(لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)،
عنوان الخطبة ((اعرف نبيك))
الهدف من الخطبة (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)،
عناصر الموضوع
1- قطوف من سيرة النبي صلى الله عليه وسلمَ الذاتية .
2- قطوف من أوصافه صلى الله عليه وسلمَ.
3- قطوف من سيرته العملية صلى الله عليه وسلمَ .
اعرف نبيك
المقدمة: أما بعد، فإن الله تعالى قد بعث في كل أمة رسولاً ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)، وقال سبحانه: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ)، وقال: (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ) .
وقد منَّ الله تعالى على أمتنا فجعلها خير الأمم، وأرسل إليها سيد الناس وأفضلهم شأنًا، وأحسنهم شرفًا، وأعظمهم منزلة عنده سبحانه وتعالى، محمد صلى الله عليه وسلمَ، (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)، هذا هو نبينا، وتاج رؤوسنا وسبب هدايتنا ونجاتنا من ظلمات الجهل والشرك والكفر إلى نور الهدى والتوحيد والإيمان ..
بين يدي الخطبة: قال الإمام الشافعي:
من مثلكم لرسول الله ينتســــب ليت الملوك لها من جدكم نســـــــب
ما للسلاطين أحساب بجانبكـــم هذا هو الشرف المعروف والحسب
أصلٌ هو الجوهر المكنون مــا لعبت به الأكفّ ولا حاقت به الريب
خير النبيين لم يُذكر على شفةٍ إلا وصلّت عليه العجم والعــــــــرب
خير النبيين لم تُحصر فضائلـه مهما تصدت لها الأسفار والكتـــــب
خير النبيين لم يُقرَن به أحــــدٌ وهكذا الشمس لم تُقرَن بها الشهب
●قطوف من سيرة النبي صلى الله عليه وسلمَ الذاتية
هو أبو القاسم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم من بني عدنان من نسل إسماعيل بن إبراهيم صلى الله وسلم على جميع أنبيائه ورسله .
من أسمائه صلى الله عليه وسلمَ: عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعَمٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إنَّ لي أَسْمَاءً: أَنَا مُحَمَّدٌ وَأَنَا أَحْمَدُ وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِي الْكُفْرَ وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي وَأَنَا الْعَاقِبُ ". وَالْعَاقِب: الَّذِي لَيْسَ بعده شَيْء. مُتَّفق عَلَيْهِ، وَعَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَمِّي لَنَا نَفْسَهُ أَسْمَاءً فَقَالَ: «أَنَا مُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ وَالْمُقَفِّي وَالْحَاشِرُ وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ وَنَبِيُّ الرَّحْمَة» رَوَاهُ مُسلم
ونسب النبي صلى الله عليه وسلمَ أشرف الأنساب، عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنَى هَاشِمٍ وَاصْطَفَانِي مِن(ْ بَنِي هَاشِمٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ
ولد صلى الله عليه وسلمَ بمكة عام الفيل، يتيمًا حيث مات أبوه عبد الله وهو جنين في بطن أمه آمنة بنت وهب، ثم استرضع ونشأ في ديار بني سعد حيث أرضعته حليمة، ولما بلغ أربع سنوات عاد إلى حضن أمه آمنة لتودعه صلى الله عليه وسلمَ وعمره ست سنوات، ويرعاه جده عبد المطلب بعدها إلى أن بلغ صلى الله عليه وسلمَ ثمان سنوات، فينتقل النبي صلى الله عليه وسلمَ إلى عمه أبي طالب لموت جده، ويعمر أبو طالب فيرعاه ويحوطه، وينشأ النبي صلى الله عليه وسلمَ في مكة، ويرعى الغنم إلى أن شب فخرج للتجارة، وتاجر مع خديجة بن خويلد ثم تزوجها رضي الله عنها، وعدد من تزوجهن النبي صلى الله عليه وسلمَ إحدى عشرة امرأة، أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، وهن: خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدِ، وَسَوْدَة بنت زَمعَة، وعَائِشَة ابْنة أبي بكر الصّديق، وَحَفْصَة بنت عمر بن الْخطاب، وَأم سَلمَة هِنْد بنت أبي أُميَّة، وَجُوَيْرِية بنت الْحَارِث، وَزَيْنَب بنت جحش، وزَيْنَبُ بِنْتُ خُزَيْمَةَ، وَأم حَبِيبَة رَملَة بنت أبي سُفْيَان، وَصفِيَّة بنت حييّ، ومَيْمُونَة بنت الْحَارِث، بلا خلاف فيهن، وإنما وقع الخلاف فيما زاد عنهن .
وأنجب صلى الله عليه وسلمَ: الْقَاسِمَ وَبِه كَانَ يكنى، وعبد الله (وَهُوَ الطَّاهِرُ وَالطَّيِّب)ُ، وإبراهيم، وزَيْنَبَ وَرُقَيَّةَ وَأُمَّ كُلْثُومَ وَفَاطِمَةَ، وجميع أولاده من أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها عدا إبراهيم فمن مارية القبطية .
ولما بلغ صلى الله عليه وسلمَ أربعين سنة كان يرى الرؤيا المنامية، فتتحقق وتقع رأي العين، ثم حُبب إليه الخلوة، فكان يتزود لها، ويخرج لغار حراء، فيخلو فيه أيامًا يتعبد، فجاءه جبريل عليه السلام وهو على هذا الحال بحراء فأقرأه القرآن، فأرسل صلى الله عليه وسلمَ نبيًا ورسولاً مبشرًا ونذيرًا، للناس كافة، (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) .
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ ثُمَّ حُبِّبَ إليهِ الخَلاءُ وكانَ يَخْلُو بغارِ حِراءٍ فيتحنَّثُ فِيهِ -وَهُوَ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ - قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدَ لِذَلِكَ ثُمَّ يَرْجِعَ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدَ لِمِثْلِهَا حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ. فَقَالَ: «مَا أَنَا بِقَارِئٍ»، قَالَ: " فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ. فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ. فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجهد ثمَّ أَرْسلنِي فَقَالَ: [اقرَأْ باسمِ ربِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لم يعلم] ". فَرجع بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ فَقَالَ: «زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي» فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ فَقَالَ لخديجةَ وأخبرَها الخبرَ: «لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي» فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلَّا وَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وتقْرِي الضيفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ ثُمَّ انْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ إِلَى وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ ابْنِ عَمِّ خَدِيجَةَ. فَقَالَتْ لَهُ: يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ. فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَ مَا رَأَى. فَقَالَ وَرَقَةُ: هَذَا هُوَ النَّامُوسُ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا يَا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ؟» قَالَ: نَعَمْ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرُكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا. ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوَفِّيَ وَفَتَرَ الوحيُ. مُتَّفق عَلَيْهِ
ثم بدأ صلى الله عليه وسلمَ في دعوة الأقربين سرًا فآمنت له خديجة، وآمن له أبو بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، وظل يدعو سرًا ثلاث سنوات، فأسلم قرابة الثلاثمائة، ثم بدأ في الجهر والصدع بالدعوة لأهله وقبيلته وعشيرته، قال تعالى: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ . وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)، ثم جهر بها على مسامع قريش جميعًا من فوق جبل الصفا، قال تعالى: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ . إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ . الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)، فظاهروه بالكيد والعدواة والإيذاء الشديد، وهو حليم صابر، يدعوهم ويترفق بهم، ويكف عنهم، فلا يرفع عليهم سيفًا ولا يدًا، حتى مضت على بعثته صلى الله عليه وسلمَ ثلاث عشرة سنة، واشتد المشركون في عدواتهم حتى هموا وسعوا لقتله، فضاق به المقام بمكة، وأذن الله له وللمؤمنين بالهجرة، فهاجروا إلى المدينة، بعدما هيأها الله تعالى لهم مقامًا وسكانًا، فصارت دار أمان وإسلام، فعظمت دعوته، وتوسعت دولته، ونزلت عليه الأحكام، وشرع الجهاد، فغزا صلى الله عليه وسلمَ، وجاهد لتكون كلمة الله هي العليا، فقاتل من حقه القتال، فأسلم خلق غفير كثير، فأكمل الله تعالى الدين، وأتم النعمة، وفتحت مكة، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، ولم يزل صلى الله عليه وسلمَ مشمرًا في القيام بواجب الرسالة، وأداء الأمانة، ونُصح الناس، حتى توفاه الله تعالى بعد ثلاث وعشرين سنة من عمر الدعوة والرسالة .
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَرْبَعِينَ سَنَةً فَمَكَثَ بِمَكَّةَ ثلاثَ عَشْرَةَ سَنَةً يُوحَى إِلَيْهِ ثُمَّ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ فهاجرَ عشر سِنِينَ وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً. مُتَّفق عَلَيْهِ
● قطوف من أوصافه صلى الله عليه وسلمَ
قَالَتْ أم معبد الخزاعية في وصفه: رَأَيْتُ رَجُلًا ظَاهِرَ الْوَضَاءَةِ أَبْلَجَ الْوَجْهِ حَسَنَ الْخَلْقِ لَمْ تَعِبْهُ ثَجْلَةٌ وَلَمْ تَزْرِ بِهِ صَعْلَةٌ وَسِيمٌ قَسِيمٌ فِي عَيْنَيْهِ دَعَجٌ وفِي أَشْفَارِهِ عَطَفٌ وَفِي صَوْتِهِ صَهَلٌ وَفِي عُنُقِهِ سَطَعٌ وَفِي لِحْيَتِهِ كَثَاثَةٌ أَزَجُّ أَقْرَنُ إِنْ صَمَتَ فَعَلَيْهِ الْوَقَارُ وَإِنْ تَكَلَّمَ سَمَاهُ وَعَلَاهُ الْبَهَاءُ أَجْمَلُ النَّاسِ وَأَبْهَاهُم مِنْ بَعِيدٍ وَأَحْلَاهُ وَأَحْسَنُهُ مِنْ قَرِيبٍ حُلْوُ الْمَنْطِقِ فَصْلٌ لَا نَذْزٌ وَلَا هَذْرٌ كَأَنَّ مَنْطِقَهُ خَرَزَاتُ نَظْمٍ تحَدَّرْنَ رَبْعَةٌ لَا بَائِنُ مِنْ طُولٍ وَلَا تَقْتَحِمُهُ عَيْنٌ مِنْ قِصَرٍ غُصْنٌ بَيْنَ غُصْنَيْنِ هُوَ أَنْظَرُ الثَّلَاثَةِ مَنْظَرًا وَأَحْسَنُهُمْ قَدْرًا لَهُ رُفَقَاءُ يَحُفُّونَ بِهِ إِنْ قَالَ أَنْصَتُوا لِقَوْلِهِ وَإِنْ أَمَرَ تَبَادَرُوا إِلَى أَمْرِهِ مَحْفُودٌ مَحْشُودٌ لَا عَابِسَ وَلَا مُعْتَدَ . انتهى من دلائل النبوة لأبي نعيم .
[الثجلة: ضخامة البدن. الصعلة: صغر الرأس. وسيم قسيم: حسن جميل. الدعج: سواد العين. وفي أشفاره وطف: في شعر أجفانه طول. صحل. بحة وخشونة. سطع: طول. أزج: الحاجب الرقيق في الطول. لا نزر ولا هذر: أي وسط لا قليل ولا كثير. محفود: الذي يخدمه أصحابه ويعظمونه ويسرعون في طاعته. المحشود: الذي يجتمع إليه الناس.]
قال علي بن أبي طالب: لم يكن بالطويل الممّغط، ولا القصير المتردد، وكان ربعة من القوم، ولم يكن بالجعد القطط ولا بالسّبط، وكان جعدا رجْلا، ولم يكن بالمطهّم ولا بالمكلثم، وكان في الوجه تدوير، وكان أبيض مشربا، أدعج العينين، أهدب الأشفار، جليل المشاش والكتد، دقيق المسربة، أجرد، شثن الكفين والقدمين، إذا مشى تقلّع كأنما يمشي في صبب، وإذا التفت التفت معا، بين كتفيه خاتم النبوة، وهو خاتم النبيين، أجود الناس كفا، وأجرأ الناس صدرا، وأصدق الناس لهجة، وأوفى الناس ذمة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه، يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله صلى الله عليه وسلم .
وفي رواية عنه: أنه كان ضخم الرأس، ضخم الكراديس، طويل المسربة، إذا مشى تكفأ تكفيا كأنما ينحط من صبب .
وقال جابر بن سمرة: كان ضليع الفم، أشكل العين، منهوس العقبين .
وقال أنس بن مالك: كان أزهر اللون، ليس بأبيض أمهق، ولا آدم، قبض وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء .
وقالت الربيع بنت معوذ: لو رأيته رأيت الشمس طالعة .
وقال أبو هريرة: ما رأيت شيئا أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأن الشمس تجري في وجهه، وما رأيت أحدا أسرع في مشيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأنما الأرض تطوى له، وإنا لنجهد أنفسنا، وإنه لغير مكترث .
وقال كعب بن مالك: كان إذا سر استنار وجهه، حتى كأنه قطعة قمر .
قال ابن العباس: كان أفلج الثنيتين، إذا تكلم رؤي كالنور يخرج من بين ثناياه .
وقال أنس: ما مسست حريرًا ولا ديباجًا ألين من كف النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا شمت ريحًا قط أو عرفًا قط
وفي رواية: ما شممت عنبرا قط ولا مسكا ولا شيئا أطيب من ريح أو عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم . اهـ باختصار من الرحيق المختوم
● قطوف من سيرته العملية صلى الله عليه وسلمَ
لقد بلغ النبي صلى الله عليه وسلمَ مبلغ الكمال البشري، بحيث كثرت شمائله، وتعددت أوصافه وأخلاقه، فقد اختاره الله واصطفاه فجعله خاتم النبين وإمام المرسلين، وسيد ولد آدم أجمعين، ولكن المتأمل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلمَ العملية يجد أن له أخلاقًا بارزة ظاهرة تخضع لها بقية الأخلاق، كالرحمة، وشدة الحرص على فوز ونجاة أمته، والصبر، والحلم، والرفق، والعفو، والشجاعة، والسخاء، والوفاء، وقد وصف الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلمَ في القرآن بأحسن وأجل الأخلاق، وأشملها وأجملها، قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)، وقال جَل جلاله: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)، وقال سبحانه: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)، وعَنْ أَنَسٍ قَالَ: خَدَمْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ فَمَا قَالَ لِي: أُفٍّ وَلَا: لِمَ صَنَعْتَ؟ وَلَا: أَلَّا صَنَعْتَ؟ مُتَّفق عَلَيْهِ، وَعَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقًا. رَوَاهُ مُسلم، وَعَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ وَأَجْوَدَ النَّاسِ وَأَشْجَعَ النَّاسِ . مُتَّفق عَلَيْهِ
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ. قَالَ: «إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ
وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ قَطُّ إِلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا أَنْ يُنتهك حرمةُ الله فينتقم لله بهَا. مُتَّفق عَلَيْهِ
وَعَنْهَا قَالَتْ: مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ وَلَا امْرَأَةً وَلَا خَادِمًا إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ فَيَنْتَقِمُ مِنْ صَاحِبِهِ إِلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللَّهِ فينتقم لله. رَوَاهُ مُسلم
وَعَنْها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا وَلَا سَخَّابًا فِي الْأَسْوَاقِ وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وصححه الألباني .
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا فَإِذَا رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: مَا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا قَطُّ فَقَالَ: لَا. مُتَّفق عَلَيْهِ
وَعَن أنس إِنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم غَنَمًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ فَأَتَى قَوْمَهُ فَقَالَ: أَي قوم أَسْلمُوا فو الله إِنَّ مُحَمَّدًا لَيُعْطِي عَطَاءً مَا يَخَافُ الْفَقْرَ. رَوَاهُ مُسلم
وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ بَيْنَمَا هُوَ يَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقْفَلَهُ مِنْ حُنَيْنٍ فَعَلِقَتِ الْأَعْرَابُ يَسْأَلُونَهُ حَتَّى اضْطَرُّوهُ إِلَى سَمُرَةٍ فَخَطَفَتْ رِدَاءَهُ فَوَقَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أَعْطُونِي رِدَائِي لَوْ كَانَ لِي عَدَدَ هَذِهِ الْعِضَاهِ نَعَمٌ لَقَسَمْتُهُ بَيْنَكُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُونِي بَخِيلًا وَلَا كذوباً وَلَا جَبَانًا» . رَوَاهُ البُخَارِيّ
وَعَنِ الْأَسْوَدِ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ: مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ؟ قَالَتْ: كَانَ يَكُونُ فِي مَهْنَةِ أَهْلِهِ - تَعْنِي خدمَة أَهله - فَإِذا حضرت الصَّلَاة خرج إِلَى الصَّلَاة. رَوَاهُ البُخَارِيّ
وعن أنس أنه: كان يردف خلفه ويضع طعامه على الأرض ويجيب دعوة المملوك ويركب الحمار» رواه الحاكم وصححه الألباني
وعن ابن أبي أوفى عن ابن أبي أوفى أنه: «كان يكثر الذكر ويقل اللغو ويطيل الصلاة ويقصر الخطبة وكان لا يأنف ولا يستكبر أن يمشي مع الأرملة والمسكين والعبد حتى يقضي له حاجته» رواه النسائي والحاكم وصححه الألباني .
وقد كان صَلى الله عليه وسلم أوفى الناس بالعهود، وأوصلهم لرحمه، وأعظمهم شفقة ورحمة بالناس، وأحسن الناس عشرة، وأوفاهم مودة، لا تُسمع منه الكلمة القبيحة فلم يكن فاحشاً ولا متفحشاً، ولا يرفع صوته، ولا يقابل السيئة بالسيئة بل يقابلها بالحسنة، ويعفو ويصفح، وكان يشارك أصحابه في السفر أعمالهم، وكان دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، يظن كل من جالسه من أصحابه أنه أحب الناس إليه، قال جرير البجلي: ما رآني رسول الله صَلى الله عليه وسلم منذ أسلمت إلا تبسَّم .
ولم يكن يكثر الكلام؛ بل كان كلامه قليلاً لو عدَّهُ العاد لأحصاه، وكان يجلس مع أصحابه يستمع لحديثهم، فكان مجلسه لا ترفع فيه الأصوات، ولا تنتهك فيه الحرمات، يتفاضلون عنده بالتقوى، ولا يقاطعهم إذا تحدثوا، ولا يذمُّ أحداً ولا يعيِّرهُ ولا يطلب عورته، ولا ينطق إلا بما يرجو ثوابه صلى الله عليه وسلمَ .
هذا هو نبينا صلى الله عليه وسلمَ فهل عرفناه كما ينبغي ؟!
مع تحيات
اللجنة العلمية لملتقى الخطيب المؤثر أسد المنابر