عنوان الخطبة ((سيقول السفهاء))
الهدف من الخطبة بيان أهمية تحويل القبلة والفوائد منها، سفهاء الماضي هم سفهاء اليوم.
عناصر الموضوع
1- تحويل القبلة.
2- سيقول السفهاء.
3- سفهاء العصر.
سيقول السفهاء
مقدمة الموضوع: أما بعد، قال الله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
تحويل القبلة
قال الله سبحانه وتعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}، وعَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى نَحْوَ بَيْتِ المَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ أَنْ يُوَجَّهَ إِلَى الكَعْبَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ}، فَتَوَجَّهَ نَحْوَ الكَعْبَةِ؛ وَقَالَ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ، وَهُمُ اليَهُودُ: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا، قُلْ لِلَّهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ؛ فَصَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ، ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَ مَا صَلَّى، فَمَرَّ عَلَى قَوْمٍ مِنَ الأَنْصَارِ فِي صَلاَةِ العَصْرِ نَحْوَ بَيْتِ المَقْدِسِ، فَقَالَ: هُوَ يَشْهَدُ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ تَوَجَّهَ نَحْوَ الكَعْبَةِ، فَتَحَرَّفَ القَوْمُ، حَتَّى تَوَجَّهُوا نَحْوَ الكَعْبَةِ. رواه البخاري.
وحاصل الأمر أن الصلاة لما فرضت أُمِر رسول الله صلى الله عليه وسلمَ أن يستقبل صخرة بيت المقدس، فاستقبلها، وكان يصلي بمكة بين الركنين، فتكون بين يديه الكعبة، مستقبلاً بيت المقدس، فلما هاجر إلى المدينة تعذر الجمع بينهما بهذه الصورة، وكان يحب أن يوجه إلى قبلة إبراهيم عليه السلام، فَمَنَّ الله تعالى علينا وأمره بالتوجه إلى إلى الكعبة بعد ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا من الصلاة قِبَلَ بيت المقدس؛ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَهُوَ بِمَكَّةَ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَالْكَعْبَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَبَعْدَ مَا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ صُرِفَ إِلَى الْكَعْبَةِ. رواه أحمد وصححه الألباني.
فقد اصطفى الله تعالى لهذه الأمة خصائص عظيمة، فجعلها خير أمة أخرجت للناس، وجعلها الأمة الخاتمة الوسط التي تشهد على غيرها من الأمم، ومن خصائص هذه الأمة: أن الله تعالى جعل قبلتها إلى قبلة إبراهيم صلى الله عليه وسلمَ إلى الكعبة، وهذا الذي كان يرجوه النبي صلى الله عليه وسلمَ، قال تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا}، وهذا من أعظم أسباب حسد وحقد اليهود لأمتنا، فعن عائشة رضي الله عنها أنها قَالَتْ: بَيْنَا أَنَا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ، فَأَذِنَ لَهُ، فَقَالَ: السَّامُ عَلَيْكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَعَلَيْكَ" قَالَتْ: فَهَمَمْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ، قَالَتْ: ثُمَّ دَخَلَ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَعَلَيْكَ"؛ قَالَتْ: ثُمَّ دَخَلَ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: السَّامُ عَلَيْكَ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: بَلِ السَّامُ عَلَيْكُمْ وَغَضَبُ اللهِ إِخْوَانَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ، أَتُحَيُّونَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا لَمْ يُحَيِّهِ بِهِ اللهُ ؟ قَالَتْ: فَنَظَرَ إِلَيَّ، فَقَالَ: "مَهْ، إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَلَا التَّفَحُّشَ، قَالُوا قَوْلًا، فَرَدَدْنَاهُ عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يَضُرَّنَا شَيْءٌ، وَلَزِمَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، إِنَّهُمْ لَا يَحْسُدُونَا عَلَى شَيْءٍ كَمَا يَحْسُدُونَا عَلَى يَوْمِ الْجُمُعَةِ الَّتِي هَدَانَا اللهُ لَهَا وَضَلُّوا عَنْهَا، وَعَلَى الْقِبْلَةِ الَّتِي هَدَانَا اللهُ لَهَا وَضَلُّوا عَنْهَا، وَعَلَى قَوْلِنَا خَلْفَ الْإِمَامِ: آمِينَ". رواه أحمد وصححه لغيره الألباني.
وقال زيد بن أسلم في تفسير قوله تعالى: {فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه}: فاختلفوا في يوم الجمعة، فاتخذ اليهود يوم السبت، والنصارى يوم الأحد. فهدى الله أمة محمد ليوم الجمعة. واختلفوا في القبلة؛ فاستقبلت النصارى المشرق، واليهود بيت المقدس، فهدى الله أمة محمد للقبلة. واختلفوا في الصلاة؛ فمنهم من يركع ولا يسجد، ومنهم من يسجد ولا يركع، ومنهم من يصلي وهو يتكلم، ومنهم من يصلي وهو يمشي، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك. واختلفوا في الصيام، فمنهم من يصوم بعض النهار، ومنهم من يصوم عن بعض الطعام، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك. واختلفوا في إبراهيم، عليه السلام، فقالت اليهود: كان يهوديًا، وقالت النصارى: كان نصرانيًا، وجعله الله حنيفًا مسلمًا، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك. واختلفوا في عيسى، عليه السلام، فكذبت به اليهود، وقالوا لأمه بهتانًا عظيمًا، وجعلته النصارى إلهًا وولدًا، وجعله الله روحه، وكلمته، فهدى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم للحق من ذلك. انتهى من تفسير ابن كثير.
سيقول السفهاء
قال الله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ}.
السُّفَهَاءُ: جَمْعُ سَفِيهٍ، كَمَا أَنَّ الْحُكَمَاءَ جَمْعُ حَكِيمٍ، وَالْحُلَمَاءَ جَمْعُ حَلِيمٍ، وَالسَّفِيهُ: هُوَ الْجَاهِلُ الضَّعِيفُ الرَّأْيِ الْقَلِيلُ الْمَعْرِفَةِ بِمَوَاضِعِ الْمَصَالِحِ وَالْمَضَارِّ، والسفهاء المقصودون في هذه الآيات هم: اليهود والمشركون والمنافقون، فإن مِنْ تَمَامِ جَهْلِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ بِحَالِهِمْ فِي الضَّلَالَةِ وَالْجَهْلِ، وَذَلِكَ أَرْدَى لَهُمْ وَأَبْلَغُ فِي الْعَمَى، وَالْبُعْدِ عَنِ الْهُدَى.
لقد كان تحويل القبلة اختبارًا من الله تعالى لعباده، وقد انقسم الناس في ذلك إلى قسمين: مصدقون أهل حق وامتثال، وسفهاء أهل باطل وضلال؛ فأما الصحابة فقد امتثلوا واتبعوا، بلا شك ولا ريب، وأما ثلاثة السفهاء وهم: اليهود والمشركون والمنافقون، فقد كذبوا وأنكروا واستهزءوا، وقالوا: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟
إن طبيعة اليهود وأحوالهم معلومة، من إلقاء الشبه، والإعراض عن الحقيقة والصواب، والافتراء والكذب على الحق، وحسدهم لأهله وحقدهم عليهم، فإن اليهود لم يسكتوا عند تحويل قبلة المسلمين من بيت المقدس إلى البيت الحرام بل حسدوا المسلمين على هذا الاصطفاء، وألقوا الشبهات عليهم، وتحدثوا بالأباطيل عن شريعتهم، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: كان أول ما نسخ من القرآن القبلة، وذلك أن رسول صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة -وكان أهلها اليهود- أمره الله أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهرًا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب قبلة إبراهيم، فكان يدعو وينظر إلى السماء، فأنزل الله: {قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها}، إلى قوله: {فولوا وجوهكم شطره}، فارتاب من ذلك اليهود، وقالوا: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، فأنزل الله: {قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم}، وقال: {فأينما تولوا فثم وجه الله}. انتهى من تفسير ابن كثير.