ تَأَخَّرَ إِسْلَامُهُ إِلَى يَوْمِ أُحُدٍ، فكَانَتْ أَوَّلَ دَارٍ منْ دُورِ الأنْصَارِ أَسْلَمَتْ بِأَسْرِهَا.

رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ: أَنَّ أَسْعَدَ بنَ زُرَارَةَ رضي اللَّه عنه خَرجَ بِمُصْعَبِ بنِ عُمَيْرٍ رضي اللَّه عنه يُرِيدُ بِهِ دَارَ بَنِي عَبْدِ الأشْهَلِ، وَدَارَ بَنِي ظفَرٍ، فَدَخَلَ بِهِ حَائِطًا مِنْ حَوَائِطِ بَنِي ظفَرٍ، عَلَى بِئْرٍ يُقَالُ لَهَا: بِئْرُ مَرَقٍ، فَجَلَسَا فِي الحَائِطِ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِمَا رِجَال مِمَّنْ أَسْلَمَ، وَكَانَ سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ، وَأُسَيْدُ بنُ حُضَيرٍ يَوْمَئِذٍ سَيِّدَا قَوْمِهِمَا مِنْ بَنِي عَبْدِ الأشْهَلِ، وَكِلَاهُمَا مُشْرِكٌ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ، فَلَمَّا سَمِعَا بِمُصْعَبِ بنِ عُمَيرٍ رضي اللَّه عنه، وَنَشَاطِهِ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الإِسْلَامِ، قَالَ سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ لِأُسَيْدِ بنِ حُضَيرٍ: لَا أَبَالَكَ، انْطَلِقْ إِلَى هذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَينِ قَدْ أتيا دَارَيْنَا لِيُسَفِّهَا ضُعَفَاءَنَا، فَازْجُرْهُمَا، وَانْهَهُمَا عَنْ أَنْ يَأْتِيَا دَارَيْنَا، فَإِنَّه لَوْلَا أَنَّ أَسْعَدَ بنَ زُرَارَةَ مِنِّي حَيْثُ قَدْ عَلِمتَ كَفَيْتُكَ ذَلِكَ، هُوَ ابنُ خَالَتِي، وَلَا أَجِدُ عَلَيْهِ مَقْدَمًا.

فَأَخَذَ أُسَيْدُ بنُ حُضَيْرٍ حَرْبَتَهُ ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَيْهِمَا، فلَمَّا رَآه أَسْعَدُ بنُ زُرَارَةَ، قَالَ لِمُصْعَبِ بنِ عُمَيْرٍ: هَذَا سَيِّدُ قَوْمِهِ قَدْ جَاءَكَ، فَاصْدُقِ اللَّهَ فِيهِ، قَالَ مُصْعَبٌ: إِنْ يَجْلِسْ أُكَلِّمْهُ. فَجَاءَ أُسَيْدٌ فَوَقَفَ عَلَيْهِمَا مُتَشَتِّمًا، فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكُمَا إِلَيْنَا تُسَفّهانِ ضُعَفَاءَنَا؟ اعْتَزِلَانَا إِنْ كَانَتْ لَكُمَا بِأَنْفُسِكُمَا حَاجَةٌ، فَقَالَ لَهُ مُصْعَبٌ بِلِسَانِ المُؤْمِنِ الهادِئِ الوَاثِقِ مِنْ سَمَاحَةِ دَعْوَتِهِ: أَوَتَجْلِسُ فتَسْمَعُ، فَإِنْ رَضِيتَ أَمْرًا قَبِلْتَهُ، وَإِنْ كَرِهْتَهُ كُفَّ عَنْكَ مَا تَكْرَهُ، فَقَالَ: أُسَيْدُ بنُ حُضَيْرٍ -رضي اللَّه عنه-: أَنْصَفْتَ، ثُمَّ رَكَزَ حَربَتَهُ، وَجَلَسَ إِلَيْهِمَا، فكَلَّمَهُ مُصْعَبٌ بِالإِسلَامِ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ القُرْآنَ.

فَقَالَا -أَيْ مُصْعَبٌ وَأَسْعَدُ بنُ زُرَارَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا-: وَاللَّهِ لَعَرَفْنَا فِي وَجْهِهِ الإِسلَامَ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ فِي إِشْرَاقِهِ وَتَسَهُّلِهِ، ثُمَّ قَالَ أُسَيْدٌ: مَا أَحَسَنَ هذا الكَلَامَ وَأَجْمَلَهُ! كَيْفَ تَصْنَعُونَ إِذَا أَرَدْتُم أَنْ تَدْخُلُوا فِي هَذَا الدِّينِ؟ قَالَا لَهُ: تَغْتسِلُ فتَطَّهَرُ وَتُطَهِّرُ ثَوْبَيْكَ، ثُمَّ تَشْهَدُ شَهَادَةَ الحَقِّ، ثُمَّ تُصَلِّي، فَقَامَ فَاغْتَسَلَ وَطَهَّرَ ثَوْبَيْهِ، وَشَهِدَ شَهادَةَ الحَقِّ، ثُمَّ قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ لَهُمَا: إِنَّ وَرَائِي رَجُلًا إِن اتَّبَعَكُمَا لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهُ أَحَدٌ مِنْ قَوْمِهِ، وَسَأُرْسِلُهُ إِلَيْكُمَا الآنَ: سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ. ثُمَّ أَخَذَ حَرْبَتَهُ وَانْصَرَفَ إِلَى سَعْدٍ وَقَوْمِهِ، وَهُمْ جُلُوسٌ فِي نَادِيهِمْ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ مُقْبِلًا، قَالَ: أَحْلِفُ بِاللَّهِ لَقَدْ جَاءَكُمْ أُسَيْدٌ بِغَيْرِ الوَجْهِ الذِي ذَهبَ بِهِ مِنْ عِنْدِكُمْ، فَلَمَّا وَقَفَ أُسَيْدُ بنُ حُضَيْرٍ عَلَى النَّادِي، قَالَ لَهُ سَعْدٌ: مَا فَعَلْتَ؟ فَقَالَ: كَلَّمْتُ الرَّجُلَيْنِ، فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ بِهِمَا بَأْسًا، وَقَدْ نَهيْتُهُمَا فَقَالَا: نَفْعَلُ مَا أَحْبَبْتَ، وَقَدْ حُدِّثْتُ أَنَّ بَنِي حَارِثَةَ خَرَجُوا إِلَى أسْعَدِ بنِ زُرَارَةَ لِيَقْتُلُوهُ، وَذِلَك أَنَّهُمْ عَرَفُوا أَنَّهُ ابنُ خَالَتِكَ لِيُخْفِرُوكَ.

فَقَامَ سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ مُغْضَبًا مُبَادِرًا، تَخَوُّفًا لِلَّذِي ذُكِر لَهُ مِنْ بَنِي حَارِثَةَ، فَأَخَذَ الحَرْبَةَ مِنْ يَدِ أُسَيْدِ بنِ حُضَيْرٍ، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرَاكَ أَغْنَيْتَ شَيْئًا، ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْهِمَا، فَلَمَّا رَآهُمَا سَعْدٌ مُطْمَئِنِّينَ، عَرَفَ أَنَّ أُسَيْدَ بنَ حُضَيْرٍ إِنَّمَا أَرَادَ مِنْهُ أَنْ يَسْمَعَ مِنْهُمَا، فَوَقَفَ سعدُ بنُ مُعَاذٍ عَلَى أَسْعَدِ بنِ زُرَارَةَ وَمُصْعَبِ بنِ عُمَيْرٍ مُتَشَمِّتًا، ثُمَّ قَالَ لِأَسْعَدِ بنِ زُرَارَةَ: يَا أَبَا أُمَامَةَ! أَمَا وَاللَّهِ لَوْلَا مَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ مِنَ القَرَابَةِ مَا رُمْتَ هَذَا مِنِّي، أتَغْشَانَا فِي دَارِنَا بِمَا نَكْرَهُ؟ وَكَانَ أَسْعَدُ بنُ زُرَارَةَ قَدْ قَالَ لِمُصْعَبِ بنِ عُمَيْرٍ: لقَد جَاءَكَ وَاللَّهِ سَيِّدُ مَنْ وَرَاءِهِ مِنْ قَوْمِهِ، إِنْ يَتَّبِعْكَ لَا يَتَخَلَّفُ مِنْهُم اثْنَانِ. فَقَالَ مُصْعَبٌ لِسَعْدِ بنِ مُعَاذٍ: أَوَتَقْعُدَ فتَسْمَعَ؟ فَإِنْ رَضِيتَ أَمرًا، وَرَغِبْتَ فِيهِ قَبِلْتَهُ، وَإِنْ كَرِهْتَهُ عَزَلْنَا مِنْكَ مَا تَكْرَهُ. فَقَالَ سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ رضي اللَّه عنه: أَنْصَفْتَ، ثُمَّ رَكَزَ الحَرْبَةَ وَجَلَسَ فَعَرَضَ مُصْعَبٌ عَلَيْهِ الإِسْلَامَ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ الزُّخْرُفِ: {حم . وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ . إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف: 1 - 3].

قَالَا -أَيْ مُصْعَبٌ وَأَسْعَدُ بنُ زُرَارَةَ-: فَعَرَفْنَا وَاللَّهِ فِي وَجْهِهِ الإِسْلَامَ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ، لِإِشْرَاقِهِ وِتَسَهُّلِهِ. ثُمَّ قَالَ لَهُمَا: كَيْفَ تَصْنَعُونَ إِذَا أَنْتُم أَسْلَمْتُمْ، وَدَخَلْتُمْ فِي هَذَا الدِّينِ؟ قَالَا: تَغْتَسِلُ، فتَطَّهَّرُ وَتُطَهِّرُ ثِيَابَكَ، ثُمَّ تَشْهَدُ شَهَادَةَ الحَقِّ، ثُمَّ تُصَلِّي، فَقَامَ وَاغْتَسَلَ، وَطَهَّرَ ثِيَابَهُ، ثُمَّ شَهِدَ شَهَادَةَ الحَقِّ، ثُمَّ رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَخَذَ حَرْبَتَهُ، فَأَقْبَلَ عَائِدًا إِلَى نَادِي قَوْمِهِ، وَمَعَهُ أُسَيْدُ بنُ حُضَيْرٍ، فَلَمَّا رَآه قَوْمُهُ مُقْبِلًا قَالُوا: نَحْلِفُ بِاللَّهِ لَقَدْ رَجَعَ إِلَيْكُم سَعْدٌ بِغَيْرِ الوَجْهِ الذِي ذَهبَ بِهِ مِنْ عِنْدِكُمْ، فَلَمَّا وَقَفَ عَلَيْهِمْ قَالَ: يَا بَنِي عَبْدِ الأشْهَلِ! كَيْفَ تَعْلَمُونَ أَمْرِي فِيكُمْ؟ قَالُوا: سَيِّدُنَا وَأَفْضَلُنَا رَأْيًا، وَأَيْمَنُنَا نَقِيبَةً، قَالَ: فَإِنَّ كَلَامَ رِجَالِكُمْ وَنسَائِكُمْ عَلَيَّ حَرَامٌ حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ. قَالَا -أَيْ أَسْعَدُ بنُ زُرَارَةَ -رضي اللَّه عنه- وَمُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ -رضي اللَّه عنه-: فَوَاللَّهِ مَا أَمْسَى فِي دَارِ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ رَجُلٌ وَلَا امْرَأَةٌ إِلَّا مُسْلِمًا وَمُسْلِمَةً إِلَّا الأُصَيْرِمُ عَمْرُو بنُ ثَابِتٍ، فَإِنَّهُ تَأَخَّرَ إِسْلَامُهُ إِلَى يَوْمِ أُحُدٍ فَأَسْلَمَ، وَاسْتُشْهِدَ بِأُحُدٍ، وَلَم يُصَلِّ للَّهِ سَجْدَةً قَطُّ، وَأَخْبَرَ رَسولُ اللَّهِ صلى اللَّه عليه وسلم أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ.

وَأَقَامَ مُصْعَبٌ رضي اللَّه عنه فِي مَنْزِلِ أَسْعَدِ بنِ زُرَارَةَ يَدعُو النَّاسَ إِلَى الإِسْلَامِ، حَتَّى لَمْ تَبْقَ دَارٌ مِنْ دُورِ الأنْصَارِ إِلَّا وَفِيهَا رِجَالٌ وَنِسَاءٌ مُسْلِمُونَ.

6- بدأ الإسلام ينتشر في ربوع المدينة حتى دخل أكثر بيوتها، وظهر الإسلام وبدأ المسلمون في إقامة الشعائر الظاهرة كصلاة الجمعة، فعَنِ الزُّهْرِيِّ أنه قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرِ بْنِ هَاشِمٍ إِلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ لِيُقْرِئَهُمُ الْقُرْآنَ، فَاسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجَمِّعَ بِهِمْ، فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ يَوْمَئِذٍ بِأَمِيرٍ، وَلَكِنَّهُ انْطَلَقَ يُعَلِّمُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ. أخرجه عبدالرزاق الصنعاني في مصنفه.

وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أنه قَالَ أَذِنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجُمُعَةَ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ وَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَجْمَعَ بِمَكَّةَ فَكَتَبَ إلَى مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ "أَمَّا بَعْدُ فَانْظُرْ الْيَوْمَ الَّذِي تَجْهَرُ فِيهِ الْيَهُودُ بِالزَّبُورِ فَاجْمَعُوا نِسَاءَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ فَإِذَا مَالَ النَّهَارُ عَنْ شَطْرِهِ عِنْدَ الزَّوَالِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَتَقَرَّبُوا إلَى اللَّهِ بِرَكْعَتَيْنِ". قَالَ: فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ جَمَعَ حَتَّى قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فَجَمَعَ عِنْدَ الزَّوَالِ مِنْ الظُّهْرِ وَأَظْهَرَ ذَلِكَ. نسبه الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير للدارقطني، وحسنه الألباني.

فَجَمَّعَ بِهِمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ فِي دَارِ سَعْدِ بْنِ خَيْثَمَةَ وَهُمُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلا، وَمَا ذَبَحَ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ إِلا شَاةً، فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ جَمَّعَ فِي الإِسْلامِ جُمُعَةً. الطبقات الكبرى لابن سعد.

وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَكَانَ قَائِدَ أَبِيهِ بَعْدَ مَا ذَهَبَ بَصَرُهُ، عَنْ أَبِيهِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ تَرَحَّمَ لِأَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، فَقُلْتُ لَهُ: إِذَا سَمِعْتَ النِّدَاءَ تَرَحَّمْتَ لِأَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، قَالَ: " لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ جَمَّعَ بِنَا فِي هَزْمِ النَّبِيتِ مِنْ حَرَّةِ بَنِي بَيَاضَةَ فِي نَقِيعٍ، يُقَالُ لَهُ: نَقِيعُ الْخَضَمَاتِ "، قُلْتُ: كَمْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ، قَالَ: «أَرْبَعُونَ». أخرجه أبو داود وابن ماجه وحسنه الألباني.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وَيَجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَوَّلِ بِأَنَّ أَسْعَدَ كَانَ آمِرًا وَكَانَ مُصْعَبُ إمَامًا. انتهى من التلخيص الحبير.

وقال الشيخ الألباني رحمه الله: ويمكن أن يقال أن مصعباً أول من جمع فى المدينة نفسها , وأسعد أول من جمع فى بنى بياضة وهى قرية على ميل من المدينة فلا اختلاف والله أعلم. انتهى من إرواء الغليل.

7- قبل حلول موسم الحج التالي عاد مصعب بن عمير رضي الله عنه إلى مكة، يحمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشائر الفتح، ويقص عليه خبر قبائل يثرب، وما فيها من مواهب الخير، وما لها من قوة ومنعة.

خَرَجَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ رضي الله عنه مِنَ الْمَدِينَةِ مَعَ السَّبْعِينَ الَّذِينَ وَافَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ حَاجِّ الأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، وَرَافَقَ أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ فِي سَفَرِهِ ذَلِكَ. فَقَدِمَ مَكَّةَ فَجَاءَ مَنْزِلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلا وَلَمْ يَقْرَبْ مَنْزِلَهُ، فَجَعَلَ يُخْبِرُ رَسُولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الأَنْصَارِ وَسُرْعَتِهِمْ إِلَى الإِسْلامِ وَاسْتِبْطَأَهُمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسُرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكُلِّ مَا أَخْبَرَهُ وَبَلَغَ أُمَّهُ أَنَّهُ قَدْ قَدِمَ فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ: يَا عَاقُّ أَتَقْدَمُ بَلَدًا أَنَا فِيهِ لا تَبْدَأُ بِي؟ فَقَالَ: مَا كُنْتُ لأَبْدَأَ بِأَحَدٍ قَبْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا سَلَّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَرَهُ بِمَا أَخْبَرَهُ ذَهَبَ إِلَى أُمِّهِ فَقَالَتْ: إِنَّكَ لَعَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ مِنَ الصَّبْأَةِ بَعْدُ! قَالَ: أَنَا عَلَى دَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الإِسْلامُ الَّذِي رَضِيَ اللَّهُ لِنَفْسِهِ وَلِرَسُولِهِ. قَالَتْ: مَا شَكَرْتَ مَا رَثَيْتُكَ مَرَّةً بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ وَمَرَّةً بِيَثْرِبَ، فَقَالَ: أُقِرُّ بِدِينِي إِنْ تَفْتُنُونِي. فَأَرَادَتْ حَبْسَهُ، فَقَالَ: لَئِنْ أَنْتِ حَبَسْتَنِي لأحرصن على قتل من يتعرض لي. قال: فَاذْهَبْ لِشَأْنَكَ. وَجَعَلَتْ تَبْكِي. فَقَالَ مُصْعَبٌ: يَا أُمَّه إِنِّي لَكِ نَاصِحٌ عَلَيْكِ شَفِيقٌ فَاشْهَدِي أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، قَالَتْ: وَالثَّوَاقِبِ لا أَدْخَلُ فِي دِينِكَ فَيُزْرَى بِرَأْيِي وَيُضَعَّفَ عَقْلِي وَلَكِنِّي أَدَعُكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِ وَأُقِيمُ عَلَى دِينِي. انتهى من طبقات ابن سعد. قولها: مَا رَثَيْتُكَ من رَثَى لَهُ إذا رَقّ وتَوَجَّعَ. قولها: وَالثَّوَاقِبِ قسم شركي بالشهب المضيئة.

