الأربعاء ، ٢ جمادى الآخر ، ١٤٤٦ هجري | 04 ديسمبر 2024 ميلادي
قلب جديد لرمضان
وصف الخطبة : -

الغرض من الخطبة: بيان أنواع القلوب، والترغيب في حسن استقبال رمضان بالطاعات، والتحذير من تضييع فرص وفضائل رمضان المبارك.


عنوان الخطبة ((قلب جديد لرمضان))

الغرض من الخطبة: بيان أنواع القلوب، والترغيب في حسن استقبال رمضان بالطاعات، والتحذير من تضييع فرص وفضائل رمضان المبارك.

عناصر الخطبة:

1- أي القلوب هي قلوبنا؟

2- كيف نستقبل رمضان؟

3- اغتنم رمضان واحذر أن تكون من هؤلاء!

المقدمة: أما بعد، قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].

شَرَّعَ اللهُ تعالى الصيامَ لهذه الأمةِ، وَفَرَضَهُ عليها كما فَرَضَهُ على الأممِ قَبْلِهَا، لتحصيلِ هذه الغايةِ النبيلةِ، وهي التقوى، والتقوى محلُها القلبُ، فَمَنْ جعل اللهُ تُقَاهُ في قلبِهِ فقد أفلحَ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَاهُنَا» وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. أخرجه مسلم، وعَنْه رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ الْغِنَى عَنْ ظَهْرٍ، إِنَّمَا الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا جَعَلَ غِنَاهُ فِي نَفْسِهِ، وَتُقَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ شَرًّا جَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ». أخرجه ابن حبان وحسنه الألباني.

بين يدي الخطبة:

أي القلوب هي قلوبنا؟

إن القلوبَ ليست نوعًا واحدًا، بل للقلوب أنواعًا مختلفة، فمنها القلب السليم، ومنها القلب المريض، ومنها القلب الميت.

والله تعالى اللطيف الخبير يقلب القلوب كيف يشاء، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: «يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ»، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ قَالَ: «نَعَمْ، إِنَّ القُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ». أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه وصححه الألباني، وعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه أنه قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا سُمِّيَ الْقَلْبُ مِنْ تَقَلُّبِهِ، إِنَّمَا مَثَلُ الْقَلْبِ كَمَثَلِ رِيشَةٍ مُعَلَّقَةٍ فِي أَصْلِ شَجَرَةٍ تُقَلِّبُهَا الرِّيحُ ظَهْرًا لِبَطْنٍ». أخرجه أحمد وابن ماجه وصححه الألباني، وعَنِ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ رضي الله عنه أنه قَالَ: مَا آمَنُ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ الَّذِي سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَقَلْبُ ابْنِ آدَمَ أَسْرَعُ تَقَلُّبًا مِنَ الْقِدْرِ إِذَا اسْتَجْمَعَتْ غَلَيَانًا». أخرجه أحمد وابن أبي عاصم في السنة والطبراني والحاكم وصححه الألباني.

وللقلوب صلاح وفساد يترتب عليه صلاح الجسد وفساده، فالقلب قائد الجسد، فمن عمر بالإيمان فؤاده، وسكنت التقوى قلبه، صلح جسده كله، ومن خرب قلبه وخلا من الإيمان والتقوى، فقد فسد جسده كله، فعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه أنه سَمِعْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ، صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ، فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ». متفق عليه.

والقلوب تفتن وتبتلى وتختبر بالفتن حتى تمحص فتصير مستقيمة أو سقيمة، فعَنْ حُذَيْفَةَ بن اليمان رضي الله عنه أنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ، مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ». أخرجه مسلم.

والقلوب ثلاثة: قلب سليم، وقلب مريض، وقلب ميت.

وأفضل القلوب: القلب السليم، أَيْ: السَالِم مِنَ الدَّنَسِ وَالشَّرْكِ. وقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: الْقَلْبُ السَّلِيمُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ حَقٌّ، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَيِي يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَغَيْرُهُمَا: سليم مِنَ الشِّرْكِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: الْقَلْبُ السَّلِيمُ: هُوَ الْقَلْبُ الصَّحِيحُ، وَهُوَ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ؛ لِأَنَّ قَلْبَ الْكَافِرِ وَالْمُنَافِقِ مَرِيضٌ، قَالَ اللَّهُ: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [الْبَقَرَةِ:10]. وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ النَّيْسَابُورِيُّ: هُوَ الْقَلْبُ الْخَالِي مِنَ الْبِدْعَةِ، الْمُطْمَئِنُّ إِلَى السُّنَةِ، وقال ابن القيم: القلب السليم: هو الذى سلم من أن يكون لغير الله فيه شرك بوجه ما، بل قد خلصت عبوديته لله تعالى: إرادة ومحبة، وتوكلا، وإنابة، وإخباتا، وخشية، ورجاء، وخلص عمله لله، فإن أحب أَحَبَّ فى الله، وإن أبغض أبغض فى الله، وإن أعطى أعطى لله، وإن منع منع لله ولا يكفيه هذا حتى يسلم من الانقياد والتحكيم لكل من عدا رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، فيعقد قلبه معه عقدا محكما على الائتمام والاقتداء به وحده، دون كل أحد فى الأقوال والأعمال. انتهى.

وقد سأل إبراهيم عليه السلام ربه قلبًا سليمًا، قال تعالى عن إبراهيم: {وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ . يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ . إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 87 - 89]، وقال تبارك وتعالى: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ . إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات: 83، 84]، وكان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يسأل ربه قلبًا سليمًا، ويعلم أصحابه هذه الدعاء، فعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي صَلَاتِهِ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ، وَعَزِيمَةَ الرُّشْدِ، وَشُكْرَ نِعْمَتِكَ، وَحُسْنَ عِبَادَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ قَلْبًا سَلِيمًا، وَأَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا تَعْلَمُ». أخرجه أحمد والنسائي وابن حبان وصححه لغيره الألباني، وعنه رضي الله عنه أَنَّه قَالَ: احْفَظُوا مِنِّي مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا اكْتَنَزَ النَّاسُ الدَّنَانِيرَ وَالدَّرَاهِمَ، فَاكْتَنِزُوا هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ، وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ، وَأَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ، وَحُسْنَ عِبَادَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا تَعْلَمُ، إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ». أخرجه أحمد والترمذي وابن حبان وصححه لغيره الألباني.

أما القلب المريض: فهو قلب له حياة وبه علة، فله مادتان: تمده هذه مرة، وهذه مرة أخرى، وهو لما غلب عليه منهما، ففيه من محبة الله تعالى والإيمان به ما هو مادة حياته، وفيه من محبة الشهوات والحرص على تحصيلها ما هو مادة هلاكه.

أما القلب الميت: فهو المتعبد لغير الله حبًا وخوفًا ورجاء ورضًا وسخطًا: إن أحب أحب لهواه، وإن أبغض أبغض لهواه، وإن أعطى أعطى لهواه، وإن منع منع لهواه؛ فالهوى إمامه، والشهوة قائده، والجهل سائقه، والغفلة مَرْكَبه. نعوذ بالله من الخذلان.

قال عز وجل: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122]، وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23]، وَقَالَ سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ . خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 6، 7]، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف: 57]، وَقَالَ تَعَالَى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14].

{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}.

فأي القلوب قلوبنا؟ وبأي قلب نستقبل رمضان؟

كيف نستقبل رمضان؟

بعد أيام يظلنا شهر عظيم، ويهل علينا موسم كريم، تضاعف فيه الحسنات وتعظم فيه السيئات، إنه شهر رمضان، إنه موسم فاضل للطيبات، والطاعات، والخيرات، والبركات، والرحمات، والنفحات، ورفع للدرجات، وحط للسيئات، شهر إجابة الدعوات، وإقالة العثرات، ومضاعفة الحسنات، شهر عتق الرقاب من النيران، شهرٌ لا يُعدل به سواه من الأوقات.

إنه أفضل شهور العام، ففيه أنزل الله القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، واختصه الله تعالى بأن جعل صيامه فريضة وركنًا من أركان الإسلام، وشرع للمسلمين قيام ليله، إنه شهر الصيام والقيام، شهر الصدقات والبر والإحسان، شهرٌ تفضل الله به على هذه الأمة، فإن من صام هذا الشهر إيمانًا بالله واحتسابًا للثواب من الله غفر الله له ما تقدم من ذنبه، ومن قامه إيمانًا واحتسابًا غفر الله له ما تقدم من ذنبه، شهر تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب النيران.

