عنوان الخطبة ((هاجر بين قسوة الواقع وقوة اليقين))
الهدف من الخطبة بيان ترغيب ترهيب تذكير.
عناصر الموضوع
1) هجرة الخليل وأهله إلى مكة.
2) هاجر تعلمنا اليقين والثقة بالله.
3) إن الله لا يضيع أهله.
هاجر بين قسوة الواقع وقوة اليقين
المقدمة: أما بعد، قال الله تعالى: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ).
بين يدي الخطبة:
هجرة الخليلُ وأهلُه إلى مكة
كما ذكر القرآن عن الخليل إبراهيم صلى الله عليه وسلمَ أنه هاجر بأهله إلى مكة ودعا فقال: ربنا إني أسكنت بعض ذريتي، وهم ولدي إسماعيل ومن يولد له بوادٍ -وهو مكة- لا زرع فيه ولا ماء بجوار بيتك المحرم، ربنا أسكنتهم بجواره ليقيموا الصلاة فيه، فاجعل يا رب قلوب الناس تَحنُّ إليهم، وإلى هذا البلد، وارزقهم من الثمرات رجاء أن يشكروك على إنعامك عليهم.
وجاء في سنة النبي صلى الله عليه وسلمَ بيان هذا وتفصيله؛ فعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ رحمه الله أنه قال: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَوَّلَ مَا اتَّخَذَ النِّسَاءُ المِنْطَقَ مِنْ قِبَلِ أُمِّ إِسْمَاعِيلَ، اتَّخَذَتْ مِنْطَقًا لِتُعَفِّيَ أَثَرَهَا عَلَى سَارَةَ، ثُمَّ جَاءَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ وَبِابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُرْضِعُهُ، حَتَّى وَضَعَهُمَا عِنْدَ البَيْتِ عِنْدَ دَوْحَةٍ، فَوْقَ زَمْزَمَ فِي أَعْلَى المَسْجِدِ، وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ، وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ، فَوَضَعَهُمَا هُنَالِكَ، وَوَضَعَ عِنْدَهُمَا جِرَابًا فِيهِ تَمْرٌ، وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ، ثُمَّ قَفَّى إِبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا، فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ فَقَالَتْ: يَا إِبْرَاهِيمُ أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الوَادِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلاَ شَيْءٌ؟ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا، وَجَعَلَ لاَ يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُ: آللَّهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: إِذَنْ لاَ يُضَيِّعُنَا، ثُمَّ رَجَعَتْ، فَانْطَلَقَ إِبْرَاهِيمُ حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لاَ يَرَوْنَهُ، اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ البَيْتَ، ثُمَّ دَعَا بِهَؤُلاَءِ الكَلِمَاتِ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: "رَبِّ (إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ) حَتَّى بَلَغَ: (يَشْكُرُونَ)" وَجَعَلَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ تُرْضِعُ إِسْمَاعِيلَ وَتَشْرَبُ مِنْ ذَلِكَ المَاءِ، حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا فِي السِّقَاءِ عَطِشَتْ وَعَطِشَ ابْنُهَا، وَجَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ يَتَلَوَّى -أَوْ قَالَ: يَتَلَبَّطُ- فَانْطَلَقَتْ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَوَجَدَتِ الصَّفَا أَقْرَبَ جَبَلٍ فِي الأَرْضِ يَلِيهَا، فَقَامَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَتِ الوَادِيَ تَنْظُرُ هَلْ تَرَى أَحَدًا فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، فَهَبَطَتْ مِنَ الصَّفَا حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الوَادِيَ رَفَعَتْ طَرَفَ دِرْعِهَا، ثُمَّ سَعَتْ سَعْيَ الإِنْسَانِ المَجْهُودِ حَتَّى جَاوَزَتِ الوَادِيَ، ثُمَّ أَتَتِ المَرْوَةَ فَقَامَتْ عَلَيْهَا وَنَظَرَتْ هَلْ تَرَى أَحَدًا فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، فَفَعَلَتْ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَذَلِكَ سَعْيُ النَّاسِ بَيْنَهُمَا»، فَلَمَّا أَشْرَفَتْ عَلَى المَرْوَةِ سَمِعَتْ صَوْتًا، فَقَالَتْ صَهٍ -تُرِيدُ نَفْسَهَا-، ثُمَّ تَسَمَّعَتْ فَسَمِعَتْ أَيْضًا فَقَالَتْ: قَدْ أَسْمَعْتَ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ غِوَاثٌ، فَإِذَا هِيَ بِالْمَلَكِ عِنْدَ مَوْضِعِ زَمْزَمَ، فَبَحَثَ بِعَقِبِهِ -أَوْ قَالَ: بِجَنَاحِهِ- حَتَّى ظَهَرَ المَاءُ، فَجَعَلَتْ تُحَوِّضُهُ وَتَقُولُ بِيَدِهَا هَكَذَا، وَجَعَلَتْ تَغْرِفُ مِنَ المَاءِ فِي سِقَائِهَا وَهُوَ يَفُورُ بَعْدَ مَا تَغْرِفُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَرْحَمُ اللَّهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ، لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ -أَوْ قَالَ: لَوْ لَمْ تَغْرِفْ مِنَ المَاءِ-، لَكَانَتْ زَمْزَمُ عَيْنًا مَعِينًا»، قَالَ: فَشَرِبَتْ وَأَرْضَعَتْ وَلَدَهَا، فَقَالَ لَهَا المَلَكُ: لاَ تَخَافُوا الضَّيْعَةَ، فَإِنَّ هَا هُنَا بَيْتَ اللَّهِ، يَبْنِي هَذَا الغُلاَمُ وَأَبُوهُ، وَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَهْلَهُ، وَكَانَ البَيْتُ مُرْتَفِعًا مِنَ الأَرْضِ كَالرَّابِيَةِ، تَأْتِيهِ السُّيُولُ، فَتَأْخُذُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ، فَكَانَتْ كَذَلِكَ حَتَّى مَرَّتْ بِهِمْ رُفْقَةٌ مِنْ جُرْهُمَ، أَوْ أَهْلُ بَيْتٍ مِنْ جُرْهُمَ، مُقْبِلِينَ مِنْ طَرِيقِ كَدَاءٍ، فَنَزَلُوا فِي أَسْفَلِ مَكَّةَ فَرَأَوْا طَائِرًا عَائِفًا، فَقَالُوا: إِنَّ هَذَا الطَّائِرَ لَيَدُورُ عَلَى مَاءٍ، لَعَهْدُنَا بِهَذَا الوَادِي وَمَا فِيهِ مَاءٌ، فَأَرْسَلُوا جَرِيًّا أَوْ جَرِيَّيْنِ فَإِذَا هُمْ بِالْمَاءِ، فَرَجَعُوا فَأَخْبَرُوهُمْ بِالْمَاءِ فَأَقْبَلُوا، قَالَ: وَأُمُّ إِسْمَاعِيلَ عِنْدَ المَاءِ، فَقَالُوا: أَتَأْذَنِينَ لَنَا أَنْ نَنْزِلَ عِنْدَكِ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ، وَلَكِنْ لاَ حَقَّ لَكُمْ فِي المَاءِ، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَأَلْفَى ذَلِكَ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُحِبُّ الإِنْسَ»، فَنَزَلُوا وَأَرْسَلُوا إِلَى أَهْلِيهِمْ فَنَزَلُوا مَعَهُمْ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِهَا أَهْلُ أَبْيَاتٍ مِنْهُمْ، وَشَبَّ الغُلاَمُ وَتَعَلَّمَ العَرَبِيَّةَ مِنْهُمْ، وَأَنْفَسَهُمْ وَأَعْجَبَهُمْ حِينَ شَبَّ، فَلَمَّا أَدْرَكَ زَوَّجُوهُ امْرَأَةً مِنْهُمْ، وَمَاتَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ، فَجَاءَ إِبْرَاهِيمُ بَعْدَمَا تَزَوَّجَ إِسْمَاعِيلُ يُطَالِعُ تَرِكَتَهُ، فَلَمْ يَجِدْ إِسْمَاعِيلَ، فَسَأَلَ امْرَأَتَهُ عَنْهُ، فَقَالَتْ: خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا، ثُمَّ سَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ، فَقَالَتْ: نَحْنُ بِشَرٍّ، نَحْنُ فِي ضِيقٍ وَشِدَّةٍ، فَشَكَتْ إِلَيْهِ، قَالَ: فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلاَمَ، وَقُولِي لَهُ يُغَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِهِ، فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ كَأَنَّهُ آنَسَ شَيْئًا، فَقَالَ: هَلْ جَاءَكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، جَاءَنَا شَيْخٌ كَذَا وَكَذَا، فَسَأَلَنَا عَنْكَ فَأَخْبَرْتُهُ، وَسَأَلَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا، فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّا فِي جَهْدٍ وَشِدَّةٍ، قَالَ: فَهَلْ أَوْصَاكِ بِشَيْءٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ السَّلاَمَ، وَيَقُولُ غَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِكَ، قَالَ: ذَاكِ أَبِي، وَقَدْ أَمَرَنِي أَنْ أُفَارِقَكِ، الحَقِي بِأَهْلِكِ، فَطَلَّقَهَا، وَتَزَوَّجَ مِنْهُمْ أُخْرَى، فَلَبِثَ عَنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَتَاهُمْ بَعْدُ فَلَمْ يَجِدْهُ، فَدَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ فَسَأَلَهَا عَنْهُ، فَقَالَتْ: خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا، قَالَ: كَيْفَ أَنْتُمْ؟ وَسَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ، فَقَالَتْ: نَحْنُ بِخَيْرٍ وَسَعَةٍ، وَأَثْنَتْ عَلَى اللَّهِ، فَقَالَ: مَا طَعَامُكُمْ؟ قَالَتِ اللَّحْمُ، قَالَ فَمَا شَرَابُكُمْ؟ قَالَتِ المَاءُ. قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي اللَّحْمِ وَالمَاءِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ حَبٌّ، وَلَوْ كَانَ لَهُمْ دَعَا لَهُمْ فِيهِ». قَالَ: فَهُمَا لاَ يَخْلُو عَلَيْهِمَا أَحَدٌ بِغَيْرِ مَكَّةَ إِلَّا لَمْ يُوَافِقَاهُ، قَالَ: فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلاَمَ، وَمُرِيهِ يُثْبِتُ عَتَبَةَ بَابِهِ، فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ قَالَ: هَلْ أَتَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، أَتَانَا شَيْخٌ حَسَنُ الهَيْئَةِ، وَأَثْنَتْ عَلَيْهِ، فَسَأَلَنِي عَنْكَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَسَأَلَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّا بِخَيْرٍ، قَالَ: فَأَوْصَاكِ بِشَيْءٍ، قَالَتْ: نَعَمْ، هُوَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلاَمَ، وَيَأْمُرُكَ أَنْ تُثْبِتَ عَتَبَةَ بَابِكَ، قَالَ: ذَاكِ أَبِي وَأَنْتِ العَتَبَةُ، أَمَرَنِي أَنْ أُمْسِكَكِ، ثُمَّ لَبِثَ عَنْهُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِسْمَاعِيلُ يَبْرِي نَبْلًا لَهُ تَحْتَ دَوْحَةٍ قَرِيبًا مِنْ زَمْزَمَ، فَلَمَّا رَآهُ قَامَ إِلَيْهِ، فَصَنَعَا كَمَا يَصْنَعُ الوَالِدُ بِالوَلَدِ وَالوَلَدُ بِالوَالِدِ، ثُمَّ قَالَ يَا إِسْمَاعِيلُ، إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بِأَمْرٍ، قَالَ: فَاصْنَعْ مَا أَمَرَكَ رَبُّكَ، قَالَ: وَتُعِينُنِي؟ قَالَ: وَأُعِينُكَ، قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ هَا هُنَا بَيْتًا، وَأَشَارَ إِلَى أَكَمَةٍ مُرْتَفِعَةٍ عَلَى مَا حَوْلَهَا، قَالَ: فَعِنْدَ ذَلِكَ رَفَعَا القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ، فَجَعَلَ إِسْمَاعِيلُ يَأْتِي بِالحِجَارَةِ وَإِبْرَاهِيمُ يَبْنِي، حَتَّى إِذَا ارْتَفَعَ البِنَاءُ، جَاءَ بِهَذَا الحَجَرِ فَوَضَعَهُ لَهُ فَقَامَ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَبْنِي وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الحِجَارَةَ، وَهُمَا يَقُولاَنِ: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ)، قَالَ: فَجَعَلاَ يَبْنِيَانِ حَتَّى يَدُورَا حَوْلَ البَيْتِ وَهُمَا يَقُولاَنِ: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ). رواه البخاري.
هاجر تعلمنا اليقين والثقة بالله تعالى
لقد ضَرَبتْ هَاجَرُ عليها السلام مثلاً رائعًا للمؤمنينَ والمؤمنات في اليقينِ والثِّقَةِ باللهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ فَقَد تَرَكَها إبراهيمُ عليه السلام هِي ورَضِيعَهَا إسماعيلَ عليهما السلام في صَحَرَاء جَرْدَاء ليس فيها زرع ولا ماء ولا مقومات للحياة، ولا يمكن لإبراهيمَ عليه السلام أن يَفْعَلَ هذا بِوَلَدِه وأمِّ وَلَدِه هَكَذا! ومِن ثَمَّ أيقنتْ هَاجَرُ أنه عليه السلام لا يَفْعَل هذا إلا بوحي، فَسَأَلَتْهُ سُؤَالًا تقريريًّا: "آللهُ أَمَرَكَ بهذا؟!"، فلما قال لها: "نَعَم"، فقالت تلك الكلمة الإيمانية البليغة: "إِذنْ لَا يُضَيِّعُنَا!".
يا لها مِن كَلِمَةٍ رائعةٍ تُلخِّص حالَ القلبِ العَامِر بالإيمان، وثِقَتِه بالله، ومما يزيد في رَوْعَتِها: أن تَخْرُجَ مِن امرأةٍ تنتظِر المجهولَ لها ولطفلِها! لكنها على يقين عظيم أن الله تعالى قدَّر لهم الخير، وأنه تعالى لا يضيع أهله، فها هي هاجر تأخذ بالأسباب المتاحة، فترضع ولدها، وتشرب من سقاء الماء، وتأكل من جراب التمر، حتى نفد ذلك الزاد، وعطشت وعطش ولدها وجعل يتلوى من الجوع، وها هي تأخذ بالأسباب الممكنة، فتذهب فتسعى وتبحث عن زاد أو غوث، مع ما في قلبها من يقين ثابت أن الله تعالى لن يضيعَها ولن يضيع ولدَها.
فكان مِن بَرَكَةِ يقينها وثِقَتِها بالله: أن أرسلَ اللهُ لها مَلَكًا يَحْفر لها "بئر زمزم" تحت رجل وَلِيدِها، وليؤكِّد لها حُسْنَ ظَنِّها بالله، وليكرر عليها: "إِنَّ اللهَ لَا يُضَيِّعُ أَهْلَهُ".
وكان من بركة ذلك: أن كتب الله على الناس السعي بين الصفا والمروة، وجعلهما من مناسك الحج والعمرة المتعبد بها لله تعالى.
وكان من بركة ذلك: أن توافد الناس إلى مكة وينزلوا على أم إسماعيل ويستأذنوها في الإقامة بمكة فتأذن لهم، وتصير مكة مجتمعًا جديدًا يَنْعَم بالحياة.
وكان من بركة ذلك: أن كانت بئر زمزم مُبَارَكَة ينَهَل الناس منها قديمًا وحديثًا، فهي "طعام طُعم، وشِفَاء سُقم".
إن هذه الثقة البالغة واليقين العظيم من هاجر عليها السلام تذكر المؤمنين والمؤمنات وتحثهم على التمسك بالمنهج الإسلامي المعصوم، كتابًا وسنة، عقيدة وعملاً وسلوكًا، وأن يتيقنوا أن الله تعلاى يحفظ أهله ولا يضيعهم أبدًا.
إن الله لا يضيع أهله
إِنَّ اللهَ لَا يُضَيِّعُ أَهْلَهُ: فَيَلْطُف بهم في قضائه وقَدَرِه، وإن قَدَّر عليهم مَكْرُوهًا أفرغ عليهم صَبْرًا، "إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ".
قال شيخُ الإسلامِ رحمه الله تعالى: وَكُلُّ مَنْ وَافَقَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرٍ خَالَفَ فِيهِ غَيْرَهُ، فَهُوَ مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ذَلِكَ، وَلَهُ نَصِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ: (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)؛ فَإِنَّ الْمَعِيَّةَ الْإِلَهِيَّةَ الْمُتَضَمِّنَةَ لِلنَّصْرِ هِيَ لِمَا جَاءَ بِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ وَهَذَا قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَقَدْ رَأَيْنَا مِنْ ذَلِكَ وَجَرَّبْنَا مَا يَطُولُ وَصْفُهُ.