وفي هذا يظهر تقديمه للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على غيره، ومحبته أكثر من غيره، وفيه حرص مصعب رضي الله عنه على هداية أمه ودعوتها للإسلام بأسلوب كله شفقة ورحمة, ولكن الهداية بيد لله حيث يقول جل وعلا: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص: 56], وإن دعوة الإنسان والديه للإسلام من أعظم البر الذي يقدم لهما.

كما يظهر ثبات مصعب رضي الله عنه على دينه وعدم تنازله عنه رغم التهديدات والصعوبات التي واجهته.

ثم أقام مصعب بن عمير مع النبي صلى الله عليه وسلم بمكة بقية ذي الحجة والمحرم وصفر, وقَدِمَ قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مهاجرًا لهِلال شهر ربيعٍ الأول, قبل مقدَمِ رسول الله صلى الله عليه وسلم باثنتي عشرة ليلةً.

8- مصعب بن عمير رضي الله عنه من المهاجرين إلى المدينة، وهو ممن شهد المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار؛ فبعد هجرته رضي الله عنه إلى المدينة آخى الرسول صلى الله عليه وسلم بينه وبين أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه.

9- مصعب بن عمير رضي الله عنه يجاهد الكفار، ويقاتل في سبيل الله، وهو ممن حمل بين يديه لواء الرسول صلّى الله عليه وسلم ورايته في ساحة القتال؛ فقد شهد رضي الله عنه غزوة بدر الكبرى مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو حامل لواء المسلمين فيها. وعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ». متفق عليه، وللبخاري: «اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَقَدْ أَوْجَبْتُ لَكُمُ الجَنَّةَ».

10- أُخُوة الإسلام أعظم من أُخُوة النسب: مضى أن مصعبًا رضي الله عنه قدَّم الإسلام والنبي صلى الله عليه وسلم على أمه وماله ودنياه، وها هو يقدم أخوة الإسلام على أخوة النسب، فأخرج ابن إسحاق عن نُبَيْهِ بْنِ وَهْبٍ أخي بني عبد الدار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أقبل بالأسارى –يعني يوم بدر- فرَّقهم بين أصحابه، وقال: «استوصوا بهم خيراً». قال: وكان أَبُو عَزِيزِ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ هَاشِمٍ -أخو مصعب رضي الله عنه لأبيه وأمه- في الأسارى. قال أَبُو عَزِيزِ: مرَّ بي أخي مصعب بن عمير ورجل من الأنصار يأسرني فقال: شُدَّ يديك به؛ فإنّ أمه ذات متاع لعلها تفديه منك قال أَبُو عَزِيزِ: فكنت في رَهْط ن الأنصار حين أقبلوا بي من بدر، فكانوا إذا قدَّموا غداءهم وعشاءهم خصُّوني بالخبز وأكلموا التمر لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بنا، ما تقع في يد رجل منهم كسرة خبز إلا نفحني بها، فأستحي فأردها فيردها عليَّ ما يمسها. ولما قال أخوه مصعب لأبي اليَسَر -وهو الذي أسره- ما قال، قال له أَبُو عَزِيزِ: يا أخي، هذه وصاتك بي؟ فقال له مصعب: إنه أخي دونك.

