عنوان الخطبة ((الإمام أحمد إمام أهل السنة))
الهدف من الخطبة ذكر ترجمة وجيزة لإمام أهل السنة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى..
عناصر الموضوع
1- بعض مناقب الإمام أحمد رحمه الله تعالى.
2- محنة الإمام أحمد رحمه الله.
3- مرضه ووفاته
المقدمة: أما بعد، قال الله تعالى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فضلوا وأضلوا» متفق عليه.
بعض مناقب الإمام أحمد رحمه الله تعالى
اسمه ونسبه: قال الحافظ الذهبي رحمه الله: هُوَ: الإِمَامُ حَقّاً، وَشَيْخُ الإِسْلاَمِ صِدْقاً، أَبُو عَبْدِ اللهِ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ حَنْبَلِ بنِ هِلاَلِ بنِ أَسَدِ بنِ إِدْرِيْسَ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ حَيَّانَ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ أَنَسِ بنِ عَوْفِ بنِ قَاسِطِ بنِ مَازِنِ بنِ شَيْبَانَ بنِ ذُهْلِ بنِ ثَعْلَبَةَ بنِ عُكَابَةَ بنِ صَعْبِ بنِ عَلِيِّ بنِ بَكْرِ وَائِلٍ الذُّهْلِيُّ، الشَّيْبَانِيُّ، المَرْوَزِيُّ، ثُمَّ البَغْدَادِيُّ، أَحَدُ الأَئِمَّةِ الأَعْلاَمِ.
التربية والنشأة: كَانَ مُحَمَّدٌ وَالِدُ الإمام أحمد مِنْ أَجْنَادِ مَرْوَ، مَاتَ شَابّاً لَهُ نَحْوٌ مِنْ ثَلاَثِيْنَ سَنَةً، وَرُبِّيَ الإمام أَحْمَد يَتِيمًا، وَقِيْلَ: إِنَّ أُمَّهُ تَحَوَّلَتْ مِنْ مَرْوَ وَهِيَ حَامِلٌ بِهِ، وولدته فِي رَبِيْعٍ الأَوَّلِ، سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّيْنَ وَمائَةٍ.
قَالَ المَرُّوْذِيُّ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللهِ: اخْتَلَفْتُ إِلَى الكُتَّابِ، ثُمَّ اختَلَفتُ إِلَى الدِّيْوَانِ، وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً.
وعن إِبْرَاهِيْمَ بنَ شَمَّاسٍ قَالَ: كُنْتُ أَعرِفُ أَحْمَدَ بنَ حَنْبَلٍ وَهُوَ غُلاَمٌ، وَهُوَ يُحْيِي اللَّيْلَ.
وَقَالَ عَبْدُ اللهِ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُوْلُ: رُبَّمَا أَرَدْتُ البُكورَ فِي الحَدِيْثِ، فَتَأْخُذُ أُمِّي بِثَوبِي، وَتَقُوْلُ: حَتَّى يُؤَذِّنَ المُؤَذِّنُ.
وَمِنْ صِفَتِهِ: قَالَ ابْنُ ذَرِيْحٍ العُكْبَرِيُّ: طَلَبتُ أَحْمَدَ بنَ حَنْبَلٍ، فَسَلَّمتُ عَلَيْهِ، وَكَانَ شَيْخاً مَخضُوباً، طُوَالاً، أَسْمَرَ، شَدِيدَ السُّمرَةِ.
وَعَنْ مُحَمَّدِ بنِ عَبَّاسٍ النَّحْوِيِّ، قَالَ: رَأَيْتُ أَحْمَدَ بنَ حَنْبَلٍ حَسَنَ الوَجْهِ، رَبْعَةً، يَخْضِبُ بِالحِنَّاءِ خِضَاباً لَيْسَ بِالقَانِي، فِي لِحْيَتِه شَعَرَاتٌ سُودٌ، وَرَأَيْتُ ثِيَابَهُ غِلاَظاً بِيضاً، وَرَأَيْتُهُ مُعْتَمّاً، وَعَلَيْهِ إِزَارٌ.
زواجه: قال الإمام أحمد رحمه الله: تَزَوَّجتُ وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعِيْنَ سَنَةً، فَرَزَقَ اللهُ خَيْراً كَثِيْراً.
طلبه للعلم: طَلَبَ الإمام أحمد العِلْمَ وَهُوَ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، فِي العَامِ الَّذِي مَاتَ فِيْهِ مَالِكٌ، وَحَمَّادُ بنُ زَيْدٍ، وسَمِعَ الحديث من جماعة كبيرة من أهل العلم، فَعِدَّةُ شُيُوْخِهِ الَّذِيْنَ رَوَى عَنْهُم فِي المُسْنَدِ: مائَتَانِ وَثَمَانُوْنَ وَنَيِّفٌ، وكانت له رحلة ما بين الكوفة والبصرة ومكة واليمن والشام وفارس وغيرها من البلاد.
ومن تلامذته: البخاري ومسلم وأبي داود، وَحَدَّثَ عنه بعض شيوخه منهم: عبدالرزاق الصنعاني، وَأَبُو عَبْدِ اللهِ الشَّافِعِيُّ، لَكِنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يُسَمِّه، بَلْ قَالَ: حَدَّثَنِي الثِّقَةُ، وكذا حدث عنه بعض أقرانه.
عبادته: قال الإمام أحمد رحمه الله: حَجَجتُ خَمْسَ حِجَجٍ، مِنْهَا ثَلاَثٌ رَاجِلاً، أَنْفَقْتُ فِي إِحْدَاهَا ثَلاَثِيْنَ دِرْهَماً.
وَقَالَ المَرُّوْذِيُّ: رَأَيْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ إِذَا كَانَ فِي البَيْتِ عَامَّةُ جُلُوسِه مُتَرَبِّعاً خَاشِعاً.
فَإذَا كَانَ بَرَّا، لَمْ يَتَبَيَّنْ مِنْهُ شِدَّةُ خُشُوعٍ، وَكُنْتُ أَدْخُلُ وَالجُزْءُ فِي يَدِهِ يَقْرَأُ.
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ أَحْمَدَ: كَانَ أَبِي يُصَلِّي فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيلةٍ ثَلاَثَ مائَةِ رَكْعَةٍ، فَلَمَّا مَرِضَ مِن تِلْكَ الأَسواطِ، أَضعفَتْه، فَكَانَ يُصَلِّي كُلَّ يَوْمٍ وَليلَةٍ مائَةً وَخَمْسِيْنَ رَكْعَةً.
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ أَحْمَدَ: كَانَ أَبِي يَقْرَأُ كُلَّ يَوْمٍ سُبْعاً، وَكَانَ يَنَامُ نَومَةً خَفِيْفَةً بَعْدَ العِشَاءِ، ثُمَّ يَقومُ إِلَى الصَّباحِ يُصَلِّي وَيَدعُو.
وَقَالَ المَرُّوْذِيُّ: رَأَيْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ يَقومُ لوِردِه قَرِيْباً مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ حَتَّى يُقَارِبَ السَّحَرَ، وَرَأَيْتُه يَركعُ فِيْمَا بَيْنَ المَغْرِبِ وَالعشَاءِ.
وَقَالَ عَبْدُ اللهِ: رُبَّمَا سَمِعْتُ أَبِي فِي السَّحَرِ يَدعُو لأَقوامٍ بِأَسمَائِهِم، وَكَانَ يُكْثِرُ الدُّعَاءَ وَيُخفِيه، وَيُصَلِّي بَيْنَ العِشَاءيْنِ، فَإِذَا صَلَّى عشَاءَ الآخِرَةِ، رَكعَ رَكَعَاتٍ صَالِحَةً، ثُمَّ يُوترُ، وَينَامُ نومَةً خَفِيْفَةً، ثُمَّ يَقومُ فيُصَلِّي.
وَكَانَتْ قِرَاءتُه ليِّنَةً، رُبَّمَا لَمْ أَفهَمْ بَعْضَهَا، وَكَانَ يَصُوْمُ وَيُدمِنُ، ثُمَّ يُفطرُ مَا شَاءَ اللهُ، وَلاَ يتركُ صومَ الاثْنَيْنِ وَالخَمِيْسِ وَأَيَّامِ البِيْضِ، فَلَمَّا رَجَعَ مِنَ العَسْكَرِ، أَدمنَ الصَّوْمَ إِلَى أَنْ مَاتَ.
استعفافه: قال الرَّمَادِيّ سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّزَّاقِ، وَذَكَرَ أَحْمَدَ بنَ حَنْبَلٍ، فَدَمَعَتْ عَيْنَاهُ، فَقَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ نَفَقَتَه نَفَدَتْ، فَأَخَذتُ بِيَدِهِ، فَأَقَمتُه خَلْفَ البَابِ، وَمَا مَعَنَا أَحَدٌ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُ لاَ تَجتَمِعُ عِنْدَنَا الدَّنَانِيْرُ، إِذَا بِعْنَا الغلَّةَ، أَشغَلْنَاهَا فِي شَيْءٍ، وَقَدْ وَجَدتُ عِنْد النِّسَاءِ عَشْرَةَ دَنَانِيْرَ، فَخُذْهَا، وَأَرْجُو أَنْ لاَ تُنْفِقَها حَتَّى يَتَهَيَّأَ شَيْءٌ. فَقَالَ لِي: يَا أَبَا بَكْرٍ، لَوْ قَبِلْتُ مِنْ أَحَدٍ شَيْئاً، قَبِلتُ مِنْكَ.
وَقَالَ عَبْدُ اللهِ: قُلْتُ لأَبِي: بَلَغَنِي أَنَّ عَبْدَ الرَّزَّاقِ عَرَضَ عَلَيْكَ دَنَانِيْرَ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَأَعْطَانِي يَزِيْدُ بنُ هَارُوْنَ خَمْسَ مائَةِ دِرْهَمٍ - أَظُنُّ - فَلَمْ أَقبَلْ، وَأَعطَى يَحْيَى بنَ مَعِيْنٍ، وَأَبَا مُسْلِمٍ، فَأَخَذَا مِنْهُ.
قَالَ أَحْمَدُ بنُ سِنَانٍ: بَلَغَنِي أَنَّ أَحْمَدَ بنَ حَنْبَلٍ رَهنَ نَعْلَه عِنْد خَبَّازٍ بِاليَمَنِ، وَأَكرَى نَفْسَه مِنْ جَمَّالين عِنْدَ خُرُوْجِه، وَعَرضَ عَلَيْهِ عَبْدُالرَّزَّاقِ دَرَاهِمَ صَالِحَةً، فَلَمْ يَقبلْهَا.
وَعَنْ أَبِي إِسْمَاعِيْلَ التِّرْمِذِيِّ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ بِعَشْرَةِ آلاَفٍ مِنْ رِبْحِ تِجَارتِه إِلَى أَحْمَدَ، فَرَدَّهَا.
زهده في الدنيا: قَالَ المَرُّوْذِيُّ: كَانَ أَبُو عَبْدِ اللهِ إِذَا ذَكَرَ المَوْتَ، خَنَقَتْه العَبرَةُ.
وَكَانَ يَقُوْلُ: الخَوْفُ يَمْنَعُنِي أَكْلَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَإِذَا ذَكَرْتُ المَوْتَ، هَانَ عَلَيَّ كُلُّ أَمرِ الدُّنْيَا، إِنَّمَا هُوَ طَعَامٌ دُوْنَ طَعَامٍ، وَلِباسٌ دُوْنَ لِباسٍ، وَإِنَّهَا أَيَّامٌ قَلاَئِلُ، مَا أَعدِلُ بِالفَقْرِ شَيْئاً، وَلَوْ وَجَدتُ السَّبيلَ، لَخَرجتُ حَتَّى لاَ يَكُوْنَ لِي ذِكْرٌ.
وَقَالَ: أُرِيْدُ أَنْ أَكُوْنَ فِي شِعْبٍ بِمَكَّةَ حَتَّى لاَ أُعرَفَ، قَدْ بُليتُ بِالشُّهرَةِ، إِنِّي أَتَمنَّى المَوْتَ صَبَاحاً وَمسَاءً.
قَالَ المَرُّوْذِيُّ: بَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ فِي مَرَضِ المَوْتِ دَماً عَبِيطاً، فَأَرَيْتُه الطَّبِيْبَ، فَقَالَ: هَذَا رَجُلٌ قَدْ فَتَّتَ الغَمُّ - أَوِ الخَوْفُ - جَوفَه.
وَمِنْ كَرَمِهِ: قال عَبْدُ اللهِ بنُ أَحْمَدَ، قَالَ: قَالَ أَبُو سَعِيْدٍ بنُ أَبِي حَنِيْفَةَ المُؤَدِّبُ: كُنْتُ آتِي أَبَاك، فَيَدفعُ إِلَيَّ الثَّلاَثَةَ دَرَاهِمَ وَأَقَلَّ وَأَكْثَرَ، وَيَقَعُدُ مَعِي، فَيَتَحدَّثُ، وَرُبَّمَا أَعطَانِي الشَّيْءَ، وَيَقُوْلُ: أَعطَيتُكَ نِصْفَ مَا عِنْدَنَا. فَجِئْتُ يَوْماً، فَأَطلْتُ القُعُودَ أَنَا وَهُوَ. قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ وَمَعَهُ تَحْتَ كِسَائِه أَرْبَعَةُ أَرغِفَةٍ، فَقَالَ: هَذَا نِصْفُ مَا عِنْدَنَا. فَقُلْتُ: هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَرْبَعَةِ آلاَفٍ مِن غَيْرِكَ.
قَالَ المَرُّوْذِيُّ: رَأَيْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ، وَجَاءهُ بَعْضُ قَرَابَتِه، فَأَعطَاهُ دِرْهَمَيْنِ، وَأَتَاهُ رَجُلٌ، فَبَعَثَ إِلَى البَقَّالِ، فَأَعطَاهُ نِصْفَ دِرْهَمٍ.
وَعَنْ يَحْيَى بنِ هِلاَلٍ، قَالَ: جِئْتُ أَحْمَدَ، فَأَعطَانِي أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ. وَقَالَ هَارُوْنُ المُسْتَمْلِي: لَقِيْتُ أَحْمَدَ بنَ حَنْبَلٍ، فَقُلْتُ: مَا عِنْدَنَا شَيْءٌ، فَأَعطَانِي خَمْسَةَ دَرَاهِمَ، وَقَالَ: مَا عِنْدَنَا غَيْرُهَا. قَالَ المَرُّوْذِيُّ: رَأَيْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ قَدْ وَهبَ لِرَجُلٍ قَمِيصَه، وَقَالَ: رُبَّمَا وَاسَى مِنْ قُوْتِهِ.
حفظه وإتقانه وضبطه: قال الإمام أحمد: كُنْت أُذَاكِرُ وَكِيْعاً بِحَدِيْثِ الثَّوْرِيِّ، وَذَكَرَ مَرَّةً شَيْئاً، فَقَالَ: هَذَا عِنْدَ هُشَيْمٍ؟ فَقُلْتُ: لاَ. وَكَانَ رُبَّمَا ذَكَرَ العَشْرَ أَحَادِيْثَ، فَأَحْفَظُهَا، فَإِذَا قَامَ، قَالُوا لِي، فَأُملِيهَا عَلَيْهِم.
قال عَبْدُ اللهِ بنُ أَحْمَدَ، قَالَ لِي أَبِي: خُذْ أَيَّ كِتَابٍ شِئْتَ مِنْ كُتُبِ وَكِيْعٍ مِنَ المُصَنَّفِ، فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَسْأَلَنِي عَنِ الكَلاَمِ حَتَّى أُخْبِرَكَ بِالإِسْنَادِ، وَإِنْ شِئْتَ بِالإِسْنَادِ حَتَّى أُخْبِرَكَ أَنَا بِالكَلاَمِ.
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ أَحْمَدَ: قَالَ لِي أَبُو زُرْعَةَ: أَبُوكَ يَحْفَظُ أَلفَ أَلفِ حَدِيْثٍ. فَقِيْلَ لَهُ: وَمَا يُدرِيكَ؟ قَالَ: ذَاكَرْتُهُ، فَأَخَذْتُ عَلَيْهِ الأَبْوَابَ.
قَالَ سَعِيْدُ بنُ عَمْرٍو: يَا أَبَا زُرْعَةَ، أَأَنتَ أَحْفَظُ، أَمْ أَحْمَدُ؟ قَالَ: بَلْ أَحْمَدُ. قُلْتُ: كَيْفَ عَلِمتَ؟ قَالَ: وَجَدتُ كُتُبَه، لَيْسَ فِي أَوَائِلِ الأَجزَاءِ أَسْمَاءُ الَّذِيْنَ حَدَّثُوهُ، فَكَانَ يَحْفَظُ كُلَّ جُزءٍ مِمَّنْ سَمِعَهُ، وَأَنَا لاَ أَقدِرُ عَلَى هَذَا.
وَعَنْ أَبِي زُرْعَةَ قَالَ: حُزِرَتْ كُتُبُ أَحْمَدَ يَوْمَ مَاتَ، فَبَلَغَتْ اثْنَي عَشَرَ حِملاً وَعِدلاً، مَا كَانَ عَلَى ظَهرِ كِتَابٍ مِنْهَا: حَدِيْثُ فُلاَنٍ، وَلاَ فِي بَطنِهِ: حَدَّثَنَا فُلاَنٌ، كُلُّ ذَلِكَ كَانَ يَحْفَظُهُ.
قال زَكَرِيَّا بن يَحْيَى الضَّرِيْر: قُلْتُ لأَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ: كم يَكفِي الرَّجُلَ مِنَ الحَدِيْثِ حَتَّى يَكُوْنَ مُفتِياً؟ يَكْفِيه مائَةُ أَلْفٍ؟ فَقَالَ: لاَ.. إِلَى أَنْ قَالَ: فَيَكْفِيه خَمْسُ مائَةِ أَلْفِ حَدِيْثٍ؟ قَالَ: أَرْجُو.
عمله بعلمه واتباعه للسنة وذمه للبدع والكلام: وَقَالَ المَرُّوْذِيُّ: قَالَ لِي أَحْمَدُ: مَا كَتَبْتُ حَدِيْثاً إِلاَّ وَقَدْ عَمِلتُ بِهِ، حَتَّى مَرَّ بِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ، وَأَعْطَى أَبَا طَيْبَةَ دِيْنَاراً، فَأَعطيتُ الحَجَّامَ دِيْنَاراً حِيْنَ احتَجمتُ.
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ أَحْمَدَ: قَالَ أَبِي فِي مَرَضِه: أَخرِجْ كِتَابَ عَبْدِ اللهِ بنِ إِدْرِيْسَ، فَقَالَ: اقرَأْ عَليَّ حَدِيْثَ لَيْثٍ: أَنَّ طَاوُوْساً كَانَ يَكْرَهُ الأَنِيْنَ فِي المَرَضِ. فَمَا سَمِعْتُ لأَبِي أَنِيناً حَتَّى مَاتَ.
وَقَالَ المَرُّوْذِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ يَقُوْلُ: مَنْ تَعَاطَى الكَلاَمَ لاَ يُفلِحُ، مَنْ تَعَاطَى الكَلاَمَ، لَمْ يَخلُ مِنْ أَنْ يَتَجَهَّمَ.
قَالَ صَالِحُ بنُ أَحْمَدَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُوْلُ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ أسمَاءَ اللهِ مَخْلُوْقَةٌ، فَقَدْ كَفَرَ.
قَالَ حَنْبَلُ بنُ إِسْحَاقَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ، عَنِ الأَحَادِيْثِ الَّتِي تُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللهَ يَنْزِلُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا). فَقَالَ: نُؤْمِنُ بِهَا، وَنُصدِّقُ بِهَا، وَلاَ نَرُدُّ شَيْئاً مِنْهَا، إِذَا كَانَتْ أَسَانِيْدَ صِحَاحًا، وَلاَ نَردُّ عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَه، وَنَعْلَمُ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ حقٌّ.
وَمِنْ آدَابِهِ: قَالَ أَبُو دَاوُدَ: كَانَتْ مَجَالِسُ أَحْمَدَ مَجَالِسَ الآخِرَةِ، لاَ يُذكَرُ فِيْهَا شَيْءٌ مِنْ أَمرِ الدُّنْيَا، مَا رَأَيْتُهُ ذَكَرَ الدُّنْيَا قَطُّ.
وَعَنِ المَرُّوْذِيِّ، قَالَ: لَمْ أَرَ الفَقِيرَ فِي مَجْلِسٍ أَعَزَّ مِنْهُ فِي مَجْلِسِ أَحْمَدَ، كَانَ مَائِلاً إِلَيْهِم، مُقَصِّراً عَنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، وَكَانَ فِيْهِ حِلمٌ، وَلَمْ يَكُنْ بِالعَجُولِ، وَكَانَ كَثِيْرَ التَّوَاضُعِ، تَعْلُوهُ السَّكِينَةُ وَالوَقَارُ، وَإِذَا جَلَسَ فِي مَجْلِسِهِ بَعْدَ العصرِ لِلْفُتْيَا، لاَ يَتَكَلَّمُ حَتَّى يُسْأَلَ، وَإِذَا خَرَجَ إِلَى مَسْجِدِهِ، لَمْ يَتَصَدَّرْ.
وكَانَ يَجتَمِعُ فِي مَجْلِسِ أَحْمَدَ زُهَاءُ خَمْسَةِ آلاَفٍ -أَوْ يَزِيدُوْنَ- نَحْوَ خَمْسِ مائَةٍ يَكْتُبُوْنَ، وَالبَاقُوْنَ يَتَعلَّمُوْنَ مِنْهُ حُسْنَ الأَدَبِ وَالسَّمْتِ.
وقَالَ المَرُّوْذِيُّ: كَانَ أَبُو عَبْدِ اللهِ لاَ يَجْهَلُ، وَإِنْ جُهِلَ عَلَيْهِ، حَلُمَ وَاحتَمَلَ، وَيَقُوْلُ: يَكفِي اللهُ.
وَلَمْ يَكُنْ بِالحَقُودِ وَلاَ العَجُولِ، كَثِيْرَ التَّوَاضُعِ، حَسَنَ الخُلُقِ، دَائِمَ البِشْرِ، لَيِّنَ الجَانِبِ، لَيْسَ بِفَظٍّ، وَكَانَ يُحِبُّ فِي اللهِ، وَيُبَغِضُ فِي اللهِ، وَإِذَا كَانَ فِي أَمرٍ مِنَ الدِّينِ، اشتَدَّ لَهُ غَضبُهُ، وَكَانَ يَحتَمِلُ الأَذَى مِنَ الجِيْرَانِ.
وقَالَ صَالِحُ بنُ أَحْمَدَ: كَانَ أَبِي إِذَا دَعَا لَهُ رَجُلٌ، يَقُوْلُ: الأَعْمَالُ بِخَوَاتيمِهَا.
إمامته وثناء العلماء عليه: قَالَ إِبْرَاهِيْمُ الحَرْبِيُّ: رَأَيْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ، كَأَنَّ اللهَ جَمَعَ لَهُ عِلْمَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ.
قال إسحاق بْن رَاهْوَيْه: كُنْتُ أُجَالِسُ أَحْمَدَ وَابْنَ مَعِيْنٍ، وَنَتَذَاكَرُ، فَأَقُوْلُ: مَا فِقْهُهُ؟ مَا تَفْسِيْرُهُ؟ فَيَسكُتُوْنَ إِلاَّ أَحْمَدَ.
قال وكيع بن الجراح وحفص غياث: مَا قَدِمَ الكُوْفَةَ مِثْلُ ذَاكَ الفَتَى - يَعنِيَانِ: أَحْمَدَ بنَ حَنْبَلٍ -.
قال إسحاق بن رَاهْوَيْه، سَمِعْتُ يَحْيَى بنَ آدَمَ يَقُوْلُ: أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ إِمَامُنَا.
قَالَ يَحْيَى القَطَّانُ: مَا قَدِمَ عَلَيْنَا مِثْلُ هَذَيْنِ؛ أَحْمَدَ، وَيَحْيَى بنِ مَعِيْنٍ، وَمَا قَدِمَ عَلَيَّ مِنْ بَغْدَادَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ.
قَالَ: فَأَقبَلَ أَحْمَدُ، فَقَالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَا بَيْنَ كَتِفَيِ الثَّوْرِيِّ، فَليَنظُرْ إِلَى هَذَا.
قال أبو عاصم النبيل: لَمْ أَرَ مِثْلَ ذَاكَ الفَتَى - يَعنِي: أَحْمَدَ بنَ حَنْبَلٍ -.
قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: إِنْ يَعِشْ هَذَا الرَّجُلُ، يَكُوْنُ خَلَفاً مِنَ العُلَمَاءِ. وقَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَداً أَفقَهَ وَلاَ أَوْرَعَ مِنْ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ.
وَقَالَ الهَيْثَمُ بنُ جَمِيْلٍ الحَافِظُ: إِنْ عَاشَ أَحْمَدُ، سَيَكُوْنُ حُجَّةً عَلَى أَهْلِ زَمَانِهِ.
وَقَالَ قُتَيْبَةُ: خَيْرُ أَهْلِ زَمَاننَا ابْنُ المُبَارَكِ، ثُمَّ هَذَا الشَّابُّ -يَعْنِي: أَحْمَدَ بنَ حَنْبَلٍ- وَإِذَا رَأَيْتَ رَجُلاً يُحِبُّ أَحْمَدَ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ صَاحِبُ سُنَّةٍ.
وَقَالَ حَرْمَلَةُ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُوْلُ: خَرَجتُ مِنْ بَغْدَادَ، فَمَا خَلَّفتُ بِهَا رَجُلاً أَفْضَلَ، وَلاَ أَعْلَمَ، وَلاَ أَفْقَهَ، وَلاَ أَتْقَى مِنْ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ.