ومع قدوم هذا الشهر المبارك يختلف الناس في استقباله؛ فلكل قوم حال مع استقبال هذا شهر رمضان، فللملائكة استقبال، وللجنة استقبال، وللنار استقبال، وللصالحين استقبال، ولعموم الخلق استقبال آخر.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ، وَمَرَدَةُ الجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلكَ كُلُّ لَيْلَةٍ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه وابن حبان وصححه الألباني.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَاكُمْ رَمَضَانُ شَهْرٌ مُبَارَكٌ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ لِلَّهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ». رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وصححه الألباني.

قال ابن رجب الحنبلي: قال معلى بن الفضل: كانوا يدعون الله تعالى ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، يدعونه ستة أشهر أن يتقبل منهم؛

وقال يحيى بن أبي كثير: كان من دعائهم: اللهم سلمني إلى رمضان وسلم لي رمضان وتسلمه مني متقبلاً. انتهى من لطائف المعارف.

فعلى المسلم أن يستقبل رمضان بالفرح والسرور والاغتباط وشكر الله أن بلغه رمضان، ووفقه فجعله من الأحياء الذين يتنافسون في صالح العمل، فإن بلوغ رمضان نعمة عظيمة من الله.

ويشرع للمسلم استقبال هذا الشهر الكريم بالتوبة النصوح والاستعداد لصيامه وقيامه بنية صالحة وعزيمة صادقة، والتفرغ للعبادة كالصلاة، وتلاوة القرآن، والذكر والتسبيح والاعتكاف، وترك الذنوب والمعاصي، ورد الحقوق إلى أهلها، ونحو ذلك؛ فقد شرع الله لنا صيام نهار رمضان، وقيام ليله، فجعله شهر عبادة، وجعل ثوابه أعظم الثواب، وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ عَمَلِ ابنِ آدمَ يُضاعَفُ، الحسنةُ بَعَشْرِ أمثالِها إلى سبعمائة ضِعْفٍ، قال الله تعالى: إلَّا الصَّوْمَ، فإنَّه لِي وأنا أجزي به، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي: للصائمِ فرحتان: فَرْحَةٌ عِندَ فِطْرِهِ، وفَرْحَةٌ عِندَ لقاءِ رَبِّه، ولَخلوفِ فَمِ الصَّائمِ عِنْدَ اللَّهِ أطيبُ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ". أخرجه البخاري ومسلم.

أيها المسلمون: استقبلوا رمضان بحثِّ الناس على الخير، وترغيب الناس في العمل الصالح من الصيام والقيام وقراءة القرآن، والإكثار ذكر الله تعالى، والصدقات على الفقراء والمساكين، وتفقد أحوال المحتاجين.

أيها الأخيارُ في كل مكان: جميلٌ أن نتعاون على البر والتقوى، ونجتمع في المساجد في هذا الشهر المبارك على طاعة الله.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا كَانَتْ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ، وَمَرَدَةُ الْجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَنَادَى مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه وصححه الألباني.

فيَا بَاغِيَ الْخَيْرِ إليك تلك الوسائل المعينة على اغتنام رمضان فاقبَل وأَقْبِلْ:

أولًا: المبادرة إلى التوبة الصادقة المستوفية لشروطها وكثرة الاستغفار قال الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا).

ثانيًا: الدعاء: قال تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ).

ثالثًا: استحضار أن رمضان مدرسة للخير، وموسم للطاعة، وهو أيام معدودة: قال تعالى: (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ).

رابعًا: استحضار أن شهر رمضان لهذا العام، قد يكون آخر العهد بالصيام، فصم صيام مودع.

خامسًا: العزيمة والاستعداد الحقيقي للتغيير: بالإكثار من فعل الطاعات والخيرات، وبالإقلاع عن المعاصي والمنكرات: فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَان وَكَانَ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ كُلَّ لَيْلَةٍ فِي رَمَضَانَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ كَانَ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرّيح الْمُرْسلَة. متفق عليه.

