بقلم د. محمود الحفناوي الأنصاري
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول وعلى آله وصحبه وبعد :
في هذه الأيام تشرئب النفوس وتتطلع للمناصب والجاه ، حتى أن أحدنا إن لم يكن له منصب أو جاه في الجماعة لا يعمل فيها ، وإن كان في مسؤولية، ونزعت منه، ترك الجماعة، وترك العمل، وترك الدعوة ، وناصب العداء لإخوانه ولدعوته ولشيوخه ، وللأصحاب الفضل عليه ، بل ولمن كان سببًا في هدايته .
فنقلت هذه الكلمات للفائدة وللعبرة وللعظة ، وما أردت بها إلا الذكرى لنفسي أولا ثم الذكرى لإخواني ثانيًا .
يا الله ما أعظمها من كلمات !!!!! يا الله ما أروعها من عبارات !!!!
يا الله ما أصدقها من أحرف !!!! يا الله لقد هزت مشاعري !!!!
يا الله لقد زلزلت كياني ،، وخشع لها قلبي ،، وزرفت لها عيني !!!!
خالطت بشاشة قلبي ، خاطبت اﻷغوار واﻷعماق والمشاعر واﻷحاسيس !!!
أفاقتني من سكرة ،،،، ونبهتني من غفلة ،،،، وأيقظتني من نوم !!! يا الله يا الله يا الله ..
أين نحن من هذا الرجل العظيم ؟؟؟ من منا هذا الرجل ؟؟؟
بالطبع لست أنا !!!!
ﻻ تستعجل في قراءتها ،، واقرأها مرارا وتكرارا لعلك تجد ضالتك ؟؟؟؟؟
من هو هذا الرجل ؟؟؟
إنه ............. رجل الساقة
يقول د. عمل المقبل : جمعني لقاء بأحد العاملين في الجهات الخيرية، فأتى الحديثُ على عمله في مهمة لا تناسب مقامه الحالي بتوجيه ممن يعلوه رتبةً في تلك الجهة، فقال لي بالحرف الواحد: أنا أعملُ حيثُ وُضِعْتُ، ولو كنت في المستودع!هنا تذكرتُ قوله صلى الله عليه وسلم: "طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة، كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع" رواه البخاري ، والشاهد منه قوله: "إن كان في الحراسة، كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة".ما أبهى هذا التعبير النبوي عن هذا النوع من الناس! البسيط في هيئته ولباسه.ولعلك ـ الرجل المذكور، حيث قال: "خامل الذكر، لا يقصد السموّ، فأين اتفق له كان فيه" [كشف المشكل من حديث الصحيحين] .
كم نحن بحاجة إلى هذه النفوس الكبيرة في ميادين العمل لهذا الدين! تلك النفوس التي لا تعنيها التصنيفات الإدارية، ولا "الفلاشات" الإعلامية، ولا تُردّد أسمائها في الحفلات الخطابية، أو منصات التتويج، ولا يعنيها أن تكون في صدر المجلس أو طرفه، بل الأهم عندها أن تخدم دين الله، ولو كانت المصلحة تقتضي أن يكون في مكانٍ لا تتسلط عليه كاميرات الإعلام، ولا تلهج به الألسنة.
يحدثنا التاريخ عن نماذج من رجال الساقة، منهم من عرفناه، والأكثرون لم نعرفهم، ولكنهم لا يخفون على الله تعالى، وفي الواقع من أمثالهم كثير.تأمل معي في قصة ذلك الرجل الذي نوّه النبي صلى الله عليه وسلم به بعد أن وَضعت الحربُ أوزارها في إحدى غزواته، فقال لأصحابه: «هل تفقدون من أحد؟» قالوا: نعم، فلاناً، وفلاناً، وفلاناً، ثم قال: «هل تفقدون من أحد؟» قالوا: نعم، فلاناً، وفلاناً، وفلاناً، ثم قال: «هل تفقدون من أحد؟» قالوا: لا، قال: «لكني أفقد جليبيبا، فاطلبوه» فطُلب في القتلى؛ فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم، ثم قتلوه، فأتى النبيُّ صلى الله عليه وسلم فوقفَ عليه، فقال: «قتل سبعة، ثم قتلوه هذا مني وأنا منه، هذا مني وأنا منه» قال: فوضعه على ساعديه، ليس له إلا ساعدا النبي صلى الله عليه وسلم، فحفر له ووُضع في قبره رواه مسلم .