وَعَنِ ابْنِ المَدِيْنِيِّ، قَالَ: أَعَزَّ اللهُ الدِّيْنَ بِالصِّدِّيْقِ يَوْمَ الرِّدَّةِ، وَبِأَحْمَدَ يَوْمِ المِحْنَةِ.
وَقَالَ النُّفَيْلِيُّ: كَانَ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ مِنْ أَعْلاَمِ الدِّينِ.
من تواضعه: قَالَ المَرُّوْذِيُّ: رَأَيْتُ طَبِيباً نَصرَانيّاً خَرَجَ مِن عِنْدِ أَحْمَدَ وَمَعَهُ رَاهِبٌ، فَقَالَ: إِنَّهُ سَأَلَنِي أَنْ يَجِيْءَ مَعِي لِيَرَى أَبَا عَبْدِ اللهِ.
وَأَدخلتُ نَصرَانيّاً عَلَى أَبِي عَبْدِ اللهِ، فَقَالَ لَهُ: إِنِّي لأَشتَهِي أَنْ أَرَاك مُنْذُ سِنِيْنَ، مَا بَقَاؤكَ صلاَحٌ لِلإِسْلاَمِ وَحدَهُم، بَلْ لِلْخَلقِ جَمِيْعاً، وَلَيْسَ مِنْ أَصْحَابنَا أَحَدٌ إِلاَّ وَقَدْ رَضِيَ بِكَ، فَقُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللهِ: إِنِّي لأَرجُو أَنْ يَكُوْنَ يُدعَى لَكَ فِي جَمِيْعِ الأَمْصَارِ. فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، إِذَا عَرَفَ الرَّجُلُ نَفْسَه، فَمَا يَنْفَعُه كَلاَمُ النَّاسِ.
من مصنفاته: كَانَ الإِمَامُ لاَ يَرَى وَضْعَ الكُتُبِ، وَيَنْهَى عَنْ كِتْبَةِ كَلاَمِهِ وَمَسَائِلِهِ، وَلَوْ رَأَى ذَلِكَ لَكَانَتْ لَهُ تَصَانِيْفُ كَثِيْرَةٌ، وَصَنَّفَ المُسْنَدَ وَهُوَ ثَلاَثُوْنَ أَلْفَ حَدِيْثٍ، وَكَانَ يَقُوْلُ لاِبْنِهِ عَبْدِ اللهِ: احتَفِظْ بِهَذَا المُسْنَدِ؛ فَإِنَّه سَيَكُوْنُ لِلنَّاسِ إِمَامًا، وَالنَّاسِخَ وَالمَنْسُوْخَ، وَالتَّارِيْخَ، وَحَدِيْثَ شُعْبَةَ، وَالمُقَدَّمَ وَالمُؤَخَّرَ فِي القُرْآنِ، وَجَوَابَاتِ القُرْآنِ، وَالمَنَاسِكَ الكَبِيْرَ وَالصَّغِيْرَ، وَنَفْيَ التَّشبِيهِ، وَالإِمَامَة، وَالرَّدَّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ، وَالزُّهْدَ، وَفَضَائِلَ الصَّحَابَةِ، وَالإِيْمَانَ، وَالأَشْرِبَةَ.
وَقَدْ دَوَّنَ عَنْهُ كِبَارُ تَلاَمِذَتِهِ مَسَائِلَ وَافرَةً فِي عِدَّةِ مُجَلَّدَاتٍ، وَجَمَعَ أَبُو بَكْرٍ الخَلاَّلُ سَائِرَ مَا عِنْدَ هَؤُلاَءِ مِنْ أَقْوَالِ أَحْمَدَ وَفَتَاوِيهِ وَكَلاَمِه فِي العِلَلِ وَالرِّجَالِ وَالسُّنَّةِ وَالفُرُوْعِ، حَتَّى حَصَلَ عِنْدَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا لاَ يُوصَفُ كَثْرَةً، وَرَحَلَ إِلَى النَّوَاحِي فِي تَحْصِيْلِهِ، وَكَتَبَ عَنْ نَحْوٍ مِنْ مائَةِ نَفْسٍ مِنْ أَصْحَابِ الإِمَامِ، ثُمَّ كَتَبَ كَثِيْراً مِنْ ذَلِكَ عَنِ أَصْحَابِ أَصْحَابِهِ، وَبَعْضُه عَنْ رَجُلٍ عَنْ آخَرَ عَنْ آخَرَ عَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ، ثُمَّ أَخَذَ فِي تَرْتِيْبِ ذَلِكَ وَتَهْذِيْبِهِ، وَتَبْوِيبِهِ، وَعَمِلَ كِتَابَ العِلْمِ، وَكِتَابَ العِلَلِ، وَكِتَابَ السُّنَّةِ.
محنة الإمام أحمد رحمه الله
قال الحافظ الذهبي رحمه الله: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً، وَدِينُهُم قَائِماً فِي خِلاَفَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ؛ فَلَمَّا اسْتُشْهِدَ قُفْلُ بَابِ الفِتْنَةِ؛ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَانكسرَ البَابُ، قَامَ رُؤُوْسُ الشَّرِّ عَلَى الشَّهِيْدِ عُثْمَانَ حَتَّى ذُبِحَ صَبراً، وَتَفرَّقتِ الكَلِمَةُ، وَتَمَّتْ وَقعَةُ الجَمَلِ، ثُمَّ وَقعَةُ صِفِّيْنَ؛ فَظَهَرَتِ الخَوَارِجُ، وَكَفَّرتْ سَادَةَ الصَّحَابَةِ، ثُمَّ ظَهَرَتِ الرَّوَافِضُ وَالنَّوَاصِبُ.
وَفِي آخِرِ زَمَنِ الصَّحَابَةِ ظَهرتِ القَدَرِيَّةُ، ثُمَّ ظَهرتِ المُعْتَزِلَةُ بِالبَصْرَةِ، وَالجَهْمِيَّةُ وَالمُجَسِّمَةُ بِخُرَاسَانَ فِي أَثْنَاء عَصرِ التَّابِعِيْنَ مَعَ ظُهورِ السُّنَّةِ وَأَهْلِهَا إِلَى بَعْدِ المائَتَيْنِ، فَظَهَرَ المَأْمُوْنُ الخَلِيْفَةُ - وَكَانَ ذَكِيّاً مُتَكَلِّماً، لَهُ نَظَرٌ فِي المَعْقُوْلِ - فَاسْتجلَبَ كُتبَ الأوَائِلِ، وَعَرَّبَ حِكمَةَ اليُونَانِ، وَقَامَ فِي ذَلِكَ وَقَعَدَ، وَخَبَّ وَوَضَعَ، وَرَفَعَتِ الجَهْمِيَّةُ وَالمُعْتَزِلَةُ رُؤُوْسَهَا، بَلْ وَالشِّيْعَةُ، فَإنَّهُ كَانَ كَذَلِكَ.
وَآلَ بِهِ الحَالُ أَنْ حَمَلَ الأُمَّةَ عَلَى القَوْلِ بِخَلْقِ القُرْآنِ، وَامتَحنَ العُلَمَاءَ، فَلَمْ يُمْهَلْ، وَهَلَكَ لِعَامِه، وَخَلَّى بَعْدَهُ شَرّاً وَبَلاَءً فِي الدِّيْنِ، فَإِنَّ الأُمَّةَ مَا زَالتْ عَلَى أَنَّ القُرْآنَ العَظِيْمَ كَلاَمُ اللهِ -تَعَالَى- وَوَحْيُه وَتَنْزِيْلُه، لاَ يَعْرِفُوْنَ غَيْرَ ذَلِكَ، حَتَّى نَبَغَ لَهُمُ القَوْلُ بِأَنَّهُ كَلاَمُ اللهِ مَخْلُوْقٌ مَجْعُولٌ، وَأنَّه إِنَّمَا يُضَافُ إِلَى اللهِ -تَعَالَى- إِضَافَةَ تَشرِيفٍ، كَبَيتِ اللهِ، وَنَاقَةِ اللهِ. فَأَنكرَ ذَلِكَ العُلَمَاءُ، وَلَمْ تَكُنِ الجَهْمِيَّةُ يَظهرُوْنَ فِي دَوْلَةِ المَهْدِيِّ وَالرَّشِيْدِ وَالأَمِيْنِ، فَلَمَّا وَلِيَ المَأْمُوْنُ كَانَ مِنْهُم وَأَظهرَ المَقَالَةَ.
عَنْ مُحَمَّدِ بنِ نُوْحٍ أَنَّ الرَّشِيْدَ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ بِشْرَ بنَ غِيَاثٍ المَرِيْسِيَّ يَقُوْلُ: القُرْآنُ مَخْلُوْقٌ، فَلِلِّهِ عَلَيَّ إِنْ أَظفَرَنِي بِهِ، لأقْتُلَنَّه.
قَالَ أَبُو الفَرَجِ بنُ الجَوْزِيِّ: خَالَطَه –أي المأمون- قَوْمٌ مِنَ المُعْتَزِلَةِ، فَحَسَّنُوا لَهُ القَوْلَ بِخَلقِ القُرْآنِ، وَكَانَ يَتَرَدَّدُ وَيُرَاقبُ بَقَايَا الشُّيُوْخِ، ثُمَّ قَوِيَ عَزْمُه، وَامتَحَنَ النَّاسَ.
قَالَ صَالِحُ بنُ أَحْمَدَ: ثُمَّ امْتُحِنَ القَوْمُ، وَوُجِّهَ بِمَنْ امتنعَ إِلَى الحَبْسِ، فَأجَابَ القَوْمُ جَمِيْعاً غَيْرَ أَرْبَعَةٍ: أَبِي، وَمُحَمَّدِ بنِ نُوْحٍ، وَالقَوَارِيْرِيِّ، وَالحَسَنِ بنِ حَمَّادٍ سَجَّادَةَ، ثُمَّ أَجَابَ هَذَانِ، وَبَقِيَ أَبِي وَمُحَمَّدٌ فِي الحَبْسِ أَيَّاماً، ثُمَّ جَاءَ كِتَابٌ مِنْ طَرَسُوْسَ بِحَمْلهِمَا مُقَيَّدَيْنِ زَمِيلَينِ.
قِيْلَ للإمام أحمد أَيَّامَ المِحْنَةِ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، أَوَلاَ تَرَى الحَقَّ كَيْفَ ظَهرَ عَلَيْهِ البَاطِلُ؟ قَالَ: كَلاَّ، إِن ظُهورَ البَاطِلِ عَلَى الحَقِّ أَنْ تَنْتَقِلَ القُلُوْبُ مِنَ الهُدَى إِلَى الضَّلاَلَةِ، وَقُلُوْبُنَا بَعْدُ لاَزمَةٌ لِلْحقِّ.
قال أبو جعفر الأنباري: لَمَّا حُمِلَ أَحْمَدُ إِلَى المَأْمُوْنِ، أُخبرتُ، فَعَبَرْتُ الفُرَاتَ، فَإذَا هُوَ جَالِسٌ فِي الخَانِ، فَسَلَّمتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَا أَبَا جَعْفَرٍ، تَعَنَّيْتَ. فَقُلْتُ: يَا هَذَا، أَنْتَ اليَوْمَ رَأسٌ، وَالنَّاسُ يَقتدُوْنَ بِكَ، فَوَ اللهِ لَئِنْ أَجبتَ إِلَى خَلقِ القُرْآنِ، لَيُجِيْبَنَّ خَلقٌ، وَإِنْ أَنْتَ لَمْ تُجِبْ، لَيَمْتَنِعَنَّ خَلْقٌ مِنَ النَّاسِ كَثِيْرٌ، وَمَعَ هَذَا فَإِنَّ الرَّجُلَ إِنْ لَمْ يَقْتُلْكَ فَإِنَّك تَمُوتُ، لاَبُدَّ مِنَ المَوْتِ، فَاتَّقِ اللهَ وَلاَ تُجِبْ. فَجَعَلَ أَحْمَدُ يَبْكِي، وَيَقُوْلُ: مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا جَعْفَرٍ، أَعِدْ عَلَيَّ. فَأَعَدْتُ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَقُوْلُ: مَا شَاءَ اللهُ.
قَالَ صَالِحُ بنُ أَحْمَدَ: حُمِلَ أَبِي وَمُحَمَّدُ بنُ نُوْحٍ مِنْ بَغْدَادَ مُقَيَّدَيْنِ، فَصِرنَا مَعَهُمَا إِلَى الأَنْبَارِ، فَسَألَ أَبُو بَكْرٍ الأَحْوَلُ أَبِي: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، إِنْ عُرِضتَ عَلَى السَّيْفِ، تُجيبُ؟ قَالَ: لاَ.
قَالَ صَالِحُ بنُ أَحْمَدَ: قَالَ أَبِي: فَلَمَّا صِرنَا إِلَى أَذَنَةَ، وَرَحَلنَا مِنْهَا فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، وَفُتِحَ لَنَا بَابُهَا، إِذَا رَجُلٌ قَدْ دَخَلَ، فَقَالَ: البُشْرَىَ! قَدْ مَاتَ الرَّجُلُ -يَعْنِي: المَأْمُوْنَ-. قَالَ أَبِي: وَكُنْتُ أَدعُو اللهَ أَنْ لاَ أَرَاهُ.
وَبَقِيَ أَحْمَدُ مَحبوساً بِالرَّقَّةِ حَتَّى بُوْيِعَ المُعْتَصِمُ إِثرَ مَوْتِ أَخِيْهِ، فَرُدَّ أَحْمَدُ إِلَى بَغْدَادَ، ثم مات صاحبه محمد بن نوح.
قَالَ الإمام أحمد: مَا رَأَيْتُ أَحَداً عَلَى حدَاثَةِ سِنِّهِ، وَقدْرِ عِلمِه أقومَ بأمرِ اللهِ مِنْ مُحَمَّدِ بنِ نُوْحٍ، إِنِّي لأَرْجُو أَنْ يَكُوْنَ قَدْ خُتمَ لَهُ بِخَيْرٍ، قَالَ لِي ذَاتَ يَوْمٍ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، الله الله، إِنَّكَ لَسْتَ مِثْلِي، أَنْتَ رَجُلٌ يُقْتَدَى بِكَ، قَدْ مَدَّ الخَلْقُ أعنَاقَهُم إِلَيْكَ، لِمَا يَكُوْنُ مِنْكَ، فَاتَّقِ اللهَ، وَاثبُتْ لأمرِ اللهِ، أَوْ نَحْوِ هَذَا، فَمَاتَ، وَصَلَّيْتُ عَلَيْهِ، وَدَفنتُه.
قال حَنْبَلٌ: حُبِسَ أَبُو عَبْدِ اللهِ فِي دَارِ عُمَارَةَ بِبَغْدَادَ، فِي إِصْطَبْلِ الأَمِيْرِ مُحَمَّدِ بنِ إِبْرَاهِيْمَ؛ أَخِي إِسْحَاقَ بنِ إِبْرَاهِيْمَ، وَكَانَ فِي حَبْسٍ ضَيِّقٍ، وَمَرِضَ فِي رَمَضَانَ، ثُمَّ حُوِّلَ بَعْدَ قَلِيْلٍ إِلَى سِجْنِ العَامَّةِ، فَمَكَثَ فِي السِّجنِ نَحْواً مِنْ ثَلاَثِيْنَ شَهْراً.
وَكُنَّا نَأْتِيْهِ، فَقَرَأَ عَلَيَّ كِتَابَ الإِرْجَاءِ وَغَيْرَهُ فِي الحَبْسِ، وَرَأَيْتُهُ يُصَلِّي بِهِم فِي القَيْدِ، فَكَانَ يُخرِجُ رِجْلَهُ مِنْ حَلقَةِ القَيدِ وَقْتَ الصَّلاَةِ وَالنَّومِ. قَالَ الإمام أحمد: كُنْتُ أُصلِّي بأَهْلِ السجنِ، وَأَنَا مُقَيَّدٌ.
قَالَ صَالِحُ بنُ أَحْمَدَ: قَالَ أَبِي: كَانَ يُوجَّهُ إِلَيَّ كلَّ يَوْمٍ بِرَجلَيْنِ، أَحَدُهُمَا يُقَالُ لَهُ: أَحْمَدُ بنُ أَحْمَدَ بنِ رَبَاحٍ، وَالآخرُ أَبُو شُعَيْبٍ الحجَّامُ، فَلاَ يَزَالاَنِ يُنَاظرَانِي، حَتَّى إِذَا قَامَا دُعِيَ بِقَيدٍ، فَزِيدَ فِي قُيُودِي، فَصَارَ فِي رِجْلِيَّ أَرْبَعَةُ أَقيَادٍ، فَلَمَّا كَانَ فِي اليَوْمِ الثَّالِثِ، دَخَلَ عَلَيَّ، فَنَاظرَنِي، فَقُلْتُ لَهُ: مَا تَقُوْلُ فِي عِلْمِ اللهِ؟ قَالَ: مَخْلُوْقٌ. قُلْتُ: كَفَرْتَ بِاللهِ، فَقَالَ الرَّسُوْلُ الَّذِي كَانَ يَحضرُ مِنْ قَبْلِ إِسْحَاقَ بنِ إِبْرَاهِيْمَ: إِنَّ هَذَا رَسُوْلُ أَمِيْرِ المُؤْمِنِيْنَ، فَقُلْتُ: إِنَّ هَذَا قَدْ كَفرَ، فَلَمَّا كَانَ فِي اللَّيْلَةِ الرَّابِعَةِ، وَجَّهَ -يَعْنِي: المُعْتَصِمَ- بِبُغَا الكَبِيْرِ إِلَى إِسْحَاقَ، فَأَمرهُ بِحملِي إِلَيْهِ، فَأُدْخِلتُ عَلَى إِسْحَاقَ، فَقَالَ: يَا أَحْمَدُ، إِنَّهَا وَاللهِ نَفْسُك، إِنَّه لاَ يَقتلُك بِالسَّيْفِ، إِنَّهُ قَدْ آلَى إِنْ لَمْ تُجبْه أَنْ يَضْرِبَكَ ضَرباً بَعْدَ ضَربٍ، وَأَنْ يَقْتُلكَ فِي مَوْضِعٍ لاَ يُرَى فِيْهِ شَمسٌ وَلاَ قمرٌ، أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنَا عَرَبِيّاً)، أَفيَكُوْنُ مَجعولاً إِلاَّ مَخْلُوْقاً؟ فَقُلْتُ: فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) أَفَخَلَقَهُم؟ قَالَ: فَسَكَتَ. فَلَمَّا صِرنَا إِلَى المَوْضِعِ المَعْرُوْفِ بِبَابِ البُسْتَانِ، أُخرجتُ، وَجيءَ بدَابَّةٍ، فَأُرْكبتُ وَعَلَيَّ الأَقيَادُ، مَا مَعِي مَنْ يُمْسِكُنِي، فَكِدتُ غَيْرَ مَرَّةٍ أَنْ أَخِرَّ عَلَى وَجْهِي لِثِقَلِ القُيودِ، فَجِيءَ بِي إِلَى دَارِ المُعْتَصِمِ، فَأُدْخِلْتُ حُجْرَةً، ثُمَّ أُدخلتُ بَيتاً، وَأُقفلَ البَابُ عَليَّ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ وَلاَ سرَاجَ، فَأردتُ الوضوءَ، فَمددتُ يَدِي، فَإذَا أَنَا بَإِنَاءٍ فِيْهِ مَاءٌ، وَطسْتٌ مَوْضُوْعٌ، فتوضَّأتُ وَصَلَّيْتُ، فلَمَّا كَانَ مِنَ الغَدِ، أَخْرَجْتُ تِكَّتِي، وَشددتُ بِهَا الأقيَادَ أَحمِلُهَا، وَعَطفتُ سَرَاويلِي. فَجَاءَ رَسُوْلُ المُعْتَصِمِ، فَقَالَ: أَجبْ. فَأَخَذَ بِيَدِي، وَأَدخلَنِي عَلَيْهِ، وَالتِّكَّةُ فِي يَدِي، أَحْمِلُ بِهَا الأقيَادَ، وَإِذَا هُوَ جَالِسٌ، وَأَحْمَدُ بنُ أَبِي دُوَادَ حَاضِرٌ، وَقَدْ جَمَعَ خَلقاً كَثِيْراً مِنْ أَصْحَابِه، فَقَالَ لِي المُعْتَصِمُ: ادنُه، ادنُه، فَلَمْ يَزَلْ يُدْنِينِي حَتَّى قَرُبتُ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: اجلسْ. فَجَلَسْتُ، وَقَد أَثقلتْنِي الأقيَادُ، فَمكثْتُ قَلِيْلاً، ثُمَّ قُلْتُ: أتَأذنُ فِي الكَلاَمِ؟ قَالَ: تَكَلَّمْ. فَقُلْتُ: إِلَى مَا دَعَا اللهُ وَرَسُوْلُه؟ فَسَكَتَ هُنَيَّةً، ثُمَّ قَالَ: إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ، فَقُلْتُ: فَأَنَا أشهدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ، ثُمَّ قُلْتُ: إِنَّ جدَّك ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُوْلُ: لَمَّا قَدِمَ وَفْدُ عَبْد القيسِ عَلَى رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَأَلُوهُ عَنِ الإِيْمَانِ، فَقَالَ: "أَتَدْرُوْنَ مَا الإِيْمَانُ؟" قَالُوا: اللهُ وَرَسُوْلُه أَعْلَمُ. قَالَ: "شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُوْلُ اللهِ، وَإِقَامُ الصَّلاَةِ، وَإِيْتَاءُ الزَّكَاةِ، وَأَنَّ تُعْطُوا الخُمُسَ مِنَ المَغْنَمِ"، قَالَ أَبِي: فَقَالَ -يَعْنِي: المُعْتَصِمَ-: لَوْلاَ أَنِّي وَجَدْتُك فِي يَدِ مَنْ كَانَ قَبلِي، مَا عَرَضتُ لَكَ، ثُمَّ قَالَ: يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بنَ إِسْحَاقَ، أَلَم آمُرْكَ برفعِ المِحْنَةِ؟ فَقُلْتُ: اللهُ أَكْبَرُ! إِنَّ فِي هَذَا لَفَرَجاً لِلْمُسْلِمِيْنَ، ثُمَّ قَالَ لَهُم: نَاظِرُوهُ، وَكَلِّمُوهُ، يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ كَلِّمْه، فَقَالَ: مَا تَقُوْلُ فِي القُرْآنِ؟ قُلْتُ: مَا تَقُوْلُ أَنْتَ فِي عِلمِ اللهِ؟ فَسَكَتَ، فَقَالَ لِي بَعْضُهُم: أَلَيْسَ قَالَ اللهُ تَعَالَى: (اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)، وَالقُرْآنُ أَلَيْسَ شَيْئاً؟ فَقُلْتُ: قَالَ اللهُ: (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ)، فَدَمَّرتْ إِلاَّ مَا أَرَادَ اللهُ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: (مَا يَأْتِيْهِم مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ)، أَفَيَكُوْنُ مُحدَثٌ إِلاَّ مَخْلُوْقاً؟ فَقُلْتُ: قَالَ اللهُ: (ص، وَالقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ)، فَالذِّكرُ هُوَ القُرْآنُ، وَتِلْكَ ليسَ فِيْهَا أَلفٌ وَلاَمٌ. وَذَكرَ بَعْضُهُم حَدِيْثَ عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ: إِنَّ اللهَ خَلَقَ الذِّكْرَ، فَقُلْتُ: هَذَا خَطأٌ، حَدَّثَنَا غَيْرُ وَاحِدٍ: "إِنَّ اللهَ كَتَبَ الذِّكْرَ"، وَاحتجُوا بِحَدِيْثِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ: "مَا خَلَقَ اللهُ مِنْ جَنَّةٍ وَلاَ نَارٍ وَلاَ سَمَاءٍ وَلاَ أَرْضٍ أَعْظَمَ مِنْ آيَةِ الكُرْسِيِّ".
فَقُلْتُ: إِنَّمَا وَقَعَ الخَلْقُ عَلَى الجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالسَّمَاءِ وَالأرضِ، وَلَمْ يَقَعْ عَلَى القُرْآنِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: حَدِيْث خَبَّابٍ: "يَا هَنَتَاهُ، تَقَرَّبْ إِلَى اللهِ بِمَا اسْتَطَعْتَ، فَإِنَّكَ لَنْ تَتَقَّربَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ كَلاَمِهِ". فَقُلْتُ: هَكَذَا هُوَ. قَالَ صَالِحٌ: وَجَعَلَ ابْنُ أَبِي دُوَادَ يَنْظُرُ إِلَى أَبِي كَالمُغْضَبِ، قَالَ أَبِي: وَكَانَ يَتَكَلَّمُ هَذَا، فَأَرُدُّ عَلَيْهِ، وَيَتَكَلَّمُ هَذَا، فَأَرُدُّ عَلَيْهِ، فَإِذَا انْقَطَعَ الرَّجُلُ مِنْهُم، اعترضَ ابْنُ أَبِي دُوَادَ، فَيَقُوْلُ: يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ، هُوَ -وَاللهِ- ضَالٌّ مُضِلٌّ مُبْتَدِعٌ! فَيَقُوْلُ: كَلِّمُوهُ، نَاظِروهُ، فَيكلِّمُنِي هَذَا، فَأردُّ عَلَيْهِ، وَيكلُّمنِي هَذَا، فَأردُّ عَلَيْهِ، فَإذَا انقطَعوا، يَقُوْلُ المُعْتَصِمُ: وَيْحَكَ يَا أَحْمَدُ! مَا تَقُوْلُ؟ فَأَقُوْلُ: يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ، أَعطُونِي شَيْئاً مِنْ كِتَابِ اللهِ أَوْ سُنَّةِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَقُوْلَ بِهِ.
قَالَ صَالِحٌ: وَجَعَلَ ابْنُ أَبِي دُوَادَ يَقُوْلُ: يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ، وَاللهِ لَئِنْ أَجَابَكَ، لَهُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَلفِ دِيْنَارٍ، وَمائَةِ أَلْفِ دِيْنَارٍ، فَيَعُدُّ مِنْ ذَلِكَ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَعُدَّ، فَقَالَ: لَئِنْ أَجَابَنِي لأُطْلِقَكُنَّ عَنْهُ بِيَدِي، وَلأَرْكَبَنَّ إِلَيْهِ بِجُندِي، وَلأَطَأَنَّ عَقِبَهُ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَحْمَدُ، وَاللهِ إِنِّي عَلَيْكَ لَشَفِيْقٍ، وَإِنِّي لأُشْفِقُ عَلَيْكَ كَشَفقتِي عَلَى ابْنِي هَارُوْنَ، مَا تَقُوْلُ؟ فَأَقُوْلُ: أَعطُونِي شَيْئاً مِنْ كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ.
ثم استمرت مناظرتهم للإمام أحمد أيامًا، حتى كانوا يذهبون إليه ليلاً في السجن، فأظهره الله عليهم وأسكتهم، ولا زالوا بالمعتصم حتى خرج بالإمام أحمد وأمر الجلادين أن يجلدوه ففعلوا.
وَجَعَلَ عُجَيْفٌ يَنخَسُ الإمام بقَائِمَةِ سيفِه، وَيقول: أَتُريدُ أَنْ تَغْلِبَ هَؤُلاَءِ كُلَّهُم؟ وَجَعَلَ بَعْضُهُم يَقُوْلُ: وَيْلَكَ! إِمَامُكَ عَلَى رَأْسكَ قَائِمٌ، وَقَالَ بَعْضُهُم: يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ، دمُه فِي عُنُقِي، اقْتُلْهُ، وَجَعَلُوا يَقُوْلُوْنَ: يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ، أَنْتَ صَائِمٌ، وَأَنْتَ فِي الشَّمْسِ قَائِمٌ! والمعتصم يقول: وَيْحَكَ يَا أَحْمَدُ، مَا تَقُوْلُ؟ فيقول الإمام: أَعطُونِي شَيْئاً مِنْ كِتَابِ اللهِ أَوْ سُنَّةِ رَسُوْلِ اللهِ أَقُوْلُ بِهِ.
قَالَ حَنْبَلٌ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ يَقُوْلُ: ذَهبَ عقلِي مِرَاراً، فَكَانَ إِذَا رُفعَ عَنِّي الضَّربُ، رَجعتْ إِلَيَّ نَفْسِي، وَإِذَا اسْترخيتُ وَسقطتُ، رُفِعَ الضَّربُ، أَصَابَنِي ذَلِكَ مِرَاراً.
قال الإمام أحمد: ثُمَّ جِيْءَ بِي إِلَى دَارِ إِسْحَاقَ بنِ إِبْرَاهِيْمَ، فَحضرتُ الظّهرَ، فَتَقَدَّمَ ابْنُ سِمَاعَةَ، فَصَلَّى، فَلَمَّا انْفَتَلَ مِنْ صَلاَتِه، وَقَالَ لِي: صَلَّيْتَ، وَالدَّمُ يَسيلُ فِي ثَوبِكَ؟ قُلْتُ: قَدْ صَلَّى عُمَرُ وَجُرحُه يَثعَبُ دَماً.
قَالَ صَالِحٌ: ثُمَّ خُلِّيَ عَنْهُ، فَصَارَ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَكَانَ مَكثُه فِي السجنِ مُنْذُ أُخذَ إِلَى أَنْ ضُربَ وَخُلِّيَ عَنْهُ، ثَمَانِيَةً وَعِشْرِيْنَ شَهْراً.
وَرَأَيْتُه -يَعْنِي: المُعْتَصِمَ- قَاعِداً فِي الشَّمْسِ بِغَيْرِ مِظَلَّةٍ، فَسَمِعْتُه -وَقَد أَفقتُ- يَقُوْلُ لاِبْنِ أَبِي دُوَادَ: لَقَدِ ارتكبتُ إِثْماً فِي أَمرِ هَذَا الرَّجُلِ.
فَقَالَ: يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ، إِنَّهُ -وَاللهِ- كَافِرٌ مُشرِكٌ، قَدْ أَشرَكَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ. فَلاَ يزَالُ بِهِ حَتَّى يَصرِفَه عَمَّا يُرِيْدُ. وَقَدْ كَانَ أَرَادَ تَخلِيَتِي بِلاَ ضَربٍ، فَلَمْ يَدعْه، وَلاَ إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيْمَ.
ثم خلى المُعْتَصِمُ سبيل الإمام أحمد وَأمرَ إِسْحَاقَ بنَ إِبْرَاهِيْمَ أَنْ لاَ يقطعَ عَنْهُ خَبَرَهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تُرِكَ عِنْدَ الإِيَاسِ مِنْهُ.
قَالَ أَبُو الفَضْلِ صَالِحٌ: خُلِّيَ عَنْهُ، فَصَارَ إِلَى المَنْزِلِ، وَوُجِّهَ إِلَى المَطبقِ، فَجِيْءَ برجلٍ مِمَّنْ يبصرُ الضَّربَ وَالعلاجَ، فَنَظَر إِلَى ضربِه، فَقَالَ: قَدْ رَأَيْتُ مَنْ ضُربَ أَلفَ سوطٍ، مَا رأيتُ ضرباً مِثْلَ هَذَا، لَقَدْ جُرَّ عَلَيْهِ مِنْ خَلْفِه، وَمِن قُدَّامه، ثُمَّ أَخذَ مِيلاً، فَأدخَلَه فِي بَعْضِ تِلْكَ الجرَاحَاتِ، فَنَظَر إِلَيْهِ، فَقَالَ: لَمْ يُنْقَبْ؟ وَجَعَلَ يَأتيه، وَيعَالِجُه.
قال الإمام أحمد: لَقَدْ جَعَلتُ المَيِّتَ فِي حِلٍّ مِنْ ضَربِه إِيَّايَ. ثُمَّ قَالَ: مَرَرْتُ بِهَذِه الآيَةِ: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ، فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ)، فَنَظَرتُ فِي تَفْسِيْرهَا، فَإذَا هُوَ مَا أَخْبَرَنَا هَاشِمُ بنُ القَاسِمِ، أَخْبَرَنَا المُبَارَكُ بنُ فَضَالَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ الحَسَنَ يَقُوْلُ: إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ، جَثتِ الأُمَمُ كُلُّهَا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ رَبِّ العَالِمِيْنَ، ثُمَّ نُودِيَ أَنْ لاَ يقومَ إِلاَّ مَنْ أَجرُه عَلَى اللهِ، فَلاَ يَقومُ إِلاَّ مَنْ عَفَا فِي الدُّنْيَا.
قَالَ: فَجَعَلتُ المَيِّتَ فِي حِلٍّ. ثُمَّ قَالَ: وَمَا عَلَى رَجُلٍ أَنْ لاَ يُعَذِّبَ اللهُ بِسَبِبِهِ أَحَداً.
قَالَ حَنْبَلٌ: لَمْ يَزَلْ أَبُو عَبْدِ اللهِ بَعْدَ أَنْ بَرِئَ مِنَ الضَّربِ يَحضرُ الجُمُعَةَ وَالجَمَاعَةَ، وَيُحَدِّثُ وَيُفْتِي، حَتَّى مَاتَ المُعْتَصِمُ، وَوَلِيَ ابْنُهُ الوَاثِقُ، فَأَظهَرَ مَا أَظهرَ مِنَ المِحْنَةِ وَالمَيلِ إِلَى أَحْمَدَ بنِ أَبِي دُوَادَ وَأَصْحَابِه؛ فَلَمَّا اشتدَّ الأَمْرُ عَلَى أَهْلِ بَغْدَادَ، وَأَظْهَرتِ القُضَاةُ المِحْنَةَ بِخلقِ القُرْآنِ، وَفُرِّقَ بَيْنَ فَضْلٍ الأَنْمَاطِيِّ وَبَيْنَ امْرَأَتِه، وَبَيْنَ أَبِي صَالِحٍ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، كَانَ أَبُو عَبْدِ اللهِ يَشْهَدُ الجُمُعَةَ، وَيُعِيدُ الصَّلاَةَ إِذَا رَجَعَ، وَيَقُوْلُ: تُؤْتَى الجُمُعَةُ لِفَضلِهَا، وَالصَّلاَةُ تُعَادُ خَلْفَ مَنْ قَالَ بِهَذِهِ المَقَالَةِ.
وَجَاءَ نَفرٌ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللهِ، وَقَالُوا: هَذَا الأَمْرُ قَدْ فَشَا وَتفَاقمَ، وَنَحْنُ نَخَافُه عَلَى أَكْثَرَ مِنْ هَذَا، وَذَكَرُوا ابْنَ أَبِي دُوَادَ، وَأَنَّهُ عَلَى أَنْ يَأْمُرَ المُعَلِّمِيْنَ بِتعَلِيْمِ الصِّبْيَانِ فِي المكَاتِبِ: القُرْآنُ كَذَا وَكَذَا، فَنَحْنُ لاَ نَرضَى بِإِمَارَتِه، فَمَنَعهُم مِنْ ذَلِكَ، وَنَاظَرَهُم.
قَالَ حَنْبَلٌ: فَبَينَا نَحنُ فِي أَيَّامِ الوَاثِقِ، إِذ جَاءَ يَعْقُوْبُ لَيلاً بِرِسَالَةِ الأَمِيْرِ إِسْحَاقَ بنِ إِبْرَاهِيْمَ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللهِ: يَقُوْلُ لَكَ الأَمِيْرُ: إِنَّ أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ قَدْ ذَكَرَكَ، فَلاَ يَجتَمِعَنَّ إِلَيْكَ أَحَدٌ وَلاَ تُسَاكِنِّي بِأَرْضٍ وَلاَ مَدينَةٍ أَنَا فِيْهَا، فَاذهبْ حَيْثُ شِئْتَ مِنْ أَرضِ اللهِ، قَالَ: فَاختَفَى أَبُو عَبْدِ اللهِ بَقِيَّةَ حَيَاةِ الوَاثِقِ.
مرضه ووفاته رحمه الله
مَرَضُهُ: قَالَ صَالِحٌ: لَمَّا كَانَ أَوّلُ رَبِيْعٍ الأَوَّلِ مَنْ سَنَةِ إِحْدَى وَأَرْبَعِيْنَ وَمائَتَيْنِ، حُمَّ أَبِي لَيْلَةَ الأَربِعَاءِ، وَبَاتَ وَهُوَ مَحمُومٌ، يَتَنَفَّسُ تَنَفُّساً شَدِيْداً، وَكُنْتُ قَدْ عَرَفتُ عِلَّتَه، وَكُنْتُ أُمَرِّضُه إِذَا اعْتَلَّ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَةِ، عَلَى مَا أَفطَرتَ البَارِحَةَ؟ قَالَ: عَلَى مَاءِ باقِلَّى. ثُمَّ أَرَادَ القِيَامَ، فَقَالَ: خُذْ بِيَدِي. فَأَخَذتُ بِيَدِهِ، فَلَمَّا صَارَ إِلَى الخَلاَءِ، ضَعُفَ، وَتَوَكَّأَ عَلَيَّ، وَكَانَ يَخْتَلِفُ إِلَيْهِ غَيْرُ مُتَطَبِّبٍ كُلُّهُم مُسلِمُوْنَ، فَوَصَفَ لَهُ مُتَطَبِّبٌ قَرْعَةً تُشوَى، وَيُسقَى مَاءَهَا.
وقبيل موته كَثُرَ النَّاسُ وأرادوا زيارته، فَقَالَ صالح: فَمَا تَرَى؟ قُلْتُ: تَأذَنُ لَهُم، فَيَدعُونَ لَكَ. قَالَ: أَسْتَخيرُ اللهَ. فَجَعَلُوا يَدخُلُوْنَ عَلَيْهِ أَفوَاجاً، حَتَّى تَمتَلِئَ الدَّارُ، فَيَسْأَلُوْنَه، وَيَدْعُونَ لَهُ، وَيَخرُجُوْنَ، وَيَدْخُلُ فَوجٌ، وَكَثُرُ النَّاسُ، وَامتَلأَ الشَّارِعُ، وَأَغلَقْنَا بَابَ الزُّقَاقِ، وَجَاءَ جَارٌ لَنَا قَدْ خَضَبَ، فَقَالَ أَبِي: إِنِّي لأَرَى الرَّجُلَ يُحيِي شَيْئاً مِنَ السُّنَّةِ، فَأَفْرَحُ بِهِ، فَقَالَ لِي: وَجِّهْ فَاشْتَرِ تَمْراً، وَكَفِّرْ عَنِّي كَفَّارَةَ يَمِيْنٍ، قَالَ: فَبَقِيَ فِي خُرَيْقَتِهِ نَحْوُ ثَلاَثَةِ دَرَاهِمَ. فَأَخْبَرتُهُ، فَقَالَ: الحَمْدُ للهِ. وَقَالَ: اقْرَأْ عَلَيَّ الوَصِيَّةَ. فَقَرَأْتُهَا، فَأَقَرَّهَا. وكُنْت أَنَامُ إِلَى جَنْبِهِ، فَإِذَا أَرَادَ حَاجَةً، حَرَّكَنِي فَأُنَاوِلُه، وَجَعَلَ يُحرِّكُ لِسَانَه، وَلَمْ يَئِنَّ إِلاَّ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي تُوُفِّيَ فِيْهَا، وَلَمْ يَزَلْ يُصَلِّي قَائِماً، أُمْسِكُهُ فَيَركَعُ وَيَسجُدُ، وَأَرفَعُهُ فِي رُكُوْعِهِ.
قَالَ: وَلَمْ يَزَلْ عَقلُه ثَابِتاً، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الجُمُعَةِ، لاِثْنَتَي عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَبِيْعٍ الأَوَّلِ، لِسَاعَتَيْنِ مِنَ النَّهَارِ، تُوُفِّيَ.
قال المَرُّوْذِيُّ: أُخرِجَتِ الجَنَازَةُ بَعْد مُنصَرَفِ النَّاسِ مِنَ الجُمُعَةِ.
قَالَ عَبْدُ اللهِ: صَلَّى علَى أَبِي مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ طَاهِرٍ، غَلَبَنَا عَلَى الصَّلاَةِ عَلَيْهِ، وَقَدْ كُنَّا صَلَّينَا عَلَيْهِ نَحْنُ وَالهَاشَمِيُّونَ فِي الدَّارِ.
وَقَالَ صَالِحٌ: وَجَّهَ ابْنُ طَاهِرٍ إِلَيَّ: مَنْ يُصَلِّي عَلَى أَبِي عَبْدِ اللهِ؟ قُلْتُ: أَنَا، فَلَمَّا صِرْنَا إِلَى الصَّحْرَاءِ، إِذَا بِابْنِ طَاهِرٍ وَاقِفٌ، فَخَطَا إِلَيْنَا خُطُوَاتٍ، وَعَزَّانَا، وَوُضَعَ السَّرِيْرُ، فَلَمَّا انتَظَرتُ هُنَيَّةً، تَقَدَّمتُ، وَجَعَلنَا نُسَوِّي الصُّفُوفَ، فَجَاءَنِي ابْنُ طَاهِرٍ، فَقَبَضَ هَذَا عَلَى يَدِي، وَمُحَمَّدُ بنُ نَصْرٍ عَلَى يَدِي، وَقَالُوا: الأَمِيْرُ. فَمَانَعْتُهُم، فَنَحَّيَانِي وَصَلَّى هُوَ، وَلَمْ يَعلَمِ النَّاسُ بِذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ فِي الغَدِ، عَلِمُوا، فَجَعَلُوا يَجِيْئُونَ، وَيُصَلُّوْنَ عَلَى القَبْرِ، وَمَكَثَ النَّاسُ مَا شَاءَ اللهُ، يَأْتُوْنَ فَيُصَلُّوْنَ عَلَى القَبْرِ. قَالَ الخَلاَّلُ: سَمِعْتُ عَبْدَ الوَهَّابِ الوَرَّاقَ يَقُوْلُ: مَا بَلَغنَا أَنَّ جَمعاً فِي الجَاهِلِيَّةِ وَلاَ الإِسْلاَمِ مِثْلُهُ -يَعْنِي: مَنْ شَهِدَ الجَنَازَةَ- حَتَّى بَلَغَنَا أَنَّ المَوْضِعَ مُسِحَ وَحُزِرَ عَلَى الصَّحِيْحِ، فَإذَا هُوَ نَحْوٌ مِنْ أَلفِ أَلفٍ.
قال عبد الله بن أحمد: سَمِعْتُ أَبِي يَقُوْلُ: قُولُوا لأَهْلِ البِدَعِ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُم يَوْمَ الجنَائِزِ.
وعن صالح قال: وبعد أيام جاء كتاب المتوكل على الله إلى ابن طاهر يأمره بتعزيتنا وأمر بحمل الكتب قال فحملتها وقلت إنها لنا سماع فتكون في أيدينا وتنسخ عندنا فقال أقول لأمير المؤمنين فلم يزل يدافع الأمير ولم تخرج عن أيدينا والحمد لله.
مع تحيات
اللجنة العلمية لملتقى الخطيب المؤثر أسد المنابر