الغرض من الخطبة: بيان أحداث غزوة بدر الكبرى، وأسباب النصر، مرورًا ببعض الفوائد والدروس والعبر.
عنوان الخطبة (ولقد نصركم الله ببدر)
الغرض من الخطبة: بيان أحداث غزوة بدر الكبرى، وأسباب النصر، مرورًا ببعض الفوائد والدروس والعبر.
عناصر الخطبة:
1- مقدمات بين يدي الغزوة.
2- يوم الفرقان.
3- فضل أهل بدر.
المقدمة: أما بعد، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون} [آل عمران: 123].
أي: ولقد نصركم الله على المشركين في معركة بدر وأنتم مستضعفون قليلو العدد والعدة والعتاد، فاتقوا الله ربكم وخافوه، لعلكم تشكرونه على نعمه العظيمة السابغة.
وبَدْر مَحَلَّة بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، تُعرف بِبِئْرِهَا، مَنْسُوبَةٌ إِلَى رَجُلٍ حَفَرَهَا يُسَمَّى بَدْرًا.
بين يدي الخطبة:
مقدمات بين يدي الغزوة
سبب تلك الغزوة: أن مشركي قريش أرسلوا أبا سفيان بن حرب من مكة إلى الشام بتجارة لهم محملة بثروات طائلة لصناديد قريش، ألف بعير موقرة بالأموال، لا تقل عن خمسين ألف دينار ذهبي، ولم يكن معها من الحرس إلا نحو أربعين رجلاً، فكانت هذه العير فرصة ذهبية للمسلمين، وضربة عسكرية واقتصادية قاصمة ضد المشركين، لو أنهم فقدوا هذه الثروة الطائلة من أموالهم التي يعادون بها الله ورسوله، ويحاربون بها الإسلام وأهله، ويجعلونها عدة لنشر الشرك والفساد في الأرض، لذلك أعلن النبي صلى الله عليه وسلم في المسلمين النفير الاختياري، قائلاً: "هَذِهِ عِيرُ قُرَيْشٍ فِيهَا أَمْوَالُهُمْ فَاخْرُجُوا إلَيْهَا لَعَلَّ اللَّهَ يُنْفِلُكُمُوهَا". فَانْتَدَبَ النَّاسُ فَخَفَّ بَعْضُهُمْ وَثَقُلَ بَعْضُهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمْ يَظُنُّوا أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يلقى حَرْبًا.
وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ حِينَ دَنَا مِنْ الْحِجَازِ يُتَحَسَّسُ الْأَخْبَارَ وَيَسْأَلُ مَنْ لَقِيَ مِنْ الرُّكْبَانِ تَخَوُّفًا عَلَى أَمْرِ النَّاسِ، حَتَّى أَصَابَ خَبَرًا مِنْ بَعْضِ الرُّكْبَانِ: أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ اسْتَنْفَرَ أَصْحَابَهُ لَكَ وَلِعِيرِكَ فَحَذِرَ عِنْدَ ذَلِكَ، فَاسْتَأْجَرَ ضَمْضَمَ بْنَ عَمْرٍو الْغِفَارِيَّ، فَبَعَثَهُ إِلَى مَكَّة وَأمره أَنْ يَأْتِيَ قُرَيْشًا فَيَسْتَنْفِرَهُمْ إلَى أَمْوَالِهِمْ، وَيُخْبِرَهُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ عَرَضَ لَهَا فِي أَصْحَابِهِ، فَخَرَجَ ضَمْضَمُ بْنُ عَمْرٍو سَرِيعًا إلَى مَكَّةَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ, وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، اللَّطِيمَةَ قَدْ عَرَضَ لَهَا مُحَمَّدٌ فِي أَصْحَابِهِ -وَالَلَّطِيمَةُ هِيَ التِّجَارَةُ- الْغَوْثَ الْغَوْثَ، وَمَا أَظُنُّ أَنْ تُدْرِكُوهَا، فَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ عَلَى الصَّعْبِ وَالذَّلُولِ وَلَمْ يَتَخَلَّفْ مِنْ أَشْرَافِها أَحَدٌ، إِلَّا أَنَّ أَبَا لَهَبٍ قَدْ تَخَلَّفَ, وَبَعَثَ مَكَانَهُ الْعَاصَ بْنَ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ.
أما رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقد مَضَى خارجًا من المدينة ثم بَعَثَ بَسْبَسَ بْنَ عَمْرٍو, وَعَدِيَّ بْنَ أَبِي الزَّغْبَاءِ الْجُهَنِيَّيْنِ, يَلْتَمِسَانِ الْخَبَرَ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، فَانْطَلَقَا حَتَّى وَرَدَا بَدْرًا، فَأَنَاخَا بَعِيرَيْهِمَا إِلَى تَلٍّ مِنَ الْبَطْحَاءِ, وَاسْتَقَيَا فِي شَنٍّ لَهُمَا مِنَ الْمَاءِ، فَسَمِعَا جَارِيَتَيْنِ تَقُولُ إِحْدَاهُمَا لِصَاحِبَتِهَا: إِنَّمَا تَأتِي الْعِيرُ غَدًا، فَلَخَّصَ بَيْنَهُمَا مَجْدِيُّ بْنُ عَمْرٍو, وَقَالَ: صَدَقَتْ، فَسَمِعَ ذَلِكَ بَسْبَسٌ وَعَدِيٌّ، فَجَلَسَا عَلَى بَعِيرَيْهِمَا حَتَّى أَتَيَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَاهُ الْخَبَرَ، وَأَقْبَلَ أَبُو سُفْيَانَ حِينَ وَلَّيَا وَقَدْ حَذِرَ، فَتَقَدَّمَ أَمَامَ عِيرِهِ، فَقَالَ لِمَجْدِيِّ بْنِ عَمْرٍو: هَلْ أَحْسَسْتَ عَلَى هَذَا الْمَاءِ مِنْ أَحَدٍ تُنْكِرُهُ؟ قَالَ: لَا وَاللهِ، إِلَّا أَنِّي قَدْ رَأَيْتُ رَاكِبَيْنِ أَنَاخَا إِلَى هَذَا التَّلِّ, فَاسْتَقَيَا فِي شَنٍّ لَهُمَا ثُمَّ انْطَلَقَا، فَجَاءَ أَبُو سُفْيَانَ مَنَاخَ بَعِيرَيْهِمَا, فَأَخَذَ مِنْ أَبْعَارِهِمَا وَفَتَّهُ, فَإِذَا فِيهِ النَّوَى، فَقَالَ: هَذِهِ وَاللهِ عَلائِفُ يَثْرِبَ، ثُمَّ رَجَعَ سَرِيعًا, فَضَرَبَ وَجْهَ عِيرِهِ, فَانْطَلَقَ بِهَا مُسَاحِلاً –أي أخذ طريق الساحل- حَتَّى إِذَا رَأَى أَنْ قَدْ أَحْرَزَ عِيرَهُ, وتمكن من الإفلات بها، بَعَثَ إِلَى قُرَيْشٍ أَنَّ اللهَ قَدْ نَجَّى عِيرَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَرِجَالَكُمْ فَارْجِعُوا، إذ لا حاجة للقتال وقد أفلتت العير، فلما بلغهم هذا اختلفوا بين الرجوع وعدمه، حتى قام فيهم طاغية قريش أبو جهل في كبرياء وغطرسة فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ لَا نَرْجِعُ حَتَّى نَرِدَ مَاءَ بَدْرٍ -وَكَانَتْ بَدْرٌ سُوقًا مِنْ أَسْوَاقِ الْعَرَبِ- فَنُقِيمَ بِهَا ثَلَاثا، فَنُطْعِمَ بِهَا الطَّعَامَ، وَنَنْحَرَ بِهَا الْجُزُرَ، وَنَسْقِيَ بِهَا الْخَمْرَ، وَتَعْزِفَ عَلَيْنَا الْقِيَانُ وَتَسْمَعَ بِنَا الْعَرَبُ وَبِمَسِيرِنَا، فلَا يَزَالُونَ يَهَابُونَنَا بَعْدَهَا أَبَدًا. فَقَالَ الأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ: يَا مَعْشَرَ بَنِي زُهْرَةَ، إِنَّ اللهَ قَدْ نَجَّى أَمْوَالَكُمْ , وَنَجَّى صَاحِبَكُمْ، فَارْجِعُوا، فَأَطَاعُوهُ , فَرَجَعَتْ زُهْرَةُ فَلَمْ يَشْهَدُوهَا وَلَا بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ.