فسألت أمه عن أغلى ما فُديَ به قرشي فقيل لها: أربعة آلاف درهم، فبعثت بأربعة آلاف.

جهاد واستشهاد

غزا مصعب رضي الله عنه مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غزوة بدر الكبرى ثم غزا معه أيضًا غزوة أحد، وحمل لواء المهاجرين فيها، فلما نزل بالمسلمين ما نزل في هذه المعركة، واجتمع المشركون حول رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يريدون قتله، التف جماعة من الصحابة رضي الله عنهم حول النبي صلى الله عليه وسلم يدافعون عنه ويفدونه بأنفسهم، وكان منهم مصعب بن عمير رضي الله عنه، فقاتل بضراوة بالغة، يدفع عن النبيّ صلى الله عليه وسلم هجوم ابن قمئة وأصحابه.

ثَبَتَ مُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ رضي اللَّه عنه، وَهُوَ حَامِلُ لِوَاءَ المُسْلِمِينَ يُقَاتِلُ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى اللَّه عليه وسلم، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ ابنُ قَمِئَةٍ وَهُوَ فَارِسٌ، فَضَرَبَ يَدَهُ اليُمْنَى فَقَطَعَهَا، وَمُصْعَبٌ يَقُولُ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ}، فَأَخَذَ اللِّوَاءَ بِيَدِهِ اليُسْرَى، فَضَرَبَ ابْنُ قَمِئَةَ يَدَهُ اليُسْرَى فَقَطَعَهَا، فَضَمَّ اللِّوَاءَ بِعَضُدَيْهِ إِلَى صَدْرِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ}، ثُمَّ هَجَمَ ابْنُ قَمِئَةَ فَضَرَبَهُ بِالرُّمْحِ، فَقتَلَهُ، وَسَقَطَ مُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ رضي اللَّه عنه قَتِيلًا، وَسَقَطَ اللِّوَاءُ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللَّه عليه وسلم عَلِيَّ بنَ أَبِي طَالِبٍ رضي اللَّه عنه أَنْ يَرْفَعَ اللِّوَاءَ، فَرَفَعَهُ.

فَلَمَّا قتَلَ ابنُ قَمِئَةَ مُصْعَبَ بنَ عُمَيْرٍ رضي اللَّه عنه، وَكَانَ مُصْعَبٌ يُشْبِهُ الرَّسُولَ صلى اللَّه عليه وسلم إِذَا لَبِسَ لَأَمَتَهُ، فَظَنَّ أَنَّهُ قتَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّه عليه وسلم، فَرَجَعَ إِلَى قُرَيْشٍ، وَهُوَ يَقُولُ: قتَلْتُ مُحَمَّدًا، وَصَرَخَ الصَّارِخُ بِصَوْتٍ عَالٍ: أَلَا إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ، فَلَمَّا سَمِعَ المُسْلِمُونَ ذَلِكَ، عَظُمَ الأَمْرُ عَلَيْهِمْ، وَطَاشَتْ أَحْلَامُهُمْ، وَذُهِلُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَأَصْبَحُوا حَيَارَى لَا يَدْرُونَ مَاذَا يَصْنَعُونَ.

هكذا كانت خاتمة هذا الصحابي الجليل: الشهادة في سبيل الله.

كُفِّنَ مُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ رضي اللَّه عنه، فِي بُرْدَةٍ إِذَا غَطُّوا رَأْسَهُ ظَهَرَتْ قَدَمَاهُ، وَإِذَا غَطَّوْا قَدَمَيْهِ ظَهَر رَأْسُهُ؛ فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ خَبَّابِ بنِ الأَرَتِّ رضي اللَّه عنه أَنَّهُ قَالَ: هَاجَرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى اللَّه عليه وسلم نُرِيدُ وَجْهَ اللَّهِ، فَوَقَعَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ، فَمِنَّا مَنْ مَضَى لَمْ يَأْخُذْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا، مِنْهُمْ مُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ، قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَترَكَ نَمِرَةً، فَكُنَّا إِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رَأْسَهُ بَدَتْ رِجْلَاهُ، وَإِذَا غَطَّيْنَا رِجْلَيْهِ بَدَا رَأْسُهُ، فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى اللَّه عليه وسلم أَنْ نُغَطِّيَ رَأْسَهُ، وَنَجْعَلَ عَلَى رِجْلَيْهِ شَيْئًا مِنْ إِذْخِرٍ.

وَرَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ رضي اللَّه عنه أنه أُتِيَ بِطَعَامٍ، وَكَانَ صَائِمًا، فَقَالَ: قُتِلَ مُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ وَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي، كُفِّنَ فِي برْدَةٍ إِنْ غُطِّيَ رَأْسُهُ بَدَتْ رِجْلَاهُ، وَإِنْ غُطِّيَ رِجْلَاهُ بَدَا رَأْسُهُ.

وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَمَّا أُصِيبَ إِخْوَانُكُمْ بِأُحُدٍ، جَعَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَرْوَاحَهُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ، تَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا، وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ، فَلَمَّا وَجَدُوا طِيبَ مَشْرَبِهِمْ وَمَأْكَلِهِمْ، وَحُسْنَ مَقِيلِهِمْ قَالُوا: يَا لَيْتَ إِخْوَانَنَا يَعْلَمُونَ بِمَا صَنَعَ اللَّهُ لَنَا، لِئَلا يَزْهَدُوا فِي الْجِهَادِ، وَلا يَنْكُلُوا عَنِ الْحَرْبِ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا أُبَلِّغُهُمْ عَنْكُمْ»، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَؤُلاءِ الْآيَاتِ عَلَى رَسُولِهِ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]. أخرجه أحمد وأبو داود وحسنه الألباني.

وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما أنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِذَا ذُكِرَ أَصْحَابُ أُحُدٍ: «أَمَا وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي غُودِرْتُ مَعَ أَصْحَابِ نُحْصِ الْجَبَلِ». يَعْنِي سَفْحَ الْجَبَلِ. أخرجه أحمد وحسنه الأرناؤوط. غُودِرْتُ: أي ليتَنِي استُشْهِدْتُ معهم.

وَعَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ رضي الله عنه أنه قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا أَشْرَفْنَا عَلَى حَرَّةِ وَاقِمٍ، قَالَ: فَدَنَوْنَا مِنْهَا، فَإِذَا قُبُورٌ بِمَحْنِيَّةٍ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ قُبُورُ إِخْوَانِنَا هَذِهِ. قَالَ: «قُبُورُ أَصْحَابِنَا» ثُمَّ خَرَجْنَا حَتَّى إِذَا جِئْنَا قُبُورَ الشُّهَدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذِهِ قُبُورُ إِخْوَانِنَا». أخرجه أحمد وأبو داود وصححه الألباني.

قال الله تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا).

فهؤلاء قضوا ما أمر عز وجل به، ووفوا لله سبحانه بعهدهم، فكان لهم الأجر العظيم عند الله، ولهم الجزاء على صدقهم، قال تعالى: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ} [الأحزاب:24]، ليس من جنس طلحة فقط، بل منهم سعد بن معاذ، وحمزة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنس بن النضر، وصحابة كثيرون رضي الله عنهم جميعًا، كلهم قضوا ما أمر الله عز وجل به، عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام، وعاهدوه على الجهاد في سبيل الله، وبايعه بعضهم على الموت في سبيل الله شهداء، فكان أن وفوا لله عهدهم فأعطاهم الله الأجر العظيم.

إن مصعب بن عمير رضي الله عنه ممن قضى نحبه؛ فقد كان في مكة شاباً فتياً غنياً عزيزاً في قومه، وكانت أمه غنية جداً، وكانت تنفق عليه رضي الله عنه، وتعطيه مالاً كثيراً، ومع ذلك فَضَّلَ أن يدخل في دين الله عز وجل، وأن يترك المال الذي كان فيه، فترك الغنى وترك الترف، ودخل في دين الله عز وجل ليبتلى ويقتل شهيداً رضي الله تبارك وتعالى عنه في يوم أحد، فقيراً ليس معه شيء إلا بردة، إذا كفنوه فيها فغطوا رأسه بدت قدماه، فإذا غطوا قدميه بدا رأسه رضي الله عنه، فلما مر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذكره، وقرأ هذه الآية: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23]. كما أخرجه البيهقي.

إن مصعب بن عمير رضي الله عنه ينبغي أن يكون قدوة لكل شاب مترف يتقلب في نعمة الله تعالى، وأراد الرجوع إلى الله، فمصعب باع الدنيا بالآخرة، وآثر النعيم المقيم على النعيم الزائل.

مع تحيات

اللجنة العلمية لملتقى الخطيب المؤثر أسد المنابر