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في قَوْله تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ}: يَقُولُ تَعَالَى: إِنَّمَا شَرَعْنَا لَكَ -يَا مُحَمَّدُ- التَّوَجُّهَ أَوَّلًا إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ صَرَفْنَاكَ عَنْهَا إِلَى الْكَعْبَةِ، لِيَظْهَرَ حالُ مَنْ يَتَّبعك ويُطيعك وَيَسْتَقْبِلُ مَعَكَ حَيْثُمَا توجهتَ مِمَّن يَنْقَلْبُ عَلَى عَقبَيْه، أَيْ: مُرْتَدّاً عَنْ دِينِهِ {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً}، أَيْ: هَذِهِ الْفِعْلَةُ، وَهُوَ صَرْفُ التَّوَجُّهِ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى الْكَعْبَةِ، أَيْ: وَإِنْ كَانَ هَذَا الْأَمْرُ عَظِيمًا فِي النُّفُوسِ، إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ قُلُوبَهُمْ، وأيقنُوا بِتَصْدِيقِ الرسُول، وأنَّ كلَّ مَا جَاءَ بِهِ فَهُوَ الْحَقُّ الذِي لَا مرْية فِيهِ، وَأَنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، فَلَهُ أَنْ يُكَلِّفَ عِبَادَهُ بِمَا شَاءَ، وَيَنْسَخَ مَا يَشَاءُ، وَلَهُ الْحِكْمَةُ التَّامَّةُ وَالْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، بِخِلَافِ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، فَإِنَّهُ كُلَّمَا حَدَثَ أَمْرٌ أَحْدَثَ لَهُمْ شَكًّا، كَمَا يَحْصُلُ لِلَّذِينِ آمَنُوا إِيقَانٌ وَتَصْدِيقٌ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا مَا أُنزلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ . وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ}، وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا}، وَلِهَذَا كَانَ مَن ثَبَتَ عَلَى تَصْدِيقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتِّبَاعِهِ فِي ذَلِكَ، وَتَوَجَّهَ حيثُ أَمَرَهُ اللَّهُ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ وَلَا رَيْب، مِنْ سَادَاتِ الصَّحَابَةِ. انتهى.
وقال رحمه الله: ولما وقع هذا حصل لبعض الناس -من أهل النفاق والريب والكفرة من اليهود- ارتياب وزيغ عن الهدى وتخبيط وشك، وقالوا: {ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها}، أي: ما لهؤلاء تارة يستقبلون كذا، وتارة يستقبلون كذا؟ فأنزل الله جوابهم في قوله: {قل لله المشرق والمغرب}، أي: الحكم والتصرف والأمر كله لله، وحيثما تولوا فثم وجه الله، و{ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله}، أي: الشأن كله في امتثال أوامر الله، فحيثما وجهنا توجهنا، فالطاعة في امتثال أمره، ولو وجهنا في كل يوم مرات إلى جهات متعددة، فنحن عبيده وفي تصريفه وخدامه، حيثما وجهنا توجهنا. انتهى من تفسير ابن كثير.
سفهاء العصر
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتُ، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ»، قِيلَ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟ قَالَ: «الرَّجُلُ التَّافِهُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ». أخرجه ابن ماجه وصححه الألباني، وفي رواية: قِيلَ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «السَّفِيهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ». أخرجه أحمد وصححه الألباني.
هذا الحديث علم من أعلام نبوة النبي صلى الله عليه وسلمَ؛ فمن تأمل في واقعنا علم أن هذا الخبر النبوي قد انتقل من حالة علم اليقين إلى حالة عين اليقين، فقد كثرت الفتن، وكثر الخداع، ووجد تصديق الكاذبين، وتكذيب الصادقين، وتخوين الأمناء، وائتمان الخائنين، ونطق في زماننا الرويبضة وما أكثرهم، نسأل الله العفو والعافية.
إنَّ لكل زمان سفهاء، وإنْ اختلفت شخصياتهم وصورهم وطرقهم إلا أن مناهجهم لا تختلف، فكما أن السفهاء القدامى كان سمتهم الطعن والإنكار والرد والاستكبار، كذا صفات سفهاء عصرنا، فإن من سماتهم المتواترة عنهم:
-الطعن في أصول الدين وثوابته: كطعنهم في نصوص الوحي، لا سيما في السنة النبوية الثابتة، وردهم لأمور معلومة من الدين بالضرورة، كإنكارهم عذاب القبر ونعيمه، والإسراء والمعراج.
-الاستهزاء والطعن في شعائر الدين: كالاستهزاء بالستر والعفاف والنقاب.
- الطعن في الأئمة والعلماء والرواة: كالطعن في أئمة الأمة وأعلامها وعلمائها قديمًا وحديثًا، والطعن في علمهم، والانتقاص منهم.
-ذم الخصوم وإرهابهم برميهم بالتشدد والإرهاب: فلا يوجهون الحجة بالحجة، وإنما يريدون إرهاب من خالفهم بالتهم الباطلة.
-التعصب للباطل ومعاداة الحق وأهله: فيتشددون لأفكارهم الفاسدة، ويبغضون من خالفهم بغضًا شديدًا، ويكيدون له.
-الاستهزاء بأهل الطاعة: من عادة السفهاء السخرية والاستهزاء بأهل الحق وأتباع الوحي، واستهجانهم، ورميهم بالتخلف والرجعية ومعاداة العلوم الحديثة.
- دعم الباطل والمنكرات واستبشارهم بظهور الفساد: فتراهم يفرحون جدًا عند ظهور التبرج والسفور، وانتشار الفسق والفجور، ويختلف الأمر تمامًا إذا رأوا المساجد ملئت بالمصلين في رمضان مثلاً، أو رأوا عددًا من الأطفال أتموا حفظ كتاب الله، ونحو ذلك مما يسعد المؤمنين. - الغضب والحنق الشديد تجاه شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: فيريدون أن يروجوا لباطلهم، وينشروا أفكارهم الفاسدة بلا مواجهة ولا إنكار من أحد.
-اختلاق أصول وقواعد باطلة يضاهئون بها شرع الله تعالى: كالقول بحرية العبد المطلقة، أو أن الإنسان حر ما لم يضر، فجعلوا حدود حريته إيذاء الآخرين، فلا مانع عندهم من نشر الكفر والشرك والإلحاد تحت مسمى الحرية، ولا مانع عندهم من الإباحية والفواحش تحت مسمى الحرية، فجعلوها طاغوتًا يعبد عياذًا بالله.
إن السفهاء هم: المخالفون للشريعة، المعاندون لحِكَمها، المنكرون لأحكامها، الصادون عن سبيلها، ومنهم: المحرفون والمغيرون والمبدلون في الدين، ومنكرو السنة، والطاعنون في الصحابة والأئمة وعلماء الأمة، والطاعنون في تراث الأمة وتاريخها، والمنكرون للأمور المعلومة من الدين بالضرورة، والمستهزءون بالشعائر.
فواجب المسلم تجاه أحوال السفهاء وأقوالهم، أن يصون اعتقاده وفكره من لوث هؤلاء؛ فلا يأخذ اعتقاده ودينه من السفهاء، ولا يجعل دينه كلأً مباحًا لكل أحد، بل يتعلم علوم الشريعة، ويعمل بها، ويدعو إليها، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويتبع الحق ويبينه للناس، وينكر الباطل ويجتنبه ويحذر الناس منه.
مع تحيات
اللجنة العلمية لملتقى الخطيب المؤثر أسد المنابر