ووصلت الأخبارُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن العير قد أفلتت وأن قريشًا قد خرجت وسارت إليهم، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم الجيش واستشارهم في الأمر، حيث إنهم لم يخرجوا لقتال ابتداءً، ولكن بعد أن أفلتت العير لم يبق إلا الرجوع إلى المدينة أو المضي إلى بدر مما قد يترتب عليه ملاقاة المشركين في قتال إذا اجتمع الفريقان.
فلما اسْتَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ، قَامَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ فَأَحْسَنَ، ثُمَّ قَامَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ فَأَحْسَنَ، ثُمَّ قَامَ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ امْضِ لِمَا أَمَرَكَ اللَّهُ بِهِ، فَنَحْنُ مَعَكَ، وَاللَّهِ لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}، وَلَكِنِ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا مَعَكُمَا مُقَاتِلُونَ، فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَوْ سِرْتَ بِنَا إِلَى بَرْك الغِماد -يَعْنِي مَدِينَةَ الْحَبَشَةِ- لَجَالَدْنَا مَعَكَ مَنْ دُونِهِ حَتَّى تَبْلُغَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرًا، وَدَعَا لَهُ بِخَيْرٍ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَشِيرُوا عَلَيَّ أَيُّهَا النَّاسُ" -وَإِنَّمَا يُرِيدُ الْأَنْصَارَ- وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا عَدد النَّاسِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ حِينَ بَايَعُوهُ بِالْعَقَبَةِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا بُرَآءُ مِنْ ذِمَامك حَتَّى تَصِلَ إِلَى دَارِنَا، فَإِذَا وَصَلْتَ إِلَيْنَا فَأَنْتَ فِي ذممنا نَمْنَعُكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَوَّفُ أَلَّا تَكُونَ الْأَنْصَارُ تَرَى عَلَيْهَا نُصْرَتَهُ إِلَّا مِمَّنْ دَهَمَهُ بِالْمَدِينَةِ، مِنْ عَدُوِّهِ، وَأَنْ لَيْسَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسِيرَ بِهِمْ إِلَى عَدُوٍّ مِنْ بِلَادِهِمْ، فَلَمَّا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ، قَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: وَاللَّهِ لَكَأَنَّكَ تُرِيدُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "أَجَلْ" قَالَ: فَقَالَ: فَقَدْ آمَنَّا بِكَ، وَصَدَّقْنَاكَ، وَشَهِدْنَا أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ هُوَ الْحَقُّ، وَأَعْطَيْنَاكَ عَلَى ذَلِكَ عُهُودَنَا وَمَوَاثِيقَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَامْضِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَا أَرَدْتَ. فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، إِنِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْتَهُ لَخُضْنَاهُ مَعَكَ، مَا يَتَخَلَّفُ مِنَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَمَا نَكْرَهُ أَنْ تَلْقَى بِنَا عَدُوَّنَا غَدًا، إِنَّا لصُبُر عِنْدَ الْحَرْبِ، صُدُق عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَلَعَلَّكَ أَنْ تَكُونَ خَرَجْتَ لِأَمْرٍ، وَأَحْدَثَ اللَّهُ إِلَيْكَ غَيْرَهُ، فَانْظُرِ الَّذِي أَحْدَثَ اللَّهُ إِلَيْكَ، فَامْضِ لَهُ، فَصِلْ حِبَالَ مَنْ شِئْتَ، وَاقْطَعْ حِبَالَ مَنْ شِئْتَ، وَعَادِ مَنْ شِئْتَ، وَسَالِمْ مَنْ شِئْتَ، وَخُذْ مِنْ أَمْوَالِنَا مَا شِئْتَ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُرِيَكَ مِنَّا مَا تَقَرّ بِهِ عَيْنُكَ، فسِرْ بِنَا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ، فسُرّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِ سَعْدٍ، ونَشَّطه ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: "سِيرُوا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ وَأَبْشِرُوا، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ وَعَدَنِي إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَاللَّهِ لَكَأَنِّي الْآنَ أَنْظُرُ إِلَى مَصَارِعِ الْقَوْمِ". وفي هذا أنزل الله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ . يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ . وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ . لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [الأنفال: 5 - 8]، إن اختيار الله للمؤمنين دائمًا خير لهم، فَجَمَعَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ وَالْكَافِرِينَ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ، لِمَا يُرِيدُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ إعلاء كلمة المسلمين.
أما عدد الجيوش وعدتها: فلم يتأهب المسلمون لقتال، بل غلب على ظنهم أنهم لن يلقوا حربًا، وعليه فقد كان المسلمون قليلو العدد والعدة، فَإِنَّهُمْ كَانُوا ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فِيهِمْ فَرَسَانِ، وسبعُون بَعِيرًّا، وَالْبَاقُونَ مُشاةً، لَيْسَ مَعَهُمْ مِنَ العَدَد جَمِيعُ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، بخلاف العدو فقد خرجوا فزعين على أموالهم متجهزين للدفاع عنها بالأنفس والنفيس، فَكَانَ الْعَدُوُّ يَوْمَئِذٍ مَا بَيْنَ التِّسْعِمِائَةٍ إِلَى الْأَلْفِ فِي سَوَابِغِ الْحَدِيدِ والبَيض، وَالْعِدَّةِ الْكَامِلَةِ وَالْخُيُولِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْحُلِيِّ الزَّائِدِ، خرجوا كما وصفهم الله تعالى: {بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال: 47].
يوم الفرقان
مَضَتْ قُرَيْشٌ حَتَّى نَزَلُوا بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى مِنَ الْوَادِي، وانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى نزلوا بالعدوة الدنيا ببدر واستقروا بها، وَكانت الْقُلُبُ بِبَدْرٍ فِي الْعُدْوَةِ الدُّنْيَا مِنْ بَطْنِ التَّلِّ إِلَى الْمَدِينَةِ، فأقبل الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ فقال: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْزِلٌ أَنْزَلَكَهُ اللهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَعَدَّاهُ وَلَا نُقَصِّرُ عَنْهُ؟ أَمْ هُوَ الرَّأيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "بَلْ هُوَ الرَّأيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ"، فَقَالَ الْحُبَابُ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْزِلٍ، وَلَكِنِ انْهَضْ حَتَّى تَجْعَلَ الْقُلُبَ كُلَّهَا مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِكَ، ثُمَّ غَوِّرْ كُلَّ قَلِيبٍ بِهَا, إِلَّا قَلِيبًا وَاحِدًا، ثُمَّ احْفِرْ عَلَيْهِ حَوْضًا، فَنُقَاتِلُ الْقَوْمَ, فَنَشْرَبُ وَلَا يَشْرَبُونَ، حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، فَقَالَ: "قَدْ أَشَرْتَ بِالرَّأيِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَغُوِّرَتِ الْقُلُبُ، وَبَنَى حَوْضًا عَلَى الْقَلِيبِ الَّذِي نَزَلَ عَلَيْهِ", فَمُلِئَ مَاءً، ثُمَّ قَذَفُوا فِيهِ الآنِيَةَ، فَإِذَا هُمْ بِرَوَايَا قُرَيْشٍ وَفِيهِمْ عَبْدٌ أَسْوَدُ لِبَنِي الْحَجَّاجِ، فَأَخَذَهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَجَعَلُوا يَسْأَلُونَهُ: أَيْنَ أَبُو سُفْيَانَ؟ فَيَقُولُ: وَاللهِ مَالِي بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِهِ عِلْمٌ، وَلَكِنْ هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ جَاءَتْ, فِيهِمْ أَبُو جَهْلٍ وَعُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ, فَإِذَا قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ ضَرَبُوهُ، فَيَقُولُ: دَعُونِي، دَعُونِي أُخْبِرْكُمْ, فَإِذَا تَرَكُوهُ قَالَ: وَاللهِ مَالِي بِأَبِي سُفْيَانَ مِنْ عِلْمٍ، وَلَكِنْ هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ أَقْبَلَتْ, فِيهِمْ أَبُو جَهْلٍ وَعُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، قَدْ أَقْبَلُوا فِي النَّاسِ، فَإِذَا قَالَ هَذَا أَيْضًا ضَرَبُوهُ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ يُصَلِّي وَهُوَ يَسْمَعُ ذَلِكَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّكُمْ لَتَضْرِبُونَهُ إِذَا صَدَقَكُمْ, وَتَدَعُونَهُ إِذَا كَذَبَكُمْ، هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ أَقْبَلَتْ لِتَمْنَعَ أَبَا سُفْيَانَ. كَمِ النَّاسُ؟" قَالُوا: كَثِيرٌ مَا نَدْرِي مَا عَدَدُهُمْ , قَالَ: "كَمْ يَنْحَرُونَ كُلَّ يَوْمٍ؟" قَالُوا: يَوْمًا عَشْرًا، وَيَوْمًا تِسْعًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الْقَوْمُ بَيْنَ الأَلْفِ وَالْتِسْعِمِائَةِ، ثُمَّ قَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ فِيهِمْ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ؟" فَقَالا: عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ وَذَكَرَا صَنَادِيدَهُمْ. ثُمَّ أَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: "هَذِهِ مَكَّةُ قَدْ أَلْقَتْ إِلَيْكُمْ أَفْلاذَ كَبِدِهَا".
وفي ليلة الجمعة الموافق السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ مِنْ سَنَةِ اثْنَتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ النبوية استغاث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالله تعالى وألحَّ في الدعاء أن ينصره ومن معه من المؤمنين على الكفار، فعن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أنه قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ، وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: «اللهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ»، فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ، مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه فَأَخَذَ رِدَاءَهُ، فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ، وَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ}. أخرجه مسلم، وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: وَهُوَ فِي قُبَّةٍ يَوْمَ بَدْرٍ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ، اللَّهُمَّ إِنْ تَشَأْ لاَ تُعْبَدْ بَعْدَ اليَوْمِ» فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ بِيَدِهِ فَقَالَ: حَسْبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلْحَحْتَ عَلَى رَبِّكَ، وَهُوَ يَثِبُ فِي الدِّرْعِ، فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ: {سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ}. أخرجه البخاري.
