عنوان الخطبة ((شهر الله المحرم والهُويَّة الإسلامية))
الهدف من الخطبة التحذير من الظلم، وبيان فضائل شهر المحرم ويوم عاشوراء، والترغيب في صيامه، والترهيب من البدع والمحدثات ومن سلوك سبيل المجرمين، وبيان أهمية الهوية الإسلامية من خلال جوانب متعلقة بشهر المحرم.
عناصر الموضوع
1) تعظيم الأشهر الحرم.
2) فضائل شهر الله المحرم.
3) شهر الله المحرم والهُوية الإسلامية
شهر الله المحرم والهُويَّة الإسلامية
مقدمة الموضوع: أما بعد، قال الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}.
قال الشيخ العثيمين رحمه الله: ولهذا كان القول الراجح من أقوال العلماء: أنه لا يجوز القتال فيها إلا ما كان دفاعاً أو كان قد انعقدت أسبابه من قبل، بمعنى: أنه لا يجوز أن نبدأ قتال الكفار في هذه الأشهر الحرم، إلا إذا كان دفاعاً، بمعنى أنهم هم الذين بدأونا في القتال، أو كان ذلك امتداداً لقتال سابق على هذه الأشهر.
تعظيم الأشهر الحرم
قال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}، وعَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: "إِنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاَثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو القَعْدَةِ وَذُو الحِجَّةِ وَالمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ، الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ". رواه البخاري، وعَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِي عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: «يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا..». الحديث رَوَاهُ مُسلم.
وقوله تعالى: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}، أي في هذه الأشهر المحرمة، لأنها آكد وأبلغ في الإثم من غيرها.
وعن ابن عباس في قوله تعالى: {فلا تظلموا فيهن أنفسكم} في كلهن، ثم اختص من ذلك أربعة أشهر فجعلهن حرامًا، وعظّم حرماتهن، وجعل الذنب فيهن أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم، وقال قتادة في قوله: {فلا تظلموا فيهن أنفسكم}: إن الظّلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرًا من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيمًا، ولكن الله يعظّم من أمره ما يشاء. وقال: إن الله اصطفى صفايا من خلقه: اصطفى من الملائكة رسلاً ومن الناس رسلاً، واصطفى من الكلام ذكره، واصطفى من الأرض المساجد، واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم، واصطفى من الأيام يوم الجمعة، واصطفى من الليالي ليلة القدر، فعظموا ما عظّم الله، فإنما تُعَظّم الأمور بما عظمها الله به عند أهل الفهم وأهل العقل. انتهى ملخّصا من تفسير ابن كثير رحمه الله.
وقد حرم الله الظلم بكل أنواعه، فعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الظُّلْمُ ثَلاثَةٌ: فَظُلْمٌ لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ، وظلم يغفره الله، وَظُلْمٌ لا يَتْرُكُهُ اللَّهُ؛ فَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لا يَغْفِرُهُ اللَّهُ: فَالشِّرْكُ، وَقال اللَّهُ: {إِنَّ الشرك لظلم عظيم}، وَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي يَغْفِرُهُ اللَّهُ: فَظُلْمُ الْعِبَادِ لأَنْفُسِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ، وَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لا يَتْرُكُهُ اللَّهُ: فَظُلْمُ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا حَتَّى يَدِينَ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ». رواه البزار وحسنه الألباني.
فاحذروا عباد الله من الظلم، بكل صوره لا سيما الظلم الأكبر وهو الشرك فإن الله عز وجل لا يغفر للمشرك شركًا أكبر إن مات عليه.
فضائل شهر الله المحرم:
1- أنه من الأشهر الحرم: قال الله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}، وعَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه قَالَ: خَطَبَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ النَّحْرِ قَالَ: «إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ». متفق عليه.
2- إضافة اسمه إلى الله تعالى، فسمي بشهر الله المحرم، وهذه إضافة تشريف وتفضيل لهذا الشهر، وعن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمِ». رَوَاهُ مُسلم.
3- الصيام فيه أفضل الصيام بعد رمضان: للحديث السابق: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمِ». رَوَاهُ مُسلم.
4- فيه يوم عاشوراء الذي صيامه يكفر سيئات سنة: فعَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ». رَوَاهُ مُسلم، وقد كان صيامه واجبًا ثم نُسخ الوجوب بفرض رمضان، مع بقاء استحباب يوم عاشوراء، بدليل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ إِنْ شَاءَ اللهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ». رواه مسلم.
5- فيه نجى الله تعالى موسى عليه السلام وقومَه، وأغرق فرعون وقومَه: فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ الْمَدِينَةِ فَوَجَدَ الْيَهُودَ صِيَامًا يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي تَصُومُونَهُ؟» فَقَالُوا: هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ، أَنْجَى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى وَقَوْمَهُ وَغَرَّقَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ، فَصَامَهُ مُوسَى شُكْرًا، فَنَحْنُ نَصُومُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَنَحْنُ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ»، فَصَامَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَ بصيامه. متفق عليه.
6- كان ابتداء العزم على الهجرة من مكة إلى المدينة منه بعد بيعة العقبة في ذي الحجة، فأول هلال بعد البيعة كان هلاله.
7- اتفق المسلمون أن يكون بداية العام الهجري والتأريخ الإسلامي بشهر المحرم.
شهر الله المحرم والهُوية الإسلامية
إن من تأمل شريعتنا والتمس الهدي فيها وجده ظاهرًا في كل جوانبها يفصح عن نفسه بجلاء، ومن ذلك وضوح مسألة الهُوية في شريعتنا؛ فإن شريعة الإسلام لا تحاكي غيرها بل تتمايز تمايزًا واضحًا في كمالها وتمامها، وفضائلها وأحكامها، وعصمة منهجها وبقائها، وتظهر هُويتنا الإسلامية من خلال شهر المحرم من جوانب عدة منها:
1- أولاً: من خلال قضية الولاء والبراء:
إن المؤمن يوالي اللهَ ورسولَه والمؤمنين، ويتبرأ من الكفرِ والكافرين، قال الله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ . وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ . يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي ذَرٍّ: «أَيُّ عُرَى الْإِيمَانِ أَوْثَقُ؟» قَالَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «الْمُوَالَاةُ فِي اللهِ، وَالْمُعَادَاةُ فِي اللهِ، وَالْحُبُّ فِي اللهِ، وَالْبُغْضُ فِي اللهِ». أخرجه الطبراني وصححه الألباني.
ونحن مأمورون بمخالفة المشركين واليهود والنصارى، قال الله عز وجل: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ}، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فإنهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}، وقال سبحانه: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ}، وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَتَتَّبِعُنَّ سننَ مَنْ قبلكُمْ شبْرًا بشبرٍ وذراعاً بذراعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ.» قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: «فَمَنْ؟» مُتَّفق عَلَيْهِ، وهذا من باب الذم، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ». رَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وحسنه الألباني، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يَصبِغون فخالفوهم». متفق عليه، وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رضي الله عنه أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَالِفُوا الْيَهُودَ فَإِنَّهُمْ لَا يُصَلُّونَ فِي نِعَالِهِمْ وَلَا خِفَافِهِمْ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وصححه الألباني، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ: أَوْفِرُوا اللِّحَى وَأَحْفُوا الشَّوَارِبَ". متفق عليه، وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا إِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ فِيهِمْ لَمْ يُؤَاكِلُوهَا وَلَمْ يُجَامِعُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ، فَسَأَلَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا النِّكَاحَ»، فَبَلَغَ ذَلِكَ الْيَهُودَ، فَقَالُوا: مَا يُرِيدُ هَذَا الرَّجُلُ أَنْ يَدَعَ مِنْ أَمْرِنَا شَيْئًا إِلَّا خَالَفَنَا فِيهِ.. الحديث. رَوَاهُ مُسلم.
ولأن اليهود يعظمون يوم عاشوراء فنحن نخالفهم في هيئة التعبد، فإن كانوا يخصونه ويفردونه بالصيام فنحن نصوم يومًا قبله مخالفة لهم، فعَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أنه قَالَ: حِينَ صَامَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ يَوْمٌ يُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ إِنْ شَاءَ اللهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ»، قَالَ: فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. رَوَاهُ مُسلم، وفي رواية: «لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ لأصومن التَّاسِع»، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: صوموا التاسع والعاشر، وخالفوا اليهود. رواه الترمذي وصححه الألباني.
2- ثانيًا: من خلال قضية الاتباع وعدم الابتداع، والتمسك بالسنة ومخالفة أهل البدع:
نحن مأمورون بالاتباع وعدم الابتداع، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}، وقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، وعن العِرباض بنِ ساريةَ رضي الله عنه أنه قال: وعَظنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ موعظةً وَجِلتْ منها القلوبُ، وذَرَفَتْ منها العيونُ، فقلنا: يا رسولَ الله! كأنها موعظةُ مودِّعٍ، فأوصنا. قال: "أوصيكم بتقوى اللهِ، والسمع والطاعةِ، وإنْ تَأمَّر عليكم عبدٌ، وإنَّه من يعِشْ منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي، وسنةِ الخلفاء الراشدين المَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عليها بالنواجذِ، وإيَّاكم ومحدَثات الأمور، فإن كلَّ بدعة ضلالةٌ". رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وصححه الألباني، وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من أحْدَثَ في أمرِنا هذا ما ليس منه؛ فهو ردٌّ". رواه البخاري ومسلم.
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كُفِيْتُم، عليكم بالأمر العتيق.
وللمسلم أن يكثر من الصيام في شهر الله المحرم لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمِ وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ». رَوَاهُ مُسلم.
وله أن يخص يوم العاشر منه بالصيام، وهو يوم عاشوراء، لحديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أنه قَالَ: مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ إِلَّا هَذَا الْيَوْمَ: يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَهَذَا الشَّهْرُ يَعْنِي شَهْرَ رَمَضَان. متفق عليه.
هذا هو السنة والهدي في شهر المحرم ويوم عاشوراء، ولا يصح الزيادة على هذا بنحو اتخاذه يوم عيد أو فرح أو تخصيصه بشيء من العبادات التي لم تشرع فيه، بل هذا من فعل اليهود ثم النواصب فرحًا بمقتل الحسين رضي الله عنه، وكذا لا يشرع اتخاذه يوم حزن وكرب وشق للجيوب ولطم للخدود وجرح للأبدان وتقييدًا لها بالسلاسل، كما يفعل الشيعة الروافض.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وَصَارَ الشَّيْطَانُ بِسَبَبِ قَتْلِ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُحْدِثُ لِلنَّاسِ بِدْعَتَيْنِ: بِدْعَةَ الْحُزْنِ وَالنَّوْحِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، مِنَ اللَّطْمِ وَالصُّرَاخِ وَالْبُكَاءِ وَالْعَطَشِ وَإِنْشَادِ الْمَرَاثِي، وَمَا يُفْضِي إِلَيْهِ ذَلِكَ مِنْ سَبِّ السَّلَفِ وَلَعْنَتِهِمْ، وَإِدْخَالِ مَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ مَعَ ذَوِي الذُّنُوبِ، حَتَّى يُسَبَّ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ، وَتُقْرَأَ أَخْبَارُ مَصْرَعِهِ الَّتِي كَثِيرٌ مِنْهَا كَذِبٌ. وَكَانَ قَصْدُ مَنْ سَنَّ ذَلِكَ فَتْحَ بَابِ الْفِتْنَةِ وَالْفُرْقَةِ بَيْنَ الْأُمَّةِ ; فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ وَاجِبًا وَلَا مُسْتَحَبًّا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ إِحْدَاثُ الْجَزَعِ وَالنِّيَاحَةِ لِلْمَصَائِبِ الْقَدِيمَةِ مِنْ أَعْظَمِ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَكَذَلِكَ بِدْعَةُ السُّرُورِ وَالْفَرَحِ. انتهى كلامه ويقصد به الرافضة والناصبة.
وكذا لا يجوز فيه ولا في غيره شد الرحال إلى القبور والأضرحة، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَمَسْجِدِي هَذَا». متفق عليه، وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي لَمْ يَقُمْ مِنْهُ: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِد». يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا. رواه البخاري، وَعَن جُنْدُب رضي الله عنه أنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «أَلَا وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ». رَوَاهُ مُسلم.
إن الأموات لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًا فضلاً عن أن يملكوه لغيرهم، فلا يجوز أن تشد إليهم الرحال، ولا يصرف لهم شيء من العبادات، فلا يدعون مع الله، ولا يتوسل بهم، ولا يستغاث بهم، ولا يطلب منهم قضاء الحاجات وكشف الكربات، ولا يذبح لهم ولا عندهم، ولا ينذر لهم، ولا يتبرك بهم، ونحو ذلك، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ . إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}.
وكذا لا يجوز تخصيص أول ليلة من الشهر ولا أول يوم بعبادة ما بنية افتتاح العام مثلاً، كما لا يجوز هذا في آخر يوم من السنة، وكذا لا يجوز اتخاذه عيدًا على نحو اتخاذ النصارى لرأس السنة، فهذا بدعة وتشبه واتباع لسنن الضالين، فليس لبداية السنة الهجرية عبادة ولا عيد ولا احتفال، ولم يُؤثر عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ولا عن أحدٍ من أصحابِهِ رضوان الله عليهم ولا عن السَّلفِ الصَّالحِ من التابعين وتابعيهم، ولا عن أئمة الأمة وعلمائِها من الأئمةِ الأربعةِ وغيرهم رحمهم الله؛ فلم يثبت عنهم قط أنهم احتفلوا بهذا، ولكن حدث ذلك بعد القرون المفضلة، وأول من احتفل برأس السنة الهجرية حكام الدولة العُبيديَّةِ -الفاطميَّةِ- في مصر. ذكر ذلك المقريزيُّ في خِطَطه ضمن الأيام التي كان العُبيديُّون يتخذونها أعياداً ومواسم.
3- ثالثًا: من خلال العمل بالتاريخ الإسلامي والتقويم الهجري ومطالع الأهلة:
قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ}، أي: هو الَّذي جعل الشمس تشع الضوء وتنشره، وجعل القمر نورًا يُسْتَنار به، وقَدَّرَ سيره بعدد منازله الثماني والعشرين، والمنزلة هي المسافة التي يقطعها كل يوم وليلة؛ لتعلموا -أيها الناس- بالشمس عدد الأيام، وبالقمر عدد الشهور والسنين، وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}، أي: يسألونك -أيها الرسول- عن تكوين الأهلة وتغير أحوالها، قل مجيبًا إياهم عن حكمة ذلك: إنها مواقيت للناس، يعرفون بها أوقات عباداتهم؛ كأشهر الحج، وشهر الصيام، وتَمَام الحَوْل في الزكاة، ويعرفون أوقاتهم في المعاملات؛ كتحديد آجال الديات والديون.
وقد اتفقت كلمة المسلمين على العمل بالتاريخ الهجري، والذي بدأ الاعتداد به من السنة الأولى للهجرة النبوية على صاحبها الصلاة والسلام، وأن بداية العام الهجري هي شهر المحرم وخاتمته شهر ذي الحجة، وهذا الاعتداد وسيلة لضبط الأيام والسنين والأعمال والأحداث ونحو ذلك، وليس لتشريع أنواع من العبادات لم يشرعها الله تعالى.
4- رابعًا: من خلال قضية الأحق بالأنبياء، فنحن أولى بالأنبياء من غيرنا، ونحن أتباع الأنبياء وأنصارهم، وليس على وجه الأرض اليوم من يتبع الأنبياء حقًا سوى أهل الإسلام أهل التوحيد الخالص:
قال تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ}، وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ الْمَدِينَةِ فَوَجَدَ الْيَهُودَ صِيَامًا يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي تَصُومُونَهُ؟» فَقَالُوا: هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ: أَنْجَى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى وَقَوْمَهُ وَغَرَّقَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ فَصَامَهُ مُوسَى شُكْرًا فَنَحْنُ نَصُومُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَنَحْنُ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ»، فَصَامَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَ بصيامه. متفق عليه.
5- خامسًا: من خلال سنن الله الكونية في العواقب: فإن من سنن الله التي لا تتغير أن النجاة وحسن العاقبة إنما هي للمتقين، وأن الهلاك وسوء العاقبة للظالمين.
قال تعالى: {إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ}، وقال تعالى: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}، وقال تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}.
وتأمل كيف كانت نجاة موسى عليه السلام وقومه، وكيف كان هلاك فرعون وقومه، بعد ما كان من صراع طويل بين الحق والباطل حتى ظهر الحق وانتصر؟
نجى الله تعالى موسى عليه السلام ومن معه من المؤمنين، وأهلك فرعون ومن معه من الجنود الظالمين، وظهر الحق الذي لا يسع أحد تركه، فاستكبر فرعون وملؤه عن الإذعان والاستسلام، {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ}، أوحى الله تعالى إلى موسى أن يخرج هو ومن معه من المؤمنين، {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ}، وأرسل فرعون في المدائن بالتنكيل والتحذير، {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ . إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ . وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ . وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ}، فخرج موسى بالمؤمنين وبشرهم بنصر الله وفرجه، {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ . قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}، توجه موسى عليه السلام ومن معه إلى البحر، وكله يقين ورجاء وحسن ظن بالله تعالى، واتبعه فرعون وجنوده ظلمًا وبغيًا وعدوانًا، فأمر الله تعالى موسى عليه السلام أن يضرب بعصاه البحر وأن يعبر هو ومن معه، وأمر البحر أن يطبق على فرعون ومن معه، قال تعالى: {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ . فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ . قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ . فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ . وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ . وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ . ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ . إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ . وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}، وقال سبحانه: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ . وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى}، وقال عز وجل: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ . آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ . فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ}، وهذا اليوم العظيم الذي نجّى الله تعالى فيه موسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقومه من فرعون وجنده هو يوم عاشوراء كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
6- سادسًا: من خلال قضية اليقين بموعود الله، والثقة فيما عند الله، والتعلق بالله واليأس من الأسباب:
قال الله عز وجل: {فلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ . قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ . فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ . وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ . وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ . ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ}.
فما أعظم يقين موسى عليه السلام! وما أعظم ثقته بالله وتوكله على الله! وما أعظم تعلقه بربه وحسن ظنه به!
إن الأسباب مهما بلغت خذالة، إلا أن ترتبط بالوحي، فلا يجوز الاتكال عليها، وإسناد الأمر إليها، وفي الحديث: «مَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِليهِ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وحسنه الألباني، ومعناه: أَن مَنْ تَعَلَّقَ بِشَيْءٍ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى وُكِلَ إِلَيْهِ وَجُعِلَ أَمْرُهُ لَدَيْهِ، وَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ كَفَاهُ أَمْرَ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، وَأَغْنَاهُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ مِمَّا سِوَاهُ.
فمن تعلق بالأسباب أيًا كانت تُرك إليها فهل تغني عنه من الله شيئًا؟! كلا؛ بخلاف تعلق بالله فذاك الذي يفوز برضوان الله وفضله وإنعامه وإحسانه.
مع تحيات
اللجنة العلمية لملتقى الخطيب المؤثر أسد المنابر