الأربعاء ، ٢ جمادى الآخر ، ١٤٤٦ هجري | 04 ديسمبر 2024 ميلادي
السنة النبوية وحي رباني
وصف الخطبة : - بيان حجية السنة وكونها وحي من الله تعالى، والترهيب من جحدها، والرد على منكريها والطاعنين فيها.

عنوان الخطبة ((السنة النبوية وحي رباني))
الهدف من الخطبة بيان حجية السنة وكونها وحي من الله تعالى، والترهيب من جحدها، والرد على منكريها والطاعنين فيها.
عناصر الموضوع
1- أعداء السنة أعداء النبوة.
2- السنة وحي رباني.
3- إفلاسهم إلا من الهوى 
مقدمة الموضوع : أما بعد، قال الله تعالى: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: وَقَوْلُهُ: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ}، أَيْ: عَنْ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سبيله هو وَمِنْهَاجُهُ وَطَرِيقَتُهُ وَسُنَّتُهُ وَشَرِيعَتُهُ، فَتُوزَنُ الْأَقْوَالُ وَالْأَعْمَالُ بِأَقْوَالِهِ وَأَعْمَالِهِ، فَمَا وَافَقَ ذَلِكَ قُبِل، وَمَا خَالَفَهُ فَهُوَ مَرْدُود عَلَى قَائِلِهِ وَفَاعِلِهِ، كَائِنًا مَا كَانَ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ عَمِلَ عَمَلا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدّ"، أَيْ: فَلْيَحْذَرْ وليخْشَ مَنْ خَالَفَ شَرِيعَةَ الرَّسُولِ بَاطِنًا أَوْ ظَاهِرًا {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ}، أَيْ: فِي قُلُوبِهِمْ، مِنْ كُفْرٍ أَوْ نِفَاقٍ أَوْ بِدْعَةٍ، {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، أَيْ: فِي الدُّنْيَا، بِقَتْلٍ، أَوْ حَد، أَوْ حَبْسٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. انتهى.
أعداء السنة أعداء النبوة
قال الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى}، أَيْ: وَمَنْ سَلَكَ غَيْرَ طَرِيقِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَارَ فِي شِقٍّ وَالشَّرْعُ فِي شِقٍّ، وَذَلِكَ عَنْ عَمْدٍ مِنْهُ بَعْدَمَا ظَهَرَ لَهُ الْحَقُّ وَتَبَيَّنَ لَهُ وَاتَّضَحَ لَهُ. وَقَوْلُهُ: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ}، هَذَا مُلَازِمٌ لِلصِّفَةِ الْأُولَى، وَلَكِنْ قَدْ تَكُونُ الْمُخَالَفَةُ لِنَصِّ الشَّارِعِ، وَقَدْ تَكُونُ لِمَا أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ، فِيمَا عُلِمَ اتِّفَاقُهُمْ عَلَيْهِ تَحْقِيقًا، فَإِنَّهُ قَدْ ضُمِنت لَهُمُ الْعِصْمَةُ فِي اجْتِمَاعِهِمْ مِنَ الْخَطَأِ، تشريفًا لهم وتعظيمًا لنبيهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ وَرَدَتْ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ كَثِيرَةٌ. 
قال: وَالَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الِاحْتِجَاجِ عَلَى كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً تَحْرُم مُخَالَفَتُهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ بَعْدَ التَّرَوِّي وَالْفِكْرِ الطَّوِيلِ. وَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ الِاسْتِنْبَاطَاتِ وَأَقْوَاهَا.
قال: وَلِهَذَا تَوَعَّدَ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}، أَيْ: إِذَا سَلَكَ هَذِهِ الطَّرِيقَ جَازَيْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ، بِأَنْ نُحْسِّنَهَا فِي صَدْرِهِ وَنُزَيِّنَهَا لَهُ -اسْتِدْرَاجًا لَهُ- كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ}، وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}، وَقَوْلُهُ: {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}. وَجَعْلَ النَّارَ مَصِيرَهُ فِي الْآخِرَةِ، لِأَنَّ مَنْ خَرَجَ عَنِ الْهُدَى لَمْ يَكُنْ لَهُ طَرِيقٌ إِلَّا إِلَى النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. انتهى باختصار.
وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ . وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ}.
أي قدَّرنا أن يكون لكل نبي أعداءً من شياطين الإنس ومن شياطين الجن، يعادون الأنبياء ويكذبون الوحي، ويردون الرسالة، ويجحدون الحق والهدى، ويؤمنون بالباطل والضلال، وينصرون الشهوات والأهواء، قَالَ عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ}، وهؤلاء الشياطين {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا}، أَيْ: يُلْقِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ الْمُزَيَّنَ الْمُزَخْرَفَ، وَهُوَ الْمُزَوَّقُ الَّذِي يَغْتَرُّ سَامِعُهُ مِنَ الْجَهَلَةِ بِأَمْرِهِ، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} أَيْ: وَذَلِكَ كُلُّهُ بِقَدَرِ اللَّهِ وَقَضَائِهِ وَإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ نَبيّ عَدُوٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ، {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ}، أَيْ: فَدَعْهُمْ ومَا يَكْذِبُونَ، أَيْ: دَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فِي عَدَاوَتِهِمْ، فَإِنَّ اللَّهَ كَافِيكَ وَنَاصِرُكَ عَلَيْهِمْ.
السنة وحي رباني
إن دين الإسلام هو أعظم الأديان، وشريعته أعظم الشرائع، ومنهجه أسمى المناهج، وكل دين سواه باطل، وقد أنزل الله تعالى على نبينا محمد صلى الله عليه وسلمَ أعظم كتاب وأشمله وأكمله إنه القرآن الكريم الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}، ولما أعجز القرآنُ المشركين وأهلَ الباطل والضلال وأذلهم وفضحهم، لم يجدوا سبيلاً إلى النيل منه إلا أن يحتالوا على الطعن فيه بطرق شتى يُلَبِّسُون ويُدَلِّسُون على الناس، ويفتنون ضعاف النفوس، ومن ذلك الطعن في القرآن تارة، وفي السنة تارة، وفي الصحابة تارة، وفي رواة الحديث والعلماء تارة، وفي كتب الحديث والفقه والتفسير وعلوم الشريعة أخرى، ولا زال الصراع؛ ولأن القرآن المجيد أعظم شيء عندنا نحن المسلمون فإن من سبل شياطين الإنس والجن أن يستغلوا محبة المسلمين للقرآن العظيم فيزعمون أن القرآن يغني عن السنة وأننا لسنا في حاجة إلى كلام النبي صلى الله عليه وسلمَ أو أفعاله أو تقريراته أو أخلاقه أو معاملاته ونحو ذلك، وهذا الجحد كفر وضلال ومبين، ولا يتبع هؤلاء إلا ضعاف النفوس وأهل الأهواء ومن لا فهم لهم ولا عقل؛ لأن مصدر التشريع واحد، وهو النبي صلى الله عليه وسلمَ حيث بلغنا السنة كما بلغنا القرآن فمن رد أحدهما فقد رد الآخر.
هذا والأدلة كثيرة جدًا على أن السنة وحي من الله تعالى، وأنها حجة في العقيدة والأحكام والأخبار وأمور الشرع كالقرآن، ومن ذلك:
أولاً: الإجماع على حجية السنة والوعيد الشديد على مخالفتها: قال الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}. هذا جزاء من عاند وخالف الرسول عليه الصلاة والسلام بعدما تبين له الحق، واتبع سبل الشياطين وترك سبيل المؤمنين، ولا يكون هذا الوعيد الشديد إلا على منكر عظيم. 
ثانيًا: السنة من الوحي الذي أنزله الله على رسوله وهي بيان للقرآن: قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}؛ فