خطبة عيد الأضحى المقترحة لعام 1443 هـ
عنوان الخطبة ((مقاصد حج بيت الله الحرام))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}
ثم أما بعد أيضًا، فالله أكبر الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، لله الحمد على أن خلقنا ورزقنا، ولله الحمد على أن هدانا للإسلام، ولله الحمد على أن جعلنا في خير أمة أخرجها للناس، ولله الحمد على أن شرع لنا الشرائع التي متى التزمنا بها رضِي عنا ورحمنا، ولله الحمد أن أمرنا بعبادته وحده لا شريك له، ولله الحمد على أن أمرنا باتباع نبيه محمد صلى الله عليه وسلم سيد الأولين والآخرين، وجعل دخول الجنة في الآخرة لمن كان في طريقه من السالكين، ولشريعته من المتبعين، ولله الحمد أن شرع لنا الصلاة والزكاة والصيام، والحمد لله أن شرع لنا حجَّ بيته الحرام، وجعل الحج سببًا لمغفرة السيئات، ورفعِ الدرجات، والعتق من النار، ودخولِ الجنات.
إن من حكمة الله تعالى في شريعته أن جعل للعبادات التي شرعها لنا مقاصد نحقق من خلالها كمال العبودية التي خلقنا الله من أجلها.
وإن لحج بيت الله الحرام مقاصد عظيمة، نتعلمها من خلال حج النبي صلى الله عليه وسلم ، حجة الوداع.
و قد جاءت من خلال ستة مقاصد:
المقصد الأول: تدريب الأمة على أسمى معانى التوحيد.
والتوحيد يقوم على توحيد المعبود تبارك وتعالى، وتوحيد المتبوع صلى الله عليه وسلم.
وتوحيد الرب تبارك وتعالى يقوم على إفراده بالعبادة وحده لا شريك له، والكفر بما يُعبد من دونه.
ومظاهر ذلك كثيرة، منها:
1- أمر الله تعالى عباده بالإخلاص في الحج والعمرة، قال الله تعالى عند الأمر بإتمام الحج والعمرة: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]. أي: مخلصين فيهما لله وحده؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا، وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ» ابن حبان، صححه الألباني.
2- تبرؤ النبي صلى الله عليه وسلم من الرياء والسمعة في الحج، فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "حَجَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَحْلٍ رَثٍّوَقَطِيفَةٍ تُسَاوِي أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ حَجَّةٌ لَا رِيَاءَ فِيهَا وَلَا سُمْعَةَ». ابن ماجه، صححه الألباني.
3- تلبية النبي صلى الله عليه وسلم بالحج المشتملة على شعار التوحيد: «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ» متفق عليه.
4- إقامة التوحيد غاية من غايات بناء الكعبة، قال الله تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26].
والثبات على التوحيد أعظم واجب على المكلفين، وبذلك أرسل الله الرسل الكرام، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].
وقال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].
وذلك لأن الشرك أعظم الظلم، قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].
والشرك محبط للأعمال، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65]. وقال الله تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 88].
والشرك سبب للحرمان من الجنة والخلود في النار، قال الله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72].
والطهارة من الشرك سبب لمغفرة السيئات ودخول الجنات، فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ، وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً". الترمذي وصححه الألباني.
- وتوحيد المتبوع: باتباع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأوامر والنواهي.
كما أن مبناه على السمع والطاعة لله ولرسوله.
وذلك من خلال القاعدة النبوية التي أرساها النبي صلى الله عليه وسلم لأمته في الحج بقوله: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» مسلم، والبيهقي، واللفظ له.
وشأن الحج في ذلك شأن كل العبادات، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة: «وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» متفق عليه.
ويتجلى ذلك في فعل عمر صلى الله عليه وسلم ، فَعَنْ عَابِسِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه: أَنَّهُ جَاءَ إِلَى الحَجَرِ الأَسْوَدِ فَقَبَّلَهُ، فَقَالَ: «إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ، لاَ تَضُرُّ وَلاَ تَنْفَعُ، وَلَوْلاَ أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ» البخاري.
وكذلك في فعل علي رضي الله عنه ، فَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه: قَدِمَ عَلَيْنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مِنَ اليَمَنِ حَاجًّا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «بِمَ أَهْلَلْتَ؟، فَإِنَّ مَعَنَا أَهْلَكَ» قَالَ: أَهْلَلْتُ بِمَا أَهَلَّ بِهِ النَّبِيُّ . متفق عليه.