وفي هذه الليلة أخذ المؤمنين النُّعاس أمانًا واطمئنانًا لهم من الخوف من عدد عدوهم وعدته. قال عَلِيُّ بنُ أبي طالبٍ رضي الله عنه: لَقَدْ رَأَيْتُنَا لَيْلَةَ بَدْرٍ, وَمَا مِنَّا إِنْسَانٌ إِلَّا نَائِمٌ, إِلَّا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ كَانَ يُصَلِّي إِلَى شَجَرَةٍ وَيَدْعُو حَتَّى أَصْبَحَ, وَمَا كَانَ فِينَا فَارِسٌ يَوْمَ بَدْرٍ غَيْرَ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ.
وفيها أنزل الله تعالى مطرًا واحدًا، فكان على المشركين وابلاً شديدًا منعهم من التقدم، وكان على المسلمين طلاً طهرهم به، وأذهب عنهم رجز الشيطان، وثبت به الأقدام، قال تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنزلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقْدَامَ} [الأنفال: 11]. لما نزل المطر سَالَ الْوَادِي، فَشَرِبَ الْمُؤْمِنُونَ، وَمَلَئُوا الْأَسْقِيَةَ، وَسَقَوُا الرِّكَابَ، وَاغْتَسَلُوا، فَجَعَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ طَهُورًا، وَثَبَّتَ الْأَقْدَامَ، حيث كَانَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقَوْمِ رَمْلَةٌ، فَبَعَثَ اللَّهُ الْمَطَرَ عَلَيْهَا، فَضَرَبَهَا حَتَّى اشْتَدَّتْ. {لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} أَيْ: مِنْ حَدَثٍ أَصْغَرَ أَوْ أَكْبَرَ، وَهُوَ تَطْهِيرُ الظَّاهِرِ. {وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ} أَيْ: مِنْ وَسْوَسَةٍ أَوْ خَاطِرٍ سَيِّئٍ، وَهُوَ تَطْهِيرُ الْبَاطِنِ. {وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ} أَيْ: بِالصَّبْرِ وَالْإِقْدَامِ عَلَى مُجَالَدَةِ الْأَعْدَاءِ، وَهُوَ شَجَاعَةُ الْبَاطِنِ. {وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقْدَامَ} وَهُوَ شَجَاعَةُ الظَّاهِرِ.
ثم عبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشه، فكان لواء القيادة العامة أبيض مع مصعب بن عمير العبدري رضي الله عنه، وكان الجيش كتيبتين: كتيبة للمهاجرين، رايتها مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكتيبة للأنصار، رايتها مع سعد بن معاذ رضي الله عنه، وكان على قيادة الميمنة الزبير بن العوام رضي الله عنه، وعلى الميسرة المقداد بن عمرو رضي الله عنه، وكان على الساقة قيس بن أبي صعصعة، وظلت القيادة العامة في يده صلى الله عليه وسلم كقائد أعلى للجيش، ومشى صلى الله عليه وسلم في موضع المعركة، وجعل يشير بيده ويقول: هذا مصرع فلان غدًا إن شاء الله، وهذا مصرع فلان غدًا إن شاء الله.
قَالَ أَنَسُ بنُ مالكٍ رضي الله عنه: وَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيُرِينَا مَصَارِعَهُمْ, فَقَالَ: "هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ غَدًا إِنْ شَاءَ اللهُ، -وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى الْأَرْضِ- وَهَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ غَدًا -وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى الْأَرْضِ- وَهَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ غَدًا -وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى الْأَرْضِ-".
وفي صبح تلك الليلة كان يَوْمُ الْفُرْقَانِ الَّذِي التقى فيه الجمعان فَأَعَزَّ اللَّهُ فِيهِ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ، ودمغَ فِيهِ الشِّرْكَ وخرَّب محِله، وفرق الله فيه بين الحق والباطل، وخذل الكفر وأهله، وقُتل فيها صناديد قريش ومجرميها، قال تعالى: {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ . لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [الأنفال: 6 - 8]، وقال عز وجل: {وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81].
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لَمَّا أن طَلَعَ الْفَجْرُ نَادَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الصَلَاةَ عِبَادَ اللهِ", فَجَاءَ النَّاسُ مِنْ تَحْتِ الشَّجَرِ وَالْحَجَفِ, فَصَلَّى بِنَا, وَحَرَّضَ عَلَى الْقِتَالِ, ثُمَّ قَالَ:" إِنَّ جَمْعَ قُرَيْشٍ تَحْتَ هَذِهِ الضِّلَعِ الْحَمْرَاءِ مِنْ الْجَبَلِ"، ثُمَّ عَدَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم صُفُوفَ أَصْحَابِهِ، وَفِي يَدِهِ قِدْحٌ يَعْدِلُ بِهِ الْقَوْمَ، فَمَرَّ بِسَوَادِ بْنِ غَزِيَّةَ رضي الله عنه -حَلِيفِ بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ- وَهُوَ مُسْتَنْتِلٌ مِنَ الصَّفِّ، فَطَعَنَ رَسُولُ اللهِ فِي بَطْنِهِ بِالْقِدْحِ وَقَالَ: "اسْتَوِ يَا سَوَادُ"، فَقال: يَا رَسُولَ اللهِ أَوْجَعْتَنِي، وَقَدْ بَعَثَكَ اللهُ بِالْعَدْلِ, فَأَقِدْنِي، فَقال لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اسْتَقِدْ"، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّكَ طَعَنْتَنِي وَلَيْسَ عَلَيَّ قَمِيصٌ، "فَكَشَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَطْنِهِ، وَقال: "اسْتَقِدْ"، فَاعْتَنَقَهُ وَقَبَّلَ بَطْنَهُ، وقَالَ: إِنَّمَا أَرَدْتُ هَذَا يَا رَسُولَ اللهِ، فَقال: "مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا يَا سَوَادُ؟" فَقال: يَا رَسُولَ اللهِ، حَضَرَ مَا تَرَى، فَلَمْ آمَنِ الْقَتْلَ، فَأَرَدْتُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ الْعَهْدِ بِكَ أَنْ يَمَسَّ جِلْدِي جِلْدَكَ، فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم - بِخَيْرٍ.
