السبت ، ٢١ جمادى الأول ، ١٤٤٦ هجري | 23 نوفمبر 2024 ميلادي
التبرك بين المشروع والممنوع
وصف الخطبة : - بيان أنواع التبرك، وما يشرع منه وما لا يشرع، مع التحذير من التبرك الممنوع.

عنوان الخطبة ((التبرك بين المشروع والممنوع))
الهدف من الخطبة بيان أنواع التبرك، وما يشرع منه وما لا يشرع، مع التحذير من التبرك الممنوع.
عناصر الخطبة:  
1- قواعد في التبرك. 
2- التبرك المشروع.  
3- التبرك الممنوع. 
4- من أسباب التبرك الممنوع ووسائل مقاومته.
التبرك بين المشروع والممنوع
المقدمة: أما بعد، قال الله تعالى: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
بين يدي الخطبة:
قَوَاعِدُ فِي التَّبَرُّكِ
التّبرُّك: هو طلب البركة، وهي كثرة الخير وثبوته، والتبرّك بالشيء: هو طلب البركة بواسطته، أَيْ: طَلَبُ حُصُوْلِ الخَيْرِ بِمُقَارَبَةِ ذَلِكَ الشَّيْءِ وَمُلَابَسَتِهِ.
وحتى يكون التبرك مشروعًا لابد من التقيد بشروط:
الشرط الأول: الاعتقاد الجازم بأن البركة من الله تعالى وحده.
الشرط الثاني: ألا تُطلب البركة إلا من الله.
قال تعالى: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران: 26]، وكان رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ استفتح وكان من دعائه: «لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ، أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ، تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ». أخرجه مسلم، ووضع رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يده في الماء وقال: «البَرَكَةُ مِنَ اللَّهِ»، فَتَفَجَّرَ الماءُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ. أخرجه البخاري.
فهذا يدل على أن البركة من الله، وتُطلب منه سبحانه وتعالى وحده، وهو يضعها فيمن شاء من خلقه، وفيما شاء من بريته.
الشرط الثالث: أن يدل دليل صحيح صريح على أن هذا الشيء المتبرك به فيه بركة.
فقد اخْتَصَّ اللهُ تَعَالَى بَعْضَ خَلْقِهِ بِمَا شَاءَ مِنَ الفَضْلِ وَالبَرَكَةِ، وَهَذِهِ البركة قَدْ تَكُوْنُ فِي أَمْكِنَةٍ، وَقَدْ تَكُوْنُ فِي ذَوَاتٍ، وَقَدْ تَكُوْنُ فِي أَزْمِنَةٍ، وَقَدْ تَكُوْنُ فِي صِفَاتٍ، فمثال الأمكنة، كما في قَوْلِهِ تَعَالَى (وَجَعَلَ فِيْهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيْهَا) [فُصِّلَت:10]، ومثال الذوات كما في قَوْلِهِ تَعَالَى (وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِيْنٌ) [الصَّافَّات:113]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا) [مَرْيَم:131]، ومثال الأزمنة كما في قَوْلِهِ تَعَالَى: (لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) [القَدْر:3]، ومثال الصفات كما في قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً) [النُّوْر:61]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) [الأَنْبِيَاء:50].
الشرط الرابع: اتخاذ الأسباب الصحيحة التي بها نحصل على البركة، فلابد أن يكون التبرك به بنفس الطريقة المشروعة التي شرعها الرسول صلى الله عليه وسلم، فماء زمزم يكون التبرك به بشربه والتضلع منه، والمسجد الحرام مبارك، فتُحصل البركة بالصلاة فيه، والطواف، وأداء المناسك، ولا يتبرك مثلاً بالتمسح بأشجاره وأحجاره وترابه ونحو ذلك لأنه لم يشرع.
وَالتَّبَرُّكُ بِالمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ يَكُوْنُ بِالصَّلَاةِ فِيْهَا؛ وَلَيْسَ بالتَّمَسُّحِ بِجُدْرَانِهَا وَأَرْضِهَا، وَالتَّبَرُّكُ بِالقُرْآنِ يكَوْنُ بِتِلَاوَتِهِ وَتَدَبُّرِهِ وَالعَمَلِ بِهِ؛ لَا بتعليقه على الجدران، أو مجرد وضعه في البيوت وأماكن العمل والسيارات، ولا بِجَعْلِهِ تَمِيْمَةً، ونحو ذلك.
فطلب البركة لا يخلو من أمرين: إما أن يكون التبرك بأمر شرعي معلوم، مثل القرآن، كما قال الله تعالى: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ) [الأنعام: 92]، ومن بركته هدايته للقلوب وشفاؤه للصدور وإصلاحه للنفوس وتهذيبه للأخلاق، إلى غير ذلك من بركاته الكثيرة.
وإما أن يكون التبرك بأمر غير مشروع، كالتبرك بالأشجار والأحجار والقبور والقباب والبقاع ونحو ذلك، فهذا كله من الشرك.
التَّبَرُّكُ المشروع
ينقسم التبرك من جهة حكمه إلى قسمين: الأول التبرك المشروع: وهو طلب البركة على وجه مشروع مما أبيح التبرك به.
ومنه أن يفعل المسلم العبادات المشروعة طلباً للثواب المترتب عليها، كالتبرك بقراءة القرآن والعمل بأحكامه، وكالتبرك بالمسجد الحرام بالصلاة فيه ليحصل على فضيلة مضاعفة الصلاة فيه.
والأشياء التي يتبرك بها -أي تطلب البركة بواسطتها- قد يكون فيها بركة دينية، وقد يكون فيها بركة دنيوية، وقد يكون فيها بركة دينية ودنيوية معًا.
فمثال الأول: المساجد الثلاثة، لما فيها من الأجر العظيم لمن صلى فيها وغير ذلك.
ومثال الثاني: الماء واللبن، لما فيهما من المنافع الدنيوية الكثيرة.
ومثال الثالث: القرآن، ففيه منافع دينية ودنيوية كثيرة، ويكفي أن من تمسك به أفلح في الدنيا والآخرة، وهو شفاء للقلوب والأبدان.
ومن ذلك: نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فمن اقتدى به وسار على هديه سعد في الدنيا والآخرة، وصلحت دنياه وآخرته، وأيضاً في جسده وآثاره عليه الصلاة والسلام بركات دينية ودنيوية.
والأمور المباركة أنواع، منها:
أولاً: القرآن الكريم مبارك: أي كثير البركات والخيرات؛ لأن فيه خير الدنيا والآخرة، وطلب البركة من القرآن يكون بتلاوته حق تلاوته، والعمل بما فيه على الوجه الذي يرضي الله عز وجل.
ثانيًا: الرسول صلى الله عليه وسلمَ مبارك، جعل الله فيه البركة، وهذه البركة نوعان:
1- بركة معنوية: وهي ما يحصل من بركات رسالته في الدنيا والآخرة؛ لأن الله أرسله رحمة للعالمين، وأخرج الناس به من الظلمات إلى النور, وأحلّ لهم الطيبات، وحرّم عليهم الخبائث، وختم به الرسل، ودينه يحمل اليسر والسماحة.
2- بركة حسّيّة، وهي على نوعين:
النوع الأول: بركة في أفعاله صلى الله عليه وسلمَ، وهي ما أكرمه الله به من المعجزات الباهرة الدالّة على صدقه.
النوع الثاني: بركة في ذاته، وآثاره الحسية: وهي ما جعل الله له صلى الله عليه وسلمَ من البركة في ذاته وجسده؛ ولهذا تبرّك به الصحابة في حياته، وبما بقي له من آثار جسده بعد وفاته، فقد كانوا يتبركون بمواضع أصابعه وبماء وضوئه وبفضل شربه، وبشعره وريقه وعرقه وثيابه.
وفي شأن التبرّك بالأنبياء فإنه يجوز التبرك بهم وبآثارهم صلى الله عليهم وسلمَ في حياتهم وبعد مماتهم، دون غيرهم من الناس، فلا يقاس عليهم أحدًا؛ لما جعل الله فيهم من البركة، ولما ورد في ذلك من الأدلة، ومنها قوله تعالى: (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).
ثالثًا: هناك أمور وأشياء مباركة: كالمسجد الحرام، وليلة القدر، والسحور، والبكور، والاجتماع على الطعام، وكماء زمزم، والمطر، وشجرة الزيتون وزيتها، والنخيل، واللبن، والخيل، والغنم.
والتبرك بهذه الأشياء يكون بفعل العبادات وغيرها مما ورد في الشرع ما يدل على فضلها فيها، ولا يجوز التبرك بها بغير ما ورد؛ فالتبرّك المشروع بهذه الأشياء يكون مقتصرًا على ما ورد في النصوص، فالتبرك بالمسجد الحرام يكون بالصلاة فيه ولا يكون بالتمسح بجدرانه أو أرضه مثلاً، والتبرك بالسحور والبكور والاجتماع على الطعام يكون بفعل ذلك، والتبرك بماء زمزم يكون بالشرب والاغتسال منه، والتبرك بماء المطر يكون بغسل بعض البدن به كاليدين والوجه، وهكذا.
وفي الصالحين من عباد الله المتبعين بركة عمل واتباع بقدر ما فيهم من مقتضيات تلك البركة، فالعالم بالسنة له بركة علم، والحافظ لكتاب الله الواقف عند حدوده فيه بركة من أثر ذلك، وهكذا، وإن أعلى الصالحين بركة أشدهم اتباعاً لدين الإسلام، ومحافظة على واجباته، ومباعدة عن محرماته.
ولا يقاس الصالحون على الأنبياء عليهم السلام؛ فإنه لم يؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالتبرك بغيره من الصحابة رضي الله عنهم أو غيرهم، ولم ينقل أن الصحابة رضي الله عنهم فعلوا ذلك مع غيره لا في حياته ولا بعد مماته، ولم يفعلوه مع السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، ولا مع الخلفاء الراشدين المهديين، ولا مع العشرة المشهود لهم بالجنة، قال الإمام الشاطبي رحمه الله: الصحابة رضي الله عنهم بعد موته عليه الصلاة والسلام، لم يقع من أحد منهم شيء من ذلك بالنسبة إلى من خلفه، إذ لم يترك النبي صلى الله عليه وسلم بعده في الأمة أفضل من أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فهو كان خليفته، ولم يفعل به شيء من ذلك، ولا عمر رضي الله عنه، وهو كان أفضل الأمة بعده، ثم كذلك عثمان، ثم علي، ثم سائر الصحابة الذين لا أحد أفضل منهم في الأمة، ثم لم يثبت لواحد منهم من طريقٍ صحيح معروف أن متبرِّكاً تبرّك به على أحد تلك الوجوه أو نحوها. انتهى.
ولا شكَّ أنَّ الانتفاع بعلم العلماء، والاستماع إلى وعظهم، ودعائهم، والحصول على فضل مجالس الذكر معهم فيها من الخير والبركة والنفع الشيء العظيم، ولكن لا يُتبرّك بذواتهم، وإنما يُعمل بعلمهم الصحيح، ويُقتدى بأهل السنة منهم.
وأما آثاره المكانية كمكانٍ سار فيه، أو بقعةٍ صلى فيها، أو أرض نزل بها فلم يعرف دليل شرعي يشير إلى أن بركة بدن الرسول صلى الله عليه وسلم قد تعدت إلى هذا المكان، فيكون مباركاً يشرع التبرك به، ولذا لم يكن يفعل هذا صحابته في حياته ولا بعد مماته؛ فما سار فيه رسول الله أو نزل فيه فلا يجوز التبرك به؛ لأن هذا وسيلة إلى تعظيم البقاع التي لم يشرع لنا تعظيمها، ووسيلة من وسائل الشرك، وما تتبع قوم آثار أنبيائهم إلا ضلوا وهلكوا.
قال المعرور بن سويد الأسدي؛ خرجت مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب من مكة إلى المدينة، فلما أصبحنا صلى بنا الغداة، ثم رأى الناس يذهبون مذهباً، فقال: أين يذهب هؤلاء؟ قيل: يا أمير المؤمنين! مسجد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم هم يأتون يصلون فيه، فقال: إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا، يتبعون آثار أنبيائهم، فيتخذونها كنائس وبيعاً، من أدركته الصلاة في هذه المساجد فليصل، ومن لا فليمض، ولا يتعمّدها. أخرجه سعيد بن منصور في سننه، وابن أبي شيبة في مصنفه وابن وضاح القرطبي في البدع والنهي عنها بإسناد صحيح.
فالسلف الصالح كانوا ينكرون التبرك بالآثار المكانية، وينكرون تحريها والتعلق بها رجاء بركتها، ولم يخالف في ذلك إلا ابن عمر رضي الله عنهما، فقد كان يتتبع الأماكن التي صلى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيصلي حيث صلى، ونحو ذلك، ولا يثبت عن غيره من الصحابة أنه كان يفعل مثل ما فعل في الآثار المكانيّة بل خالفوه، ومعلوم أنه لا يقدم قول أحدهم في مقابلة اتفاقهم رضي الله عنهم.
التبرك الممنوع
القسم الثاني من أقسام التبرك هو التبرك الممنوع: وهو ينقسم من حيث حكمه إلى قسمين: تبرك شركي، وتبرك بدعي.
أولاً: التبرك الشركي: وهو أن يعتقد المتبرِّكُ أن المتبرَّك به من المخلوقات يهب البركة بنفسه، أو يجلب نفعًا أو يدفع ضرًا أو غير ذلك مما لا يملك المخلوق؛ فالله تعالى وحده موجد البركة وواهبها، فاعتقاد أن غيره يهبها بذاته أو ينفع بنفسه شرك أكبر.
ثانيًا: التبرك البدعي: وهو التبرك بما لم يرد دليل شرعي يدل على جواز التبرك به، معتقداً أن الله جعل فيه بركة، أو التبرك بشيء يشرع التبرك به على غير ما ورد به الشرع في التبرك به –أي على نحو لم يشرع-.
وهذا بلا شك محرم؛ لأنه إحداث عبادة لا دليل عليها من كتاب أو سنة، ولأنه جعل ما ليس بسبب شرعي سبباً، فهو من الشرك الأصغر؛ ولأنه يؤدي إلى الوقوع في الشرك الأكبر.
ومن صور التبرّك الممنوع ما يأتي:
1- التبرّك بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته ممنوع إلا في أمرين:
الأمر الأول: الإيمان به، وطاعته واتباعه؛ فمن فعل ذلك حصل له الخير الكثير، والأجر العظيم، والسعادة في الدنيا والآخرة.
الأمر الثاني: التبرك بما بقي من أشياء منفصلة عنه صلى الله عليه وسلم: كثيابه، أو شعره، أو آنيته –إذا ثبت أنها له-.
وآثار النبي صلى الله عليه وسلم كلها قد فقدت، ومنبره احترق سنة 654هـ، فلا يوجد شيء من آثاره الآن على سبيل القطع واليقين، فلم يبق إلا التبرك باتباعه عليه الصلاة والسلام، فمن آمن به صلى الله عليه وسلم واتبعه حصل له خير كثير في الدنيا والآخرة من بركة الرسول عليه الصلاة والسلام بسبب إيمانه به، وطاعته له.
فما عدا هذين النوعين من التبرك به فلا يُشرع، فلا يُتبرّك بقبره، ولا تشد الرحال لزيارة قبره، وإنما تُشدّ الرحال لزيارة أحد المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، والمسجد النبوي، وإنما تُستحب الزيارة لقبره لمن كان في المدينة، أو زار المسجد ثم زار قبره، وصفة الزيارة: إذا دخل المسجد صلى تحية المسجد، ثم يذهب إلى القبر ويقف بأدبٍ مستقبلاً الحجرة، فيقول بأدب وخفض صوت: "السلام عليك يا رسول الله"، ولا يدعو عند القبر؛ لظنه أن الدعاء عنده مُستجاب، ولا يطلب منه الشفاعة، ولا يتمسح بالقبر، ولا يقبّله، ولا شيء من جدرانه، ولا يتبرّك بالمواضع التي جلس فيها أو صلى فيها، ولا بالطرق التي سار عليها، ولا بالمكان الذي أنزل عليه فيه الوحي، ولا بمكان ولادته، ولا بليلة مولده، ولا بالليلة التي أُسري به فيها، ولا بذكرى الهجرة، ولا غير ذلك مما لم يشرعه الله، ولا رسوله صلى الله عليه وسلم.
2- من التبرك الممنوع: التبرك بذوات الصالحين وآثارهم ومواضع عبادتهم ومكان إقامتهم وقبورهم، ولا يجوز أن تُشدّ الرحال إلى زيارتها، ولا يُصلّى عندها، ولا تُطلب الحوائج عند قبورهم، ولا يُتمسح بها، ولا يُعكف عندها، ولا يُتبرّك بمواليدهم، وغير ذلك ومن فعل شيئاً من ذلك تقرباً إليهم فقد أشرك بالله، أما من فعل ذلك يرجو البركة من الله بالتبرك بهم فقد أحدث في الدين وابتدع.
إن بركة الذوات لا تكون إلا لمن نص الله على إعطائه البركة كالأنبياء والمرسلين، وأما غيرهم من عباد الله الصالحين فبركتهم بركة عملٍ، أي: ناشئة عن علمهم وعملهم واتباعهم لا عن ذواتهم، ومن بركات الصالحين: دعاؤهم الناس إلى الخير ودعاؤهم لهم ونفعهم الخلق بالإحسان إليهم بنيةٍ صالحة ونحو هذا، ومن آثار بركات أعمالهم ما يجلب الله من الخير بسببهم ويدفع من النقمة والعذاب العام ببركة إصلاحهم، كما قال تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ).
وأما اعتقاد أن ذواتهم مباركة، فيتمسح بهم، ويشرب سؤرهم وتقبل أيديهم تبركًا ونحو ذلك، فهو ممنوع في غير الأنبياء لأوجه:
الأول: عدم مقاربة أحدٍ للنبي صلى الله عليه وسلم فكيف بالمساواة في البركة والفضل؟!
الثاني: أنه لم يرد دليل شرعي يدل على أن غير النبي صلى الله عليه وسلم مثلُه في التبرك بأجزاء ذاته، فهو خاص به كغيره من خصائصه.
الثالث: أن الصحابة رضي الله عنهم لم يقع من أحد منهم شيء من ذلك، مع القطع بفضلهم وعلمهم وصلاحهم؛ فلم يفعلوا ذلك مع الخلفاء الراشدين ولا غيرهم.
الرابع: أن سد الذرائع قاعدة من قواعد الشريعة العظيمة قد دلّ عليها القرآن والسنة.
الخامس: عدم الأمن على من فعل به هذا من الفتنة والعجب والكبر والرياء وتزكية النفس، وغير ذلك.
3 - من التبرك الممنوع: التبرك بالآثار المكانية، كالجبال والبقاع والطرق والمواضع؛ لأن ذلك يخالف ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، والتبرك بذلك يسبب تعظيم هذه الأماكن، ولا يجوز القياس على تقبيل الحجر الأسود، أو الطواف بالبيت؛ فإن ذلك عبادة لله عز وجل توقيفية، ولا يمسح غير الحجر الأسود والركن اليماني من الكعبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستلم من الأركان إلا الركنين اليمانيين باتفاق العلماء، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ليس على وجه الأرض موضع يشرع تقبيله واستلامه وتحط الأوزار فيه غير الحجر الأسود والركن اليماني. انتهى.
ولا يجوز التمسّح، ولا تقبيل مقام إبراهيم، ولا شيئاً من جدران المسجد، ولا يُتبرّك بجبل حراء، ولا تشرع زيارته، ولا الصعود إليه، ولا قصده للصلاة، ولا يُتبرّك بجبل ثور، ولا تُشرع زيارته، ولا جبل عرفات، ولا جبل أبي قبيس، ولا جبل ثبير، ولا يُتبرّك بالدور: كدار الأرقم ولا غيرها، ولا تشرع زيارة جبل الطور، ولا تُشدّ الرحال إليه، ولا يُتبرّك بالأشجار والأحجار ونحوها.
ومما يدل على أن التبرك بالآثار المكانية غير مشروع ومحدثٌ أمورٌ:
الأول: أن هذا النوع من التبرك لم يكن في عهده صلى الله عليه وسلم، ولم ينقل فيه شيء نقلاً مصدقاً، لا بإسنادٍ صحيح ولا حسن؛ فلم ينقل أن أحداً تبرك في زمانه بأثر له أرضي، وإذا لم ينقل مع توافر الدواعي على نقله، ووجود الهمم على نقل ما هو دونه بكثير: علم أنه لم يكن في زمانه صلى الله عليه وسلم وما كان كذلك فإحداثه بدعة، وكل بدعة ضلالة، والبدع يجب النهي عنها ومضادتها.
الثاني: أن بركة ذوات الأنبياء والمرسلين لا تتعدى إلى الأمكنة الأرضية، وإلا لزم أن يكون كل أرضٍ وطئها، أو جلس عليها، أو طريق مر بها، تطلب بركتها، ويتبرك بها، وهذا لازم باطل قطعاً، فانتفى الملزوم، وهذا جلي لمن تأمل اتساعه وتسلسله.
الثالث: أن طلب التبرك بالأمكنة الأرضية خلاف سنة الأنبياء جميعاً قبل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فلم يتحروا الآثار الأرضية للأنبياء قبلهم، ولا أمروا بتحريها، وكل ما كان خلاف ذلك فهو مما أحدثه الخلوف -الذين يفعلون ما لا يؤمرون- بعد أنبيائهم حين صعبت عليهم التكاليف الشرعية، فرغبوا في التعلق لغفران الذنوب وزيادة الحسنات بالتبرك المبتدع بالآثار المكانية؛ ولذا قال عمر: إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا، يتبعون آثار أنبيائهم.
الرابع: أن الأمكنة الأرضية لا تكون مباركة إلا بدوام الطاعة فيها، وهي سبب إعطاء الله البركة، فالمساجد مباركة لذلك.
الخامس: أن التبرك بالآثار المكانية وسيلة إلى ما هو أعظم: من تقديسها والاعتقاد فيها، وما كان هذا شأنه فمنعه واجب، إذ الوسيلة إلى ما ليس بمشروع ليست بمشروعة سداً للباب، وقطعاً للذريعة.
السادس: أن تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم والتماس بركته وتحريها يكون بما بقي اليوم من نوعي البركة وهي بركة الاتباع، والعمل بسنته، وجهاد أعداء سنته، والمخالفين لأوامر شرعه، والمنافقين الذي فتنوا الناس وأضلوهم، وبهذا رغب السلف من التابعين وأئمة الهدى، الذين حققوا محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فنالهم من بركة اتباعه ما أذن الله فيه، وتركوا عدا هذا من التبرك بالآثار الأرضية، فعلم من هذا أن ما تركوه غير معروف عندهم بل ممنوع.
قال الإمام عزالدين بن جماعة الكناني الشافعي في هداية السالك: ومن خطر بباله أن تقبيل الأرض أبلغ في البركة فهو من جهالته وغفلته؛ لأن البركة إنما هي فيما وافق الشرع وأقوال السلف وعملهم، وليس عجبي ممن جهل ذلك فارتكبه، بل عجبي ممن أفتى بتحسينه مع علمه بقبحه ومخالفته لعمل السلف. انتهى.
فينبغي على المسلم أن يحرص على سلامة دينه حرصًا شديدًا، فيتعلم العقيدة الصحيحة وأحكام الشريعة، ويجتنب الشبهات والبدع والمنكرات، ويسأل عما لا يعلم، ويعمل بمبدأ سد الذرائع فيما يشك فيه، فإن سد الذرائع أولى من التلبس بالشركيات والبدع.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وكذا الصحابة رضي الله عنهم يعلمون الناس التوحيد والاعتقاد الصحيح، ويحاربون الشرك وأهله، ويسدون ذرائعه وسبله، فعَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَرَجَ إِلَى حُنَيْنٍ مَرَّ بِشَجَرَةٍ لِلْمُشْرِكِينَ يُقَالُ لَهَا: ذَاتُ أَنْوَاطٍ يُعَلِّقُونَ عَلَيْهَا أَسْلِحَتَهُمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "سُبْحَانَ اللَّهِ هَذَا كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى (اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ)، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَرْكَبُنَّ سُنَّةَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ". أخرجه أحمد والترمذي وصححه الألباني.
قال أبو بكر الطرطوشي المالكي في الحوادث والبدع بعد ذكره لحديث أبي واقد الليثي:فانظروا -رحمكم الله- أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس ويعظمون من شأنها ويرجون البرء والشفاء من قبلها، وينوطون بها المسامير والخرق فهي ذات أنواط فاقطعوها. انتهى.
وعن ثَابِت بْن الضَّحَّاكِ أنه قَالَ: نَذَرَ رَجُلٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَنْحَرَ إِبِلًا بِبُوَانَةَ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَنْحَرَ إِبِلًا بِبُوَانَةَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلْ كَانَ فِيهَا وَثَنٌ مِنْ أَوْثَانِ الْجَاهِلِيَّةِ يُعْبَدُ؟» قَالُوا: لَا، قَالَ: «هَلْ كَانَ فِيهَا عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِهِمْ؟»، قَالُوا: لَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوْفِ بِنَذْرِكَ، فَإِنَّهُ لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ». أخرجه أبو داود وصححه الألباني.
كما أنه يجب قطع الأشجار وهدم الآبار والعيون، وإزالة الأحجار التي يتبرك بها العامة، حسماً لمادة الشرك، كما فعل عمر رضي الله عنه حين قطع شجرة بيعة الرضوان، فعن نافع مولى ابن عمر أنه قال: بلغ عمر بن الخطاب أن ناساً يأتون الشجرة التي بويع تحتها فأمر بها فقطعت. أخرجه ابن سعد في الطبقات وصححه الحافظ ابن حجر في الفتح.
3- التبرك ببعض الليالي والأيام على نحو غير مشروع، كطلب البركة من أزمان يقال إنها وقعت فيها أحداث عظيمة، كالليلة التي يقال إنها حصل فيها الإسراء والمعراج، أو طلب البركة بما لم يشرع من زمان ثبت فضله بتخصيصه بعبادات أو تبركات معينة لم يرد في الشرع ما يدل على تخصيصه به، كمن يخص ليلة القدر بعمرة.
من أَسْبَاب التَّبَرُّكِ المَمْنُوْعِ ووسائل مقاومته
من أسباب التبرك الممنوع:
1) الجَهْلُ بِالدِّيْنِ: وَتأمَّلْ قَوْلَ مُوْسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ قَوْمِهِ في قول الله تعالى: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائِيْلَ البَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُوْنَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوْسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ).
وَهَذَا الجَهْلُ يقوى عند سُكُوْتِ أَهْلِ العِلْمِ، وَتَشْجِيْعِ أَهْلِ البِدَعِ، وَالتَّقْلِيْدِ الأَعْمَى، والفتاوى الباطلة.
2) الغُلُوُّ فِي الصَّالِحِيْنَ: كَمَا فِي البُخَارِيِّ عَنْ عُمَرَ مَرْفُوْعًا: "لَا تُطْرُوْنِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ؛ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ فَقُوْلُوا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُوْلُهُ".
3) التَّشَبُّهُ بِالكُفَّارِ: كَمَا فِي حَدِيْثِ أَبِي سَعِيْدٍ الخُدْرِيِّ مَرْفُوْعًا: "لَتَتَّبِعُنَّ سُنَنَ الَّذِيْنَ مِنْ قَبْلِكُمْ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا التَّشَبُّهِ: إِقَامَةُ المَوْلِدِ النَّبَوِيِّ وَالأَعْيَادِ المُبْتَدَعَةِ، وَبِنَاءُ المَسَاجِدِ عَلَى القُبُوْرِ.
4) تَعْظِيْمُ الآثَارِ: وَهُوَ نَاتِجٌ عَنْ تَسَاهُلِ كَثِيْرٍ مِنَ العُلَمَاءِ فِي رِوَايَةِ أَحَادِيْثِ فَضَائِلِ الآثَارِ المَكَانِيَّةِ الضَّعْيِفَةِ وَالمَوْضُوْعَةِ.
ومن وَسَائِلُ مُقَاوَمَةِ التَّبَرُّكِ المَمْنُوْعِ:
1) نَشْرُ التَّوْحِيْدِ، وَبَيَانُ حَقِيْقَتِهِ، وَتَعْلِيْمُهُ لِلنَّاسِ.
2) نَشْرُ العِلْمِ الصَّحِيْحِ، وَالتَّحَرِّيْ فِيْمَا يُنْقَلُ وَيُذكَرُ مِنَ الأَحَادِيْثِ وَالآثَارِ، وَتَوْجِيْهِ مَا صَحَّ مِنْهَا.
3) الدَّعْوَةُ إِلَى المَنْهَجِ الحَقِّ؛ بَالرُّجُوْعِ إِلَى الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَعَلَى مَنْهَجِ السَّلَفِ الصَّالِحِ.
4) إِزَالَةُ وَسَائِلِ الغُلوِّ وَمَظَاهِرِ التَّبَرُّكِ المَمْنُوْعِ -وَكُلٌّ بِحَسْبِ وِلَايَتِهِ وَقُدْرَتِهِ-، وَلَا تَخْفَى هُنَا مُرَاعَاةُ المَصَالِحِ وَالمَفَاسِدِ وَمَصْلَحَةُ الدَّعْوَةِ.
مع تحيات
اللجنة العلمية لملتقى الخطيب المؤثر أسد المنابر