فعلى المسلم أن يقبل على الصلاة، والصدقة، والقيام، وقراءة القرآن، وحسن الخلق، وجميل المعاملة، وإطعام الطعام، وإفشاء السلام، وتعلم العلم الشرعي، وحضور مجالسه، وذكر الله تعالى، والاعتمار.. إلخ

اغتنم رمضان واحذر أن تكون من هؤلاء!

إن الناس ينقسمون في رمضان إلى أصناف شتى، فمنهم من يكون همه طاعة الله تعالى من الصيام والقيام واحتساب الأجر والثواب، والطمع فيما عند الله، والتوبة مما سلف، والرجوع عما كان من المعصية، وتجديد العهد مع الله، ومنهم من يجعل هذا الشهر شهر للنوم والكسل واللهو والبطالة، فيقضي النهار وهو نائم، ويقضي الليل وهو لاعب، ومن الناس من يكون همه التفنن بالأكل والشرب وصنع المأكولات بأنواعها، وهذا الصنف الآخر غير مطلوب في هذا الشهر، فاحذر أيها المسلم أن تكون من هؤلاء الذين يستقبلون رمضان استقبالاً غير مرغوب ولا مطلوب، ويفضي إلى تضييع فرص العفو والمغفرة والعتق من النار في رمضان.

احذر من لصوص رمضان، ومضيعات الصيام، احذر قطاع الطريق إلى الله تعالى.

عباد الله اغتنموا رمضان بالطاعة واحذروا أن تكونوا من هؤلاء:

من لا يستجيب لأمر الله ويتبع هواه: قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال: 24]، وقال تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى . فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه: 15، 16]، قال ابن القيم رحمه الله: حذار حذار من أمرين لهما عواقب سوء: أحدهما: رد الحق لمخالفته هواك، فإنك تعاقب بتقليب القلب، ورد ما يرد عليك من الحق رأسا ولا تقبله إلا إذا برز في قالب هواك قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، فعاقبهم على رد الحق أول مرة بأن قلب أفئدتهم وأبصارهم بعد ذلك. والثاني: التهاون بالأمر إذا حضر وقته فإنك إن تهاونت به ثبطك الله وأقعدك عن مراضيه وأوامره عقوبة لك قال تعالى: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أبدا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ}. فمن سلم من هاتين الآفتين والبليتين العظيمتين فليهنه السلامة. انتهى من بدائع الفوائد.

المفطرون في نهار رمضان: فإن إثم المفطر فيه عظيم: فعن كعب بن عُجرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "احضُروا المنبر". فحضرنا، فلما ارتقى درجة قال: "آمين"، فلما ارتقى الدرجة الثانية قال: "آمين"، فلما ارتقى الدرجة الثالثة قال: "آمين"، فلما نزل قلنا: يا رسول الله! لقد سمعنا منك اليوم شيئًا ما كنا نسمعه. قال: "إنَّ جبريل عرض لي فقال: بَعُدَ من أدرك رمضان، فلم يُغفر له. قلت: آمين، فلما رَقِيتُ الثانية قال: بَعُدَ من ذُكرتَ عنده، فلم يصلِّ عليك. فقلت: آمين، فلما رقيت الثالثة قال: بَعُدَ من أدرك أبويه الكبرُ عنده أو أحدَهُما، فلم يدخلاه الجنة. قلت: آمين". رواه الحاكم وصححه لغيره الألباني، وعن مالك بن الحسن بن مالك بن الحويرث عن أبيه عن جده أنه قال: صعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المنبرَ فلما رقي عتبة قال: "آمين"، ثم رقي أخرى فقال: "آمين"، ثم رقي عتبة ثالثة فقال: "آمين". ثم قال: "أتاني جبريل فقال: يا محمد! من أدركَ رمضانَ فلم يغفر له؛ فأبعده الله. فقلت: آمين. قال: ومن أدرك والديه أو أحدَهما فدخل النار؛ فابعده الله. فقلت: آمين. قال: ومن: ذُكرتَ عنده فلم يصل عليك؛ فأبعده الله. فقلت: آمين". رواه ابن حبان في صحيحه، وصححه لغيره الألباني، وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ إِذْ أَتَانِي رَجُلَانِ، فَأَخَذَا بِضَبْعَيَّ، فَأَتَيَا بِي جَبَلًا وَعْرًا، فَقَالَا: اصْعَدْ، فَقُلْتُ: إِنِّي لَا أُطِيقُهُ، فَقَالَا: إِنَّا سَنُسَهِّلُهُ لَكَ، فَصَعِدْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي سَوَاءِ الْجَبَلِ إِذَا بِأَصْوَاتٍ شَدِيدَةٍ، قُلْتُ: مَا هَذِهِ الْأَصْوَاتُ؟ قَالُوا: هَذَا عُوَاءُ أَهْلِ النَّارِ، ثُمَّ انْطُلِقَ بِي، فَإِذَا أَنَا بِقَوْمٍ مُعَلَّقِينَ بِعَرَاقِيبِهِمْ، مُشَقَّقَةٍ أَشْدَاقُهُمْ، تَسِيلُ أَشْدَاقُهُمْ دَمًا قَالَ: قُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُفْطِرُونَ قَبْلَ تَحِلَّةِ صَوْمِهِمْ. الحديث رواه ابن خزيمة وابن حبان وصححه الألباني. قوله: [بضَبْعَيَّ] الضَّبْعُ: العَضُدُ. [وعرًا] صعبًا. [أشداقهم] الشَّدْق: جانب الفم مما تحت الخد. [قَبْلَ تَحِلّةِ صَوْمِهِمْ]: أي يفطرون قبل وقت الإفطار. فإذا كان هذا وعيد من يفطرون قبل غروب الشمس ولو بدقائق معدودات، فكيف بمن يفطر اليوم كله أو الشهر كله؟! وعن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا المُجَاهِرِينَ». متفق عليه.