وأما المشركون فقد استفتح أبو جهل في ذلك اليوم فقال: اللهم أقطعنا للرحم، وآتانا بما لا نعرفه، فأحنه الغداة، اللهم أينا كان أحب إليك وأرضى عندك فانصره اليوم، وفي ذلك أنزل الله: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 19].
فَلَمَّا رَآهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَنْحَطُّونَ مِنَ الْكَثِيبِ قَالَ: "اللَّهُمَّ هَذِهِ قُرَيْشٌ, قَدْ أَقْبَلَتْ بِخُيَلائِهَا وَفَخْرِهَا, تُحَادُّكَ وَتُكَذِّبُ رَسُولَكَ، اللَّهُمَّ فَأَحْنِهِمُ الْغَدَاةَ"، وَقَالَ االنبي صلى الله عليه وسلم: "لَا يَتَقَدَّمَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَى شَيْءٍ حَتَّى أَكُونَ أَنَا دُونَهُ".
قال علي رضي الله عنه: فَلَمَّا دَنَا الْقَوْمُ مِنَّا وَصَافَفْنَاهُمْ, إِذَا رَجُلٌ مِنْهُمْ عَلَى جَمَلٍ لَهُ أَحْمَرَ يَسِيرُ فِي الْقَوْمِ, فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا عَلِيُّ نَادِ لِي حَمْزَةَ"، وَكَانَ أَقْرَبَهُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ مَنْ صَاحِبُ الْجَمَلِ الْأَحْمَرِ وَمَاذَا يَقُولُ لَهُمْ، ثُمَّ قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنْ يَكُنْ فِي الْقَوْمِ أَحَدٌ يَأمُرُ بِخَيْرٍ, فَعَسَى أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ الْجَمَلِ الْأَحْمَرِ", فَجَاءَ حَمْزَةُ, فَقَالَ: هُوَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ, وَهُوَ يَنْهَى عَنْ الْقِتَالِ وَيَقُولُ لَهُمْ: يَا قَوْمُ إِنِّي أَرَى قَوْمًا مُسْتَمِيتِينَ, لَا تَصِلُونَ إِلَيْهِمْ وَفِيكُمْ خَيْرٌ يَا قَوْمِ, اعْصِبُوهَا الْيَوْمَ بِرَأسِي, وَقُولُوا: جَبُنَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ, وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي لَسْتُ بِأَجْبَنِكُمْ, فَسَمِعَ ذَلِكَ أَبُو جَهْلٍ, فَقَالَ: أَنْتَ تَقُولُ هَذَا؟ وَاللهِ لَوْ غَيْرُكَ يَقُولُ هَذَا لَأَعْضَضْتُهُ قَدْ مَلَأَتْ رِئَتُكَ جَوْفَكَ رُعْبًا, فَقَالَ عُتْبَةُ: إِيَّايَ تُعَيِّرُ يَا مُصَفِّرَ اسْتِهِ؟ سَتَعْلَمُ الْيَوْمَ أَيُّنَا الْجَبَانُ, قَالَ: فَبَرَزَ عُتْبَةُ, وَأَخُوهُ شَيْبَةُ, وَابْنُهُ الْوَلِيدُ حَمِيَّةً, فَقَالُوا: مَنْ يُبَارِزُ؟ فَخَرَجَ لَهُمْ فِتْيَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ عُتْبَةُ: مَنْ أَنْتُمْ؟ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: لَا حَاجَةَ لَنَا فِيكُمْ, إِنَّمَا أَرَدْنَا بَنِي عَمِّنَا مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ, فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "قُمْ يَا عَلِيُّ, وَقُمْ يَا حَمْزَةُ, وَقُمْ يَا عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ"، فَأَقْبَلَ حَمْزَةُ إِلَى عُتْبَةَ, وَأَقْبَلْتُ إِلَى شَيْبَةَ، فَقَتَلَ اللهُ تَعَالَى عُتْبَةَ وَشَيْبَةَ ابْنَيْ رَبِيعَةَ، وَاخْتُلِفَ بَيْنَ عُبَيْدَةَ وَالْوَلِيدِ ضَرْبَتَانِ, فَأَثْخَنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ, ثُمَّ مِلْنَا عَلَى الْوَلِيدِ فَقَتَلْنَاهُ, وَاحْتَمَلْنَا عُبَيْدَةَ.
وَعَنْ أَبِي أُسَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه أنه قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ بَدْرٍ حِينَ صَفَفَنَا لِقُرَيْشٍ وَصَفُّوا لَنَا: "إِذَا أَكْثَبُوكُمْ -يَعْنِي إِذَا غَشُوكُمْ- فَارْمُوهُمْ بِالنَّبْلِ وَاسْتَبْقُوا نَبْلَكُمْ".
قال تعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 48].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: جَاءَ إِبْلِيسُ يَوْمَ بَدْرٍ فِي جُنْدٍ مِنَ الشَّيَاطِينِ مَعَهُ رَايَتُهُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ، وَالشَّيْطَانُ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ، فَقَالَ الشَّيْطَانُ لِلْمُشْرِكِينَ: {لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} فَلَمَّا اصْطَفَّ النَّاسُ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبضة من التُّرَابِ فَرَمَى بِهَا فِي وُجُوهِ الْمُشْرِكِينَ، فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَأَقْبَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى إِبْلِيسَ، فَلَمَّا رَآهُ -وَكَانَتْ يَدُهُ فِي يَدِ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ- انْتَزَعَ يَدَهُ ثُمَّ وَلَّى مُدْبِرًا هُوَ وَشِيعَتُهُ، فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا سُرَاقَةُ، أَتَزْعُمُ أَنَّكَ لَنَا جَارٌ؟ فَقَالَ: {إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} وَذَلِكَ حِينَ رَأَى الْمَلَائِكَةَ.
لَمَّا دَنَا الْمُشْرِكُونَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ". فَقَالَ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الْأَنْصَارِيُّ رضي الله عنه: يَا رَسُولَ اللهِ، جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ؟ قَالَ: "نَعَمْ". قَالَ: بَخٍ بَخٍ, فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ؟" قَالَ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ, إِلَّا رَجَاءَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا، قَالَ: "فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا", فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ, فَجَعَلَ يَأكُلُ مِنْهُنَّ، ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ, إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ، فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التَّمْرِ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ رضي الله عنه.
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا وَاقِفٌ فِي الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ, فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي, فَإِذَا أَنَا بِغُلَامَيْنِ مِنْ الْأَنْصَارِ حَدِيثَةٍ أَسْنَانُهُمَا، فَكَأَنِّي لَمْ آمَنْ بِمَكَانِهِمَا، فَتَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ بَيْنَ أَضْلَعَ مِنْهُمَا, فَغَمَزَنِي أَحَدُهُمَا سِرًّا مِنْ صَاحِبِهِ, فَقَالَ: يَا عَمِّ هَلْ تَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ, مَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ يَا ابْنَ أَخِي؟ قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّهُ يَسُبُّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ, لَئِنْ رَأَيْتُهُ لَا يُفَارِقُ سَوَادِي سَوَادَهُ حَتَّى يَمُوتَ الْأَعْجَلُ مِنَّا. وفي رواية: عَاهَدْتُ اللهَ إِنْ رَأَيْتُهُ أَنْ أَقْتُلَهُ, أَوْ أَمُوتَ دُونَهُ، فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ, فَغَمَزَنِي الْآخَرُ, فَقَالَ لِي مِثْلَهَا. قَالَ: فَمَا سَرَّنِي أَنِّي بَيْنَ رَجُلَيْنِ مَكَانَهُمَا، فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ نَظَرْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ يَجُولُ فِي النَّاسِ, فَقُلْتُ: أَلَا إِنَّ هَذَا صَاحِبُكُمَا الَّذِي سَأَلْتُمَانِي, فَابْتَدَرَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا مِثْلَ الصَّقْرَيْنِ، فَضَرَبَاهُ حَتَّى قَتَلَاهُ, ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَاهُ, فَقَالَ: "أَيُّكُمَا قَتَلَهُ؟" فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَنَا قَتَلْتُهُ, فَقَالَ: "هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟" قَالَا: لَا, فَنَظَرَ فِي السَّيْفَيْنِ, فَقَالَ: "كِلَاكُمَا قَتَلَهُ"، وَقَضَى بِسَلَبِهِ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، وَكَانَا مُعَاذَ بْنَ عَفْرَاءَ, وَمُعَاذَ بْنَ عَمْرِو بْنِ الجَمُوحِ.
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ بَدْرٍ: "مَنْ يَنْظُرُ مَا فَعَلَ أَبُو جَهْلٍ؟" فَانْطَلَقَ عَبْدُاللهِ بْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه فَإِذَا هُوَ صَرِيعٌ, قَدْ ضُرِبَتْ رِجْلُهُ، وَبِهِ رَمَقٌ، فَأَخَذَ ابْنُ مَسْعُودٍ بِلِحْيَتِهِ، فَقَالَ: يَا عَدُوَّ اللهِ أَنْتَ أَبُو جَهْلٍ؟ أَنْتَ الشَّيْخُ الضَّالُّ؟ قَالَ: وَلَا أَهَابُهُ عِنْدَ ذَلِكَ. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: هَلْ فَوْقَ رَجُلٍ قَتَلَهُ قَوْمُهُ؟ قَالَ: فَضَرَبْتُهُ بِسَيْفٍ غَيْرِ طَائِلٍ فَلَمْ يُغْنِ شَيْئًا, حَتَّى سَقَطَ سَيْفُهُ مِنْ يَدِهِ, فَضَرَبْتُهُ بِهِ حَتَّى بَرَدَ.
وَعن علي رضي الله عنه أن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَأسِرُوهُ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ, فَإِنَّهُمْ خَرَجُوا كُرْهًا"، فَلَمَّا حَضَرَ الْبَأسُ يَوْمَ بَدْرٍ, اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ بَأسًا, وَهُوَ أَقْرَبُنَا إِلَى الْعَدُوِّ"، وَبَيْنَمَا رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ, يَشْتَدُّ فِي أَثَرِ رَجُلٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ أَمَامَهُ, إِذْ سَمِعَ ضَرْبَةً بِالسَّوْطِ فَوْقَهُ, وَصَوْتَ الْفَارِسِ يَقُولُ: أَقْدِمْ حَيْزُومُ , فَنَظَرَ إِلَى الْمُشْرِكِ أَمَامَهُ فَخَرَّ مُسْتَلْقِيًا, فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ قَدْ خُطِمَ أَنْفُهُ, وَشُقَّ وَجْهُهُ كَضَرْبَةِ السَّوْطِ, فَاخْضَرَّ ذَلِكَ أَجْمَعُ, فَجَاءَ الْأَنْصَارِيُّ فَحَدَّثَ بِذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "صَدَقْتَ, ذَلِكَ مِنْ مَدَدِ السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ", فَقَتَلْنَا مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ سَبْعِينَ, وَأَسَرْنَا سَبْعِينَ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ قَصِيرٌ بِالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَسِيرًا, فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللهِ, إِنَّ هَذَا وَاللهِ مَا أَسَرَنِي, لَقَدْ أَسَرَنِي رَجُلٌ أَجْلَحُ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ وَجْهًا, عَلَى فَرَسٍ أَبْلَقَ مَا أُرَاهُ فِي الْقَوْمِ, فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: أَنَا أَسَرْتُهُ يَا رَسُولَ اللهِ, فَقَالَ: "اسْكُتْ, فَقَدْ أَيَّدَكَ اللهُ تَعَالَى بِمَلَكٍ كَرِيمٍ".
قال تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 151]، وقَالَ تَعَالَى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: 12]، وقال عز وجل: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنزلِينَ . بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ . وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 124 - 125].
اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذَا الْوَعْدِ: هَلْ كَانَ يَوْمَ بَدْر أَوْ يَوْمَ أُحُد؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ أَنَّ قِتَالَ الْمَلَائِكَةِ إِنَّمَا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ -عَلَى هَذَا الْقَوْلِ- وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ بَدْرٍ: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الْأَنْفَالِ:9]، فَالْجَوَابُ: أَنَّ التَّنْصِيصَ عَلَى الْأَلْفِ هَاهُنَا لَا يُنَافِي الثَّلَاثَةَ الْآلَافَ فَمَا فَوْقَهَا، لِقَوْلِهِ: {مُردِفِينَ} بِمَعْنَى يَرْدَفُهم غيرُهم ويَتْبَعهم أُلُوفٌ أُخَرُ مِثْلُهُمْ. فقد أَمَدَّ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ بِأَلْفٍ، ثُمَّ صَارُوا ثَلَاثَةَ آلَافٍ، ثُمَّ صَارُوا خَمْسَةَ آلَافٍ.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ بَدْرٍ: "هَذَا جِبْرِيلُ آخِذٌ بِرَأسِ فَرَسِهِ, عَلَيْهِ أَدَاةُ الْحَرْبِ". أخرجه البخاري، وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِيَ وَلِأَبِي بَكْرٍ يَوْمَ بَدْرٍ: "مَعَ أَحَدِكُمَا جِبْرِيلُ, وَمَعَ الْآخَرِ مِيكَائِيلُ, وَإِسْرَافِيلُ مَلَكٌ عَظِيمٌ, يَشْهَدُ الْقِتَالَ". أخرجه أحمد، وَعَنْ أَبِي دَاوُدَ الْمَازِنِيِّ رضي الله عنه -وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا- أنه قَالَ: إِنِّي لَأَتْبَعُ رَجُلًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ لِأَضْرِبَهُ, إِذْ وَقَعَ رَأسُهُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ سَيْفِي, فَعَرَفْتُ أَنَّهُ قَدْ قَتَلَهُ غَيْرِي. أخرجه أحمد، وَعَنْ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ أنه قَالَ: أُصِيبَتْ عَيْنُ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ رضي الله عنه يَوْمَ بَدْرٍ, فَسَالَتْ حَدَقَتُهُ عَلَى وَجْنَتِهِ فَأَرَادُوا أَنْ يَقْطَعُوهَا، فَسَأَلُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "لَا، فَدَعَا بِهِ فَغَمَزَ حَدَقَتَهُ بِرَاحَتِهِ"، فَكَانَ لَا يَدْرِي أَيَّ عَيْنَيْهِ أُصِيبَتْ. أخرجه أبو يعلى وصححه الألباني.
انتهت المعركة بهزيمة ساحقة بالنسبة إلى المشركين، وبفتح مبين بالنسبة للمسلمين، وقد استشهد من المسلمين في هذه المعركة أربعة عشر رجلا، ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار، أما المشركون فقد لحقتهم خسائر فادحة، قتل منهم سبعون وأسر سبعون، وعامتهم القادة والزعماء والصناديد، فَأَعَزَّ اللَّهُ رَسُولَهُ وَأَظْهَرَ وَحْيَهُ وَتَنْزِيلَهُ وبَيَّضَ وَجْه النَّبِيِّ وَقَبِيلَهُ، وأخْزى الشَّيْطَانَ وَجِيلَهُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى مُمْتَنا عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وحِزبه الْمُتَّقِينَ: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} أَيْ: قَلِيلٌ عَدَدُكُمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ النَّصْرَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، لَا بِكَثْرَةِ العَدَد والعُدَد.
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أنه قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ, وَظَهَرَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِبِضْعَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلًا مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ، فَأُخِذَ بِأَرْجُلِهِمْ, فَسُحِبُوا فَأُلْقُوا فِي طَوِيٍّ مِنْ أَطْوَاءِ بَدْرٍ, خَبِيثٍ مُخْبِثٍ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ , فَإِنَّهُ انْتَفَخَ فِي دِرْعِهِ فَمَلَأَهَا, فَذَهَبُوا يُحَرِّكُوهُ فَتَزَايَلَ فَأَقَرُّوهُ, وَأَلْقَوْا عَلَيْهِ مَا غَيَّبَهُ مِنْ التُّرَابِ وَالْحِجَارَةِ. قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا ظَهَرَ عَلَى قَوْمٍ أَقَامَ بِعَرْصَتِهِمْ ثَلَاثَ لَيَالٍ، قَالَ: فَلَمَّا ظَهَرَ عَلَى أَهلِ بَدْرٍ, أَقَامَ ثَلَاثَ لَيَالٍ، حَتَّى إِذَا كَانَ اليومُ الثَّالِثُ, أَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَشُدَّتْ بِرَحْلِهَا، ثُمَّ مَشَى, وَاتَّبَعَهُ أَصْحَابُهُ, وَقَالُوا: فَمَا نَرَاهُ يَنْطَلِقُ إِلَّا لِبَعْضِ حَاجَتِهِ، حَتَّى قَامَ عَلَى شَفَةِ الطَّوِيِّ، فَجَعَلَ يُنَادِيهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ. فَقَالَ: "يَا أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، يَا أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، يَا عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، يَا شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، أَسَرَّكُمْ أَنَّكُمْ أَطَعْتُمْ اللهَ وَرَسُولَهُ؟ هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فَإِنَّا قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا". فَقَالَ عُمَرُ: يَا نَبِيَّ اللهِ تُكَلِّمُ أَجْسَادًا لَا أَرْوَاحَ فِيهَا؟ كَيْفَ يَسْمَعُوا؟ وَأَنَّى يُجِيبُوا وَقَدْ جَيَّفُوا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يُجِيبُوا".
وبعد إنتهاء المعركة مر مصعب بن عمير بأخيه أبي عزيز بن عمير، وأحد الأنصار يشد يده، فقال: مصعب للأنصاري: شد يديك به، فإن أمه ذات متاع، لعلها تفديه منك، فقال أبو عزيز لأخيه مصعب: أهذه وصاتك بي؟ فقال مصعب: إنه -أي الأنصاري- أخي دونك.
قَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: أَسَرْنَا مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْعَبَّاسَ وعَقِيلًا وَنَوْفَلَ بْنَ الْحَارِثِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما: مَا تَرَوْنَ فِي هَؤُلَاءِ الْأُسَارَى؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا نَبِيَّ اللهِ, هُمْ بَنُو الْعَمِّ وَالْعَشِيرَةِ, أَرَى أَنْ تَأخُذَ مِنْهُمْ فِدْيَةً، فَيَكُونُ مَا أَخَذْنَا مِنْهُمْ قُوَّةً لَنَا عَلَى الْكُفَّارِ, وَعَسَى اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُمْ لِلْإِسْلامِ, فَيَكُونُونَ لَنَا عَضُدًا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا تَرَى يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟" فَقَالَ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ, مَا أَرَى الَّذِي رَأَى أَبُو بَكْرٍ, وَلَكِنِّي أَرَى أَنْ تُمَكِّنَّا فَنَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ, فَتُمَكِّنَ عَلِيًّا مِنْ عَقِيلٍ, فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ, وَتُمَكِّنِّي مِنْ فُلَانٍ -نَسِيبًا لِعُمَرَ- فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ، حَتَّى يَعْلَمَ اللهُ أَنَّهُ لَيْسَتْ فِي قُلُوبِنَا هَوَادَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ, فَإنَّ هَؤُلَاءِ صَنَادِيدُهُمْ وَأَئِمَّتُهُمْ وَقَادَتُهُمْ. فَهَوِيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ, وَلَمْ يَهْوَ مَا قَالَ عُمَرُ, فَأَخَذَ مِنْهُمْ الْفِدَاءَ.
قَالَ عُمَرُ: فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْغَدِ جِئْتُ, فَإِذَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ قَاعِدَيْنِ يَبْكِيَانِ, فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ, أَخْبِرْنِي مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَبْكِي أَنْتَ وَصَاحِبُكَ؟ فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بَكَيْتُ, وَإِنْ لَمْ أَجِدْ بُكَاءً تَبَاكَيْتُ لِبُكَائِكُمَا, فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَبْكِي لِلَّذِي عَرَضَ عَلَيَّ أَصْحَابُكَ مِنْ أَخْذِهِمُ الْفِدَاءَ, لَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُهُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ -شَجَرَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم-، وَأَنْزَلَ اللهُ عز وجل: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ . لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أَيْ: مِنْ الْفِدَاءِ, ثُمَّ أَحَلَّ لَهُمْ اللهُ الْغَنَائِمَ, فَقَالَ: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا}.
استقر الأمر على رأي الصديق فأخذ منهم الفداء، وكان الفداء من أربعة آلاف درهم، إلى ثلاثة آلاف درهم، إلى ألف درهم، وكان أهل مكة يكتبون، وأهل المدينة لا يكتبون، فمن لم يكن عنده فداء دفع إليه عشرة غلمان من غلمان المدينة يعلمهم، فإذا حذقوا فهو فداء.
ومنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على عدة من الأسارى، فأطلقهم بغير فداء.
وكان النصر في يوم بدر منة عظيمة من الله تعالى ذكرنا بها في كتابه: فقال تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال: 26] .
وقال تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [آل عمران: 123].
فضل أهل بدر
إن أهل بدر ليسوا كغيرهم من الناس، فعن رفاعة بن رافع -وكان من أهل بدر- أنه قال: جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم فَقَالَ: «مَا تَعُدُّونَ أَهْلَ بَدْرٍ فِيكُمْ؟» قَالَ: مِنْ أَفْضَلِ الْمُسْلِمِينَ، -أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا- قَالَ: وَكَذَلِكَ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ. أخرجه البخاري، ومن قُتل منهم نال الفردوس الأعلى، فعن أنس بن مالك رضي اللهُ عنه أَنَّ أُمَّ الرُّبَيِّعِ بِنْتَ الْبَرَاءِ وَهِيَ أُمُّ حَارِثَةَ بْنِ سُرَاقَةَ أَتَتِ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ: أَلَا تُحَدِّثُنِي عَنْ حَارِثَةَ؟ وَكَانَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ، أَصَابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ، فَإِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ صَبَرْتُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ اجْتَهَدْتُ عَلَيْهِ فِي الْبُكَاءِ، قَالَ: «يَا أُمَّ حَارِثَةَ! إِنَّهَا جِنَانٌ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنَّ ابْنَكِ أَصَابَ الْفِرْدَوْسَ الْأَعْلَى». أخرجه البخاري. قال ابن كثير: وفي هذا تنبيه عظيم على فضل أهل بدر، فإن هذا لم يكن في بحبحة القتال، ولا في حومة الوغى، بل كان من النظارة من بعيد، وإنما أصابه سهم غرب وهو يشرب من الحوض، ومع هذا أصاب بهذا الموقف الفردوس التي هي أعلى الجنان، وأوسط الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة، التي أمر الشارع أمته إذا سألوا الله الجنة أن يسألوه إياها، فإذا كان هذا حال هذا، فما ظنك بمن كان واقفاً في نحر العدو وعدوهم على ثلاثة أضعافهم عدداً وعُدداً. انتهى.
وأهل بدر مغفور لهم، فعن أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «إنَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ». قال ابن حجر رحمه الله: وهي بشارة عظيمة لم تقع لغيرهم.
وعن جابر رضي اللهُ عنه: أَنَّ عَبْدًا لِحَاطِبٍ جَاءَ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم يَشْكُو حَاطِبًا، فَقَالَ، يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيَدْخُلَنَّ حَاطِبٌ النَّارَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم: «كَذَبْتَ لَا يَدْخُلُهَا، فَإِنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ». أخرجه مسلم.
وأخبر النبي صلى اللهُ عليه وسلم بأنه لولا أهل بدر لم يصلنا الإسلام، ولقضي عليه معهم، فعن عمر بن الخطاب رضي اللهُ عنه أنه قال: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم الْقِبْلَةَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: «اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ». أخرجه البخاري.
مع تحيات
اللجنة العلمية لملتقى الخطيب المؤثر أسد المنابر