إن اليقين والثقة بالله تعالى منهج حياة للمؤمنين والمؤمنات، فيتمسكون بدين الله ثقة في الله ورجاءً لثوابه، ويطبقون شرعه ثقة في نصره ووعده، ويدعون الناس إلى ذلك حبًا في هدايتهم وطمعًا في الأجر من الله تعالى.
إِنَّ اللهَ لَا يُضَيِّعُ أَهْلَهُ: فيخرجهم من الظلماتِ إلى النورِ، بل كل مَن لم يكن مِن أهلِ الله، ومِن أتباع شريعةِ رسول الله صلى الله عليه وسلمَ؛ فهو ضَائِعٌ في بحورٍ متلاطمةٍ مِن الشبهاتِ والشهواتِ، (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).
وبِقَدْر هذا الابتعادِ عن شَرِيعَتِه صلى الله عليه وسلمَ بِقَدْر ما يكون الضَّيَاعُ والغَرَق في بحورِ وظلماتِ الضلالاتِ والخرافاتِ؛ فلا يمكن أن يكونَ مهتديًا في نورِ الكتابِ والسنةِ، مَن اتَّبَع أو دَعَا إلى خِلَاف ما جاء به الرسولُ صلى الله عليه وسلمَ مِن التَّوجُّه إلى اللهِ تبارك وتعالى وَحْدَه، وصَرْفِ عباداتِ القلبِ والجوارحِ له دون مَن سواه ممَّن يُدْعَون مِن دونهِ وتُصْرَف لهم الدعوات والنذور، بل والخوف والرجاء، مع عدم تسمية ذلك عبادة لهم، وإنما توسلٌ بهم إلى الله وتبرك بهم، وهذا ما قاله الكفار الأولون: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)؛ فلم ينفعهم ذلك عند الله، وردَّ اللهُ عليهم بقوله: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا . أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا).
أوْ مَنْ كان يلجأ إلى غيرِ اللهِ سبحانه وتعالى؛ بزعم أنهم أولياءُ متصرِّفون في الكونِ أَوْكَلَ اللهُ إليهم ذلك، أو يُعتقَد فيهم النفعَ والضرَّ؛ بزعم أن اللهَ أقدرهم على ذلك كَرَامةً لهم! وقد قال تعالى: (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ . إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ)، وقال عز وجل: (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ . وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ . قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ . قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي . فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ).
إن الله تعالى لا يضيع مَن اتَّبع شرعه، بل مَن أعرض عنه تكون حياته ضنكًا: قال الله تعالى: (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى . وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى).
ومِن تَمَام إيمانِ المؤمن بالله وثِقَتِه في اللهِ: أن يثقَ أن شَرْعَ اللهِ هو الذي يكفلُ له السعادةَ والهناءَ، وأن أي مخالفةٍ لشرعِ اللهِ وإن كان فيها شهوةٌ عاجلةٌ؛ إلا أن عواقبها وخيمةٌ؛ فإن اللهَ تعالى لا يُحَرِّم شيئًا إلا إذا كان خبيثًا أو كان الغالبُ عليه الخَبَث، كما قال تعالى في صفةِ النبي صلى الله عليه وسلمَ: (يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ)، وقال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا).
إن المسلم والمسلمة يُدْرِكان أن اللهَ حَكَمٌ عَدْلٌ، ويثقان في شرعه تعالى أيَّما ثِقَةٍ، فإذا جاءَ الشرعُ بحقٍّ لأي منهما؛ عَلِم أنه حقٌّ كَتَبه اللهُ له فيأخذه ونفسُه مطمئنة، وإذا كتب عليه واجبًا يتعلَّق بحقِّ الغير عَلِم أن هذا الحق يجب أن يؤدَّى، وأن مصلحةَ الفردِ والمجتمعِ والأسرةِ في هذا، وفوق هذا فإنه عندما يؤديه، يأخذ الأجرَ عند الله.
إن الله تعالى لا يضيع مَن اتَّبع شرعه: قالت هاجرُ عليها السلام -وكلها ثِقَة بالله- في أمرٍ قَدَريٍّ: "إِذن لَا يُضَيِّعُنَا!"؛ رغم أنها كانت بالفعل في مصيبةٍ لا تدري على ماذا سينتهي بها أمرها؟! لكنها قالت ذلك؛ ثِقَة بربها عز وجل.
ومِن باب أولى: ثِقَة المؤمناتِ في شرعِ اللهِ، وتسليمهن له، وهكذا كانت الصحابيات الجليلات، فهذه أم المؤمنين عائشةَ رضي الله عنها تقول: إنَّ لِنِسَاءَ قريشٍ لفَضْلًا، وإنِّي -والله- ما رأيتُ أفضلَ مِن نِسَاءِ الأنصارِ أشدَّ تصديقًا لكتابِ الله، ولا إيمانًا بالتنزيلِ؛ لقد أنزلتْ سورةُ النور: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ)، انْقَلَبَ رِجَالُهُنَّ إِلَيْهِنَّ يَتْلُونَ عَلَيْهِنَّ مَا أُنْزِلَ إليهن فيها، ويَتْلو الرَّجُلُ عَلَى امْرَأَتِهِ وَابْنَتِهِ وَأُخْتِهِ، وَعَلَى كُلِّ ذِي قَرَابَتِهِ، مَا مِنْهُنَّ امْرَأَةٌ إِلا قَامَتْ إِلَى مِرْطِهَا الْمُرَحَّلِ فَاعْتَجَرَتْ بِهِ تَصْدِيقًا وَإِيمَانًا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابِهِ، فَأَصْبَحْنَ يُصَلِّينَ وَرَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم معْتجِراتٍ كأنَّ على رُؤوسِهِنَّ الغِرْبَان".
نعم، هذا الحِجَاب أَمَرَ اللهُ به، وحَمَل الرجالُ الذي يُدْرِكون معنى القوامةِ على حقيقتِها -مِن: الحِفْظِ والرِّعَايةِ والقِيَامِ بالأمرِ- هذا الأمرَ إلى زوجاتِهم، فما كان منهن إلا أن ابتدرنَ التنفيذَ؛ إيمانًا وتصديقًا.
قال الله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَٰلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا"؛ هذا خطاب مِن الله عز وجل، وليس اختراعَ الفقهاء، ولا تعليمات الأب، ولا الأخ، ولا الزوج، وإن كان يلزم كلَّ واحدٍ أن يرشدَ أهل بيته إلى كلِّ خيرٍ، فهل نثق في شرع الله تعالى؟!
إن المعركة القائمة منذ جاءت رياح التغريب إنما هي دائرة "حول عقل المرأة المسلمة"؛ فأعداؤنا يريدون احتلاله، فهم يعلمون أن المرأة المسلمة إن اتبعت أهواءهم؛ فقد فَسَد المجتمع وفسدت الذرية؛ ولذلك خاطبها المصلحون بهذا النداء: أنتِ نصف المجتمع، وتلدين لنا النصف الآخر؛ فأنت مجتمع بأسره.
فعلى المرأة أن تتقي اللهَ وتكون أداةً لرفعةِ الدين والأمة، وأن تنشر الوعي بدينِ اللهِ وعظمةِ تشريعاتِهِ في حقِّ المجتمعِ ككلٍّ، وفي حقِّ المرأةِ خصوصًا، ويكفي أن المرأة: كبنتٍ، أو أختٍ، أو زوجة، أو أم، تعيش وهي متبعةٌ لشرعِ اللهِ، وهي في هذا كله تبتغي رضا الله تعالى والدارَ الآخرة؛ وتسير في رَكْبٍ في مقدِّمَتِه: مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وعائشة، وحفصة، وسائر أمهات المسلمين -رضوان الله عليهن-.
إن المجتمعَ الإسلامي -بفضل الله تعالى- لو طَبَّق كلَّ الأحكامِ الشرعية؛ فسيكون مجتمعًا متماسكًا، بخلاف المجتمعات الغربية التي هَدَموا فيها دورَ الأسرة إلى درجةٍ كبيرةٍ؛ بحيث إن مسئولية الآباء عن الأبناء تنتهي بمجرد انتهاء تعليمهم -على أقصى درجة- إن لم يكن قبل هذا بكثيرٍ!
نسأل الله تعالى القبول والتوفيق والسداد .
مع تحيات
اللجنة العلمية لملتقى الخطيب المؤثر أسد المنابر