وقد جاءت النصوص الكثيرة في الأمر بالاتباع والحث عليه، منها:
قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31].
وقال الله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158].
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أعظم الهداة إلى الحق، قال الله تعالى: {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [يونس: 35].
وقال الله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3].
والله تعالى يبين لنا جزاء صحابة نبيه صلى الله عليه وسلم حينما اتبعوه في أعظم أوقات الشدة، قال الله تعالى:
{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 117].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ بَعْدِي عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ».
وكما أُمِرْنا بالاتباع، فقد نُهِينا عن الابتداع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ، فَهُوَ رَدٌّ» متفق عليه.
- وإن من أعظم معاني الاتباع الواجبة أن نرد الحكم لله تعالى ورسوله، قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59].
وقال الله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى: 10].
و قال الله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 40].
المقصد الثاني: تدريب الأمة على أسمى معانى التزكية.
والتزكية: تحلي النفس بالطاعة، وتخليها عن المعاصي.
ومظاهر التزكية في الحج كثيرة، منها:
قال الله تعالى آمرًا الحجاج بفعل الخير، والتزود بالتقوى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 197].
وقد رغب النبي في الحج المبرور –وهو الذي لم يخالطه إثم- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «العُمْرَةُ إِلَى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الجَنَّةُ» متفق عليه.
وقد سن النبي التلبية للحجاج، وأمره الله تعالى أن يأمر أصحابه بالتلبية، فَعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : "جَاءَنِي جِبْرِيلُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مُرْ أَصْحَابَكَ فَلْيَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ، فَإِنَّهَا مِنْ شِعَارِ الْحَجِّ" ابن ماجه، وصححه الألباني.
بل من أعظم مظاهر تحصيل التزكية من خلال التلبية حديث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ قَالَ: "مَا مِنْ مُلَبٍّ يُلَبِّي إِلَّا لَبَّى مَا عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ مِنْ حَجَرٍ أَوْ شَجَرٍ أَوْ مَدَرٍ، حَتَّى تَنْقَطِعَ الْأَرْضُ مِنْ هَاهُنَا وَهَاهُنَا. ابن ماجه، وصححه الألباني.
وقد أمر الله تعالى عباده بالإخلاص له تعالى في الحج والعمرة، فقال تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196].
ومن أعظم مظاهر التزكية أن الله تعالى حرَّم على المُحْرِم جملة من المباحات، والتي صارت محظورات بالدخول في الإحرام، كلبس المخيط للرجل، والنقاب والقفازين للمرأة، وتغطية الرأس والوجه للرجل، ووضع الطيب، وحلق الشعر، ولبس الخُفِّ، والخِطبة، والنكاح، والجماع، وصيد البر، والتي يتعود بعدها على ترك المحرمات المحرمة في الإحرام وغيره، خاصة كبائر المحرمات التي عمت بها البلوي كالربا، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 278، 279]. قَالَ : «لَعَنَ اللَّهُ آكِلَ الرِّبَا، وَمُوكِلَهُ، وَشَاهِدَيْهِ، وَكَاتِبَهُ» أحمد.
ولأن تزكية النفس سبب الفلاح في الآخرة، قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 9، 10].
وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14، 15].
وقال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [الجاثية: 15]، وقال تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المزمل: 20].
وقال الله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281].
ومن أعظم مظاهر التزكية من الحج التزكية بالأخلاق الحسنة، فمن ذلك:
1- نهيُ الله تعالى الحجاجَ عن المعاصي والجدال، قال الله تعالى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197].
2- الترغيب في حسن الخلق لمغفرة الذنوب، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: «مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» متفق عليه.
3- النهي عن حمل الدابة على الإسراع في السير، فعنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُ دَفَعَ مَعَ النَّبِيِّ يَوْمَ عَرَفَةَ، فَسَمِعَ النَّبِيُّ وَرَاءَهُ زَجْرًا شَدِيدًا، وَضَرْبًا وَصَوْتًا لِلْإِبِلِ، فَأَشَارَ بِسَوْطِهِ إِلَيْهِمْ، وَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ فَإِنَّ البِرَّ لَيْسَ بِالإِيضَاعِ –أي الإسراع-» البخاري.
4- تواضع النبي لأصحابه حال رمي الجمار، فَعَنْ قُدَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ، يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ عَلَى نَاقَةٍ لَهُ صَهْبَاءَ، لَا ضَرْبَ، وَلَا طَرْدَ، وَلَا إِلَيْكَ إِلَيْكَ» النسائي، وصححه الألباني.
وقد أمر الشرع بالأخلاق الحسنة، وحث عليها في نصوص كثيرة، فمن ذلك:
قولُ الله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83].
وقال تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} [الإسراء: 53].
وقال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63].
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا» الترمذي، وصححه الألباني.
وعَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ القِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا» الترمذي، وصححه الألباني.
وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: «مَا شَيْءٌ أَثْقَلُ فِي مِيزَانِ المُؤْمِنِ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُبْغِضُ الفَاحِشَ البَذِيءَ» الترمذي، وصححه الألباني.
وعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ» أبو داود، وصححه الألباني.
- وإن من أعظم الأخلاق المستفادة من الحج: تعظيم الدماء المحرمة، فقد قال صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ» متفق عليه.
وهذا يدل على أن الإسلام بريء من تلك العمليات الإرهابية التي تستهدف الآمنين.
ومظاهر الارتباط بإبراهيم من خلال الحج كثيرة جدًّا، منها:
1- بناء إبراهيم للبيت الحرام، قال الله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127].
2- هو أول من أذن للناس بالحج، قال الله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27].
3- هو صاحب المقام الذي أُمِرْنا بالصلاة خلفه بعد الطواف، قال الله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125].
4- ركن السعي بين الصفا والمروة سببه سعي هاجر عليها السلام امرأة إبراهيم .
5- فجَّر الله تعالى بئر زمزم إجابة لاستغاثة هاجر امرأة إبراهيم .
6- هو الذي ورَّث لنا الوقوف بعرفة، عَنْ يَزِيدَ بْنِ شَيْبَانَ، قَالَ: كُنَّا وُقُوفًا بِعَرَفَةَ مَكَانًا بَعِيدًا مِنَ الْمَوْقِفِ فَأَتَانَا ابْنُ مِرْبَعٍ الْأَنْصَارِيُّ فَقَالَ: إِنِّي رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَيْكُمْ يَقُولُ: «كُونُوا عَلَى مَشَاعِرِكُمْ فَإِنَّكُمْ عَلَى إِرْثٍ مِنْ إِرْثِ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ». ابن ماجه، والنسائي.
وارتباط المسلم بخليل الرحمن داع للاقتداء به صلى الله عليه وسلم في توحيده، وبراءته من الشرك، وعبادته، وأخلاقه، والاستجابة لأمر الله تعالى، قال الله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [النحل: 120 - 122].
وقد أمرنا الله تعالى بالاقتداء بإبراهيم، قال الله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 123]، وقال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125].
{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة: 130].
- فنقتدي بإبراهيم في التمسك بالتوحيد، والبراءة من الشرك وأهله، قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف: 26، 27].
وقال الله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4].
وذلك لأن المؤمن يجب عليه تولي المؤمنين، والبراءة من المشركين، قال الله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 55، 56].
- ونقتدي بإبراهيم في المسارعة إلى القيام بأمر الله تعالى، قال تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124].
وقال تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة: 131].
- ونقتدي بإبراهيم في وفائه مع الله تعالى، ومع خلق الله، قال تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37].
- ونقتدي بإبراهيم في تعليمه لامرأته شرع الله تعالى، حتى صارت مستسلمة لأمر الله، حينما ترك وولدَه إسماعيل بمكة، وذلك لأن الله تعالى سائلنا عما استرعانا من الأولاد والزوجات والأرحام، قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6].
قال : «إِنَّ اللَّهَ سَائِلٌ كُلَّ رَاعٍ عَمَّا اسْتَرْعَاهُ، أَحَفَظَ أَمْ ضَيَّعَ، حَتَّى يَسْأَلَ الرَّجُلَ عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ» ابن حبان.
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُ: سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالخَادِمُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ»، قَالَ: فَسَمِعْتُ هَؤُلاَءِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، وَأَحْسِبُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «وَالرَّجُلُ فِي مَالِ أَبِيهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» متفق عليه.
- نتعلم من قصة إبراهيم مع امرأته كيف أن الإسلام كرَّم المرأة، ورفع شأنها، وحرَّم على الرجل أن ينتهك حقوقها، قال الله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]، وقال الله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: 14].
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «اللهُمَّ إِنِّي أُحَرِّجُ حَقَّ الضَّعِيفَيْنِ الْيَتِيمِ وَالْمَرْأَةِ» ابن ماجه، وصححه الألباني.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ( )، إِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا» متفق عليه.
المقصد الرابع: دعوة الأمة للاتحاد والاجتماع.
لأن الحج عبادة جماعية، يؤديها كل المسلمين على اختلاف لغاتهم الذي يجيئون من كل فج عميق إلى مكان واحد، في وقت واحد، بنية واحدة، بشعار واحد، متوجهين لرب واحد.
وقد جاءت نصوص الحج ومناسكه بصيغة الجمع تأكيدًا لهذا المعنى، قال الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196]. وقال تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197]. وقال تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 198]. وقال الله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 200]. وقال تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203]. وقال تعالى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95].
وقد أمرنا الله تعالى بعبادته وحده لا شريك الله؛ معللا ذلك بأن ربنَّا واحدٌ، ودينَنَا واحدٌ، قال الله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92]. قال الشنقيطي رحمه الله في تفسير الآية: [وَالْمَعْنَى دِينُكُمْ وَاحِدٌ وَرَبُّكُمْ وَاحِدٌ].
وأثر ذلك الاتحاد والاجتماع داع ليتعاون المسلمون على فعل خير، وتركهم التعاون على فعل الشر، قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].
وقال الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103].
وقد أرسى لنا نبينا الله عليه وسلم مبدأ الاجتماع والتعاون على الخير، فَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ الله عليه وسلم: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» مسلم.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ الله عليه وسلم قَالَ: «مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ تَعَالَى، يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ».
وقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم في السَّبْعَةِ الَّذِينَ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: «وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ» متفق عليه. وعن وَحْشِيِّ بْنِ حَرْبٍ، أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ الله صلى الله عليه وسلم قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَأْكُلُ وَلَا نَشْبَعُ قَالَ: «فَلَعَلَّكُمْ تَفْتَرِقُونَ» قَالُوا: نَعَمْ قَالَ: «فَاجْتَمِعُوا عَلَى طَعَامِكُمْ، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ» أبو داود، وحسنه الألباني.
نتعلم من ضرورة اجتماع المسلمين أن قضية المسجد الأقصى قضية كل المسلمين، وليس قضية الفلسطينيين فحسب، فهو مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والقبلة الأولى المسلمين، ومصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأنبياء، ولا تشد الرحال إلا إليه، مع المسجد الحرام والمسجد النبوي.
ومظاهر هذا المقصد من الحج كثيرة جدا، منها:
1- تحديد مواقيت زمانية للحج، قال الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197].
2- تحديد مواقيت مكانية للحج والعمرة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَهْلِ المَدِينَةِ ذَا الحُلَيْفَةِ، وَلِأَهْلِ الشَّأْمِ الجُحْفَةَ، وَلِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ المَنَازِلِ، وَلِأَهْلِ اليَمَنِ يَلَمْلَمَ، فَهُنَّ لَهُنَّ، وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ لِمَنْ كَانَ يُرِيدُ الحَجَّ وَالعُمْرَةَ، فَمَنْ كَانَ دُونَهُنَّ، فَمُهَلُّهُ مِنْ أَهْلِهِ، وَكَذَاكَ حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ يُهِلُّونَ مِنْهَا» متفق عليه.
3- لا يكون الوقوف بعرفة إلا في اليوم التاسع، وليلة العاشر، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : مَنْ شَهِدَ صَلاَتَنَا هَذِهِ –أي صلاة الفجر بمزدلفة-، وَوَقَفَ مَعَنَا حَتَّى نَدْفَعَ وَقَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلاً، أَوْ نَهَارًا، فَقَدْ أَتَمَّ حَجَّهُ، وَقَضَى تَفَثَهُ. الترمذي، وصححه الألباني.
4- من وقف بعرفة نهارًا لا يجوز له أن يدفع منها إلى مزدلفة إلا بعد دخول الليل.
5- يمتنع المحرم عن بعض المباحات، ولا يجوز له فعلها إلا بعد التحلل.
وكل تلك المظاهر داعية للمحافظة على الوقت والنظام، كما نلحظ ذلك في كل العبادات:
- كما في الصلاة، من تحديد أوقاتها، قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]. والأمر بتسوية الصفوف، وسدد الخلل فيها كما في الزكاة من تحديد الأموال التي تخرج منها الزكاة، وتحديد النصاب، وتحديد حول لإخراجها، وتحديد الفئة التي تُعْطَى الزكاة.
المقصد السادس: ارتباط الأمة بالعلماء.
وذلك لأن ارتباط الأمة بالعلماء من أعظم علامات الخير، ومظاهر ذلك في الحج، وغيره من العبادات كثيرة، منها:
1- حرص الصحابة على سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن المناسك:
- سؤاله عن ملابس الإحرام: عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَ: مَا يَلْبَسُ المُحْرِمُ؟ فَقَالَ: «لاَ يَلْبَسُ القَمِيصَ وَلاَ السَّرَاوِيلَ، وَلاَ البُرْنُسَ، وَلاَ ثَوْبًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ، وَلاَ وَرْسٌ، فَمَنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنَ الكَعْبَيْنِ» متفق عليه.
- سؤاله عن ترتيب المناسك يوم النحر( ): عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله صلى عليه وسلم يُسْأَلُ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى، فَيَقُولُ: «لَا حَرَجَ» فَسَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ، قَالَ: «اذْبَحْ وَلَا حَرَجَ» وَقَالَ: رَمَيْتُ بَعْدَ مَا أَمْسَيْتُ، فَقَالَ: «لَا حَرَجَ» متفق عليه.
2- أمر الله تعالى بتحكيم عدلين في تحديد جزاء الصيد: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [المائدة: 95]. فالشاهد من الآية قوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ}.
3- أمر الله تعالى الناس بسؤال أهل العلم: قال الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7].
4- أمر الله تعالى برد الأمور المُشْكِلَات لأهل العلم: قال الله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83].
5- العلماء يقولون على الله بعلم، وصار كثير من الناس الآن يقولون على الله بغير علم، وهذا من أعظم الكبائر، قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33].
6- حينما يتكلم في الدين من لا علم عنده تظهر البدع والخرافات، ولا يخفى علينا من يتكلم بحرية الشذوذ واللواط وغيره من أنواع الضلالات.
تنبيهات:
1- تم التركيز على الأدلة من الكتاب والسنة، ويقوم الخطيب بالربط بينها بطريقته المناسبة.
2- تم جمع عدد من الأدلة تحت كل مقصد، قد يكتفي الخطيب ببعضها خشية الإطالة، أو يجمع بينها كلها إن تيسر له الأمر.
3- يمكن للخطيب أيضًا دعم العناصر ببعض القصص أو المواقف التاريخية إن تيسر ذلك.
4- الراجح من أقوال العلماء أن تُجعل خطبة العيد خطبةً واحدة.
تــنـبـيــهات
1) على الخطيب أن يراعي واقعه ومجتمعه وحال مستمعيه، وأن يختار من المعروف ما يراه مناسبًا لهم فيأمرهم به، وأن ينكر ما يراه يحتاج إلى إنكار فيهم.
2) الرجاء من كل أخ خطيب أن يضيف التعليقات وشرح الآيات على الفقرات السابقة بما يفتح الله تبارك وتعالى عليه، ولا يكتفي بالمكتوب هنا فقط.
3) استعن بالله واخطب ما تيسر لك من هذه الخطبة.
4) إذا أردت أن تضيف شيء عليها فأضف ما تشاء، مراعيا المكان الذي أنت فيه، وما يناسبهم من المقال، وخاطبوا الناس على قدر عقولهم.
5) الرجاء من كل خطيب حفظ الآيات الواردة في الخطبة حفظا جيدا، ويتقن قراءتها في الخطبة بأحكام التجويد.
6) الرجاء من جميع من تقع تحت يده الخطبة أن يقوم بتوصيلها لخطباء العيد حتى خطباء وزارة الأوقاف ولك الأجر إن شاء الله تعالى، فالدال على الخير كفاعله.
7) لا موفق للخيرات إلاّ من وفقه الله فاستعن بالله وتوكل عليه وألح عليه في الدعاء أن يرزقك الإخلاص والتوفيق والسداد في إلقاء هذه الخطبة، واستمطر منه الرحمة والعون.
لا تنس مقدمة الحمد والثناء في البداية، والتكبير أحيانا بين الفقرات والله الموفق والهادي لسواء السبيل.
9) أيها الخطيب عليك أن تبين للناس وتحذر الناس من بدع العيد ومنكراته في هذه الأيام
مع تحيات
اللجنة العلمية لملتقى الخطيب المؤثر أسد المنابر