وعَقِيْب فتح نهاوند (سنة 21هـ) [هذا هو المشهور، وقيل غير ذلك.] ـ والتي يسمّيها المسلمون فتح الفتوح ـ جاء البشير إلى الفاروق رضي الله عنه فقال: أبشر يا أمير المؤمنين بفتح أعز الله به الإسلام وأهله، وأذل به الكفر وأهله؛ فحمد الله عز وجل، ثم قال: النعمان بعثك؟ قال: احتسِب النعمانَ يا أمير المؤمنين، قال: فبكى عمر واسترجع قال: ومن ويحك! قال: فلان وفلان، حتى عدّ له ناساً كثيرا، ثم قال: وآخرين يا أمير المؤمنين لا تعرفهم، فقال عمر وهو يبكي: لا يضرهم ألا يعرفهم عمر، ولكن الله يعرفهم. [تاريخ الطبري (4/120) ]. ويقول عمر بن عبد الملك الكناني: صحب ابنُ محيريز (169هـ) رجلاً في الساقة ـ في أرض الروم ـ فلما أردنا أن نفارقه قال له ابن محيريز: أوصني، قال: «إن استطعت أن تَعرف ولا تُعرف فافعل» [ حلية الأولياء (5/141) ]، وابن محيريز هذا، هو الذي سمعه بعضُهم يقول: "اللهم إني أسألك ذِكراً خاملاً" [حلية الأولياء (5/140) ] .
هذه نماذج لقصص اختلفت سياقاتها، واتحدت مقاصدُها، تُذَكّر أولئك الذين يشعر أحدُهم بالغبطة في العمل لدينه، ويتنفس السعادة وهو يتقرب إلى الله بنفع إخوانه، ثم تأتيه نفسُه في أحايين فيَشْرقُ ببعض حظوظها، حين تقتضي مصلحةُ العمل أن يقدَّم غيرُه عليه، أو أن يعمل في مكان لا تصله لواقط الصوت، ولا مذاييع الإعلام، ولا ألسنة المادحين.
إن من توفيق الله لعبده ورحمته به أن تكون هِمّةُ نَفْسِه، وقِبْلَةُ قلبه ـ في عمله ـ أن يكون خالصاً لله، فلا يضيق صدرُه إذا لم يقدَّم، ولا تجزعُ نفسُه إذا لم يشتهر، بل إذا اقتضى الأمر أن يعمل بصمت؛ عمل ونفسه تتدفق سروراً، وقد يرحل بصمت، وهو يتذكر كلمةَ الفاروق: " لا يضرهم ألا يعرفهم عمر، ولكن الله يعرفهم "، وهو يطمع أن يَقْدُمَ على "طوبى" دار الطيبين المطيّبين، الصادقين المخلصين.
أين نحن من هؤلاء الأكابر، ونفوس الكبار، وما الذي يضرنا أن لا يعرفنا المشايخ ، وما الذي يضرنا أن لا يعرفنا القادة ، وما الذي يضرنا أن لا نظهر في الإعلام ، وما الذي يضرنا إن كنّا في المقدمة أو في الساقة ، طالما أننا نعمل لله ونخلص أعمالنا لله ، ونرجوا الأجر والثواب من الله تعالى .
رضا من نريده ، رضا الله ، أم رضا الناس .
من كان يعمل لله ويخلص العمل لله ، لا يضره إن كان في المقدمة أو في الساقة .
وصدق من قال: ( لان أكون ذنبًا في الحق، خيرٌ لي من أن أكون رأسًا في الباطل )
اللهم اجعل عملنا كله صالحا ولوجهك خالصا ، لا لأحدٍ فيه سواك نصيبا ، آمين ..
وصلى الله على نبينا محمد وعلى له وصحبه وسلم تسليمًا كثيرا .