قال الحافظ الذهبي رحمه الله: وعند المؤمنين مقرر: أنَّ من ترك صوم رمضان بلا عذر أنه شر من الزاني ومدمن الخمر، بل يَشُكّون في إسلامه، ويظنون به الزندقة والانحلال.

المستثقلون لرمضان وللصيام وللقيام: إن من الشر الذي يرتكبه أهل الغفلة هو أنهم يستثقلون شهر رمضان، ويستعجلون أيامه، وَيَعُدُّون ساعاته، لأن رمضان يحجب عنهم الشهوات، ويمنعهم اللذات، فيتأففون من قدومه، ويستثقلون طاعاته.

الخائضون في أعراض الناس، بالغيبة والنميمة والقيل والقال: فيا خائضًا في أعراض الناس أقصر! فقد قال تعالى: {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} [الحجرات: 12]، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟» قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ». قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: «إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ، فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ». أخرجه مسلم. قال القرطبي رحمه الله: لا خلاف أن الغيبة من الكبائر، وأن من اغتاب أحدًا عليه أن يتوب إلى الله عز وجل. انتهى، وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمُشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ». أخرجه أحمد وأبو داود وصححه الألباني، وعَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلْ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعُ اللهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يَتَّبِعْ اللهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ». أخرجه أحمد وأبو داود وصححه الألباني، وعَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: «إِنَّ مِنْ أَرْبَى الرِّبَا الِاسْتِطَالَةَ فِي عِرْضِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ». أخرجه أحمد وأبو داود وصححه الألباني، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابه». رَوَاهُ البُخَارِيّ، وعنه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رُبَّ صائمٍ ليس له من صيامه إلا الجوع، ورُبَّ قائِمٍ ليس له من قيامه إلا السّهَرُ". رواه ابن ماجه قال الألباني: حسن صحيح، وعنه أيضاً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قال اللهُ عز وجل: كلُّ عملِ ابنِ آدمَ له إلا الصيامَ، فإنَّه لي، وأنا أجزي به، والصيامُ جُنَّةٌ، فإذا كانَ يومُ صومِ أحدِكم فلا يَرفُثْ، ولا يصخب، فإنْ سابَّه أحد أو قاتله فليقل: إنِّي صائمٌ، إنِّي صائم". رواه البخاري واللفظ له ومسلم.

المقصرون في الطاعات والمنشغلون عن رمضان: للأسف كثير من الناس يهتمون في استقبال رمضان بشراء أنواع المطاعم والمشارب، ونحو ذلك، وكان الأولى بهم أن يقللوا من ذلك ليتحقق المقصود من القيام، وهو تقوى الله سبحانه وتعالى وخشيته لأن من أعظم المعينات عليها التقليل من الطعام والشراب لأنه بتقليل الطعام والشراب تضيق مجاري الدم التي ينفذ الشيطان من خلالها لإغواء الإنسان.

أيها المسلم! أيتها المسلمة: احذروا أن يضيع منكم رمضان في إعداد أنواع المآكل والمشارب، أو بالخروج وكثرة التردد على الأسواق، فرمضان فرصة للمسارعة للخيرات للرجال والنساء، احذروا أن يفوتكم رمضان في اللهو واللعب والنوم والغفلة والتكاسل، والسهرات والزيارات ومتابعة الأخبار والأسعار والأحوال.

لصوص رمضان: عباد الله! إن لصوص رمضان، وقطاع الطريق إلى الله كُثُرٌ في هذا الزمان، ويتفنون في وسائل إضاعة فضائل هذا الشهر المبارك على الناس، فرمضان يحتاج إلى اغتنام كل لحظة فيه، وأهل الباطل يريدون إهدار أوقاته في التأثم بغير فائدة.

إن مما ينبغي للمسلم الحريص على سلامة صيامه، وتحصيل أجره وثوابه أن يحذر من لصوص الصيام ومضيعاته ومنها:

مواقع التواصل الاجتماعي والإنترنت عمومًا: فإن أكثر الأوقات تمضي عليه بلا فائدة، ولكن لمجرد القيل والقال، والأخذ والرد، والحوارات والمحادثات الطويلة، ومطالعة الأخبار وغيرها، مما يمكن تحصيله في وقت قليل، لكنه في الحقيقة يسرق الأوقات، فلا تقابل الإحسان بالإساءة، قال تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]، فأين سمعك في رمضان؟ وأين بصرك في رمضان؟ وأين قلبك في رمضان؟ وأين وقتك في رمضان؟ وأين أنت من رمضان والقيام والصيام؟

المسلسلات وبرامج الإعلام: فأغلب وسائل الإعلام وخاصة الفضائيات، تستعد لاستقبال رمضان بإعداد المسلسلات والتمثيليات الهابطة والفاسدة، وهنالك العشرات بل المئات من القنوات الفضائية التي أصبحت معولاً من معاول محاربة الدين والأخلاق والفضيلة، بل هي منابر لنشر الفساد والرذيلة، ومع الأسف الشديد فإن القنوات الفضائية قد دخلت بيوتنا، وأصبحت مربيةً لأبنائنا وبناتنا، ومرشدةً لزوجاتنا، وموجهةً لشبابنا ورجالنا، إلا من رحم ربي وحفظه من هذه الطوفان الهادر، والفيضان الرهيب. إن الدراما العربية ووسائل الإعلام ساهمت في تلك الانحرافات بل أصلت لها وأساس قواعدها؛ فمن ضمن سموم القنوات الفضائية، هذه المسلسلات الفاسدة المفسدة، الطافحة بالانحرافات الفكرية والسلوكية، التي تتعارض مع ديننا وأخلاقنا وعادتنا وتقاليدنا الأصيلة، إنها المسلسلات التي تنشر الفواحش والمنكرات، وتجعل الزنا أمرًا عاديًا، وتجعل العلاقات الجنسية خارج نطاق الزواج وما يترتب عليها من حملٍ، أمورًا طبيعية، يجب على الأسرة أن تتقبلها وتقر بها، هذه المسلسلات التافهة التي تروج للممارسات غير الأخلاقية التي اجتاحت بعض المجتمعات كهروب الفتيات والزواج السري وغيرها، وإظهار الإعلام لها بعد ذلك بمظهر القدوة والبطولة حتى انخدع بعض الفتيات وصرن يمارسنه في الواقع، كما أن الترويج لمفهوم معين للحب يقوم على التلاقي بين الفتى والفتاة بعيداً عن الأسرة والأطر الشرعية عبر الإلحاح الإعلامي بكل وسائله أثر بشكلٍ كبيرٍ على المجتمع وعلى طبيعة العلاقات التي تحكم الرجل بالمرأة فالعديد من الأفلام تصور الراقصة بطلة ولديها أخلاقيات ومثل عليا! وفي بعض الأفلام تعيش المرأة المتزوجة مع حبيبها وتقدم هذه المرأة على أنها تستحق التعاطف معها، كما أن هذه المسلسلات التافهة تبرز المرأة كرمزٍ للجنس المكشوف أو الموارب، ويضاف إلى ذلك أن هذه المسلسلات قد أسهمت في تفكيك الحياة الأسرية بزيادة المشكلات في البيوت، وزيادة عدد حالات الطلاق، فالفضائيات تدعو إلى تمرد المرأة على زوجها، فهي تظهر لها أن الزوج متسلط وظالم، سلب منها حقوقها وحياتها، كما أن من أسباب الطلاق مقارنة الزوج لزوجته بنساء الفضائيات، اللائي جملّتهن كاميرات التصوير حتى القبيحات منهن أصبحن جميلات بفعل أنواع المكياج، وهذا غيضٌ من فيض قاذورات القنوات الفضائية الفاسدة والمفسدة المتخصصة في محاربة ما بقي لدى المجتمع من قيمٍ وأخلاقٍ وعاداتٍ كريمة. إن مثل هذه القنوات الفضائية ينطبق عليها قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَءَامَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [النور: 19].

ويضاف إلى ذلك استعداد القنوات الفضائية لاستقبال شهر رمضان بتقديم برامج الطبخ الكثيرة جداً في رمضان والتي تهدف إلى تغريب المجتمع حتى في طعامه وتطبيعه بطبائع غير المسلمين في قضايا الأكل والشرب، بالإضافة لما تغرسه في نفوس الناس من اهتمامٍ زائدٍ بالطعام وأشكاله وأنواعه وطرق تقديمه وما يتبع ذلك من زيادة الإنفاق على الطعام والشراب وما يتعلق بهما من أجهزة وأدوات، وضياع للأوقات في المشاهدات والتجارب والتنفيذ.

إن ما تقوم به أغلب الفضائيات في رمضان يهدف إلى إفساد هذه العبادة العظيمة على الناس وإفراغها من مضامينها الإيمانية من خلال تقديم التمثيليات والمسلسلات المختلفة وبعضها يزعمون أنها دينية وهي في معظمها لا علاقة لها بالدين إلا في الاسم. وكذلك المسابقات التي يتفننون في أسمائها وأشكالها وهدفها الحقيقي إنما هو إفساد الناس وأخلاقهم وتضييع أموالهم في أمورٍ العلم به لا ينفع والجهل به لا يضر، فعلينا أن نحذر الشيطان وأعوانه من شياطين الإنس من الممثلين والممثلات والمطربين والمطربات، الذين تقدمهم الفضائيات على أنهم نجوم وكواكب وليس بذاك في الحقيقة.

يا أهل الفن والإعلام أقصروا!

إن رمضان فرصة ثمينة للتوبة والإنابة إلى الله عز وجل وأنتم تحولونه إلى فرصة لنشر الفساد وإشاعة الفواحش، فانضموا إلى صفوف أولياء الله المتقين، وسخِّروا الإعلام في خدمة الدين، وإشاعة المعروف والنهي عن المنكر، وذكِّروهم بالقرآن والسُّنَّة، ولا تشغلوهم بالأغاني والمسلسلات، والفوازير، والراقصات، قبيح بكم أن تبارزوا ربكم بالحرب في شهره الكريم، وتكثفوا حربكم على الدين والأخلاق، كأنكم تشفقون من بوار تجارتكم الشيطانية في هذا الشهر المُبارك، فتضاعفون من مجهودكم لتصدوا الناس عن سبيل الله عز وجل، وتبغوها عوجًا. إن المنادي يناديكم من أول ليلة في رمضان "يا باغي الخير أقبل، يا باغي الشر أقصر"، فإن أصررتم فإن الله تعالى يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [النور: 19].

وأنت أيها المسلم! قاطع هؤلاء، واحرص على سلامة دينك أخلاقك وطاعتك، وتذكر قوله تبارك وتعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} [الإسراء: 36]، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان: 72]، وقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 3]، وتذكر الحكمة من تشريع الصيام، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، وتذكر قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ فِي أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ». أخرجه البخاري

مع تحيات

اللجنة العلمية لملتقى الخطيب المؤثر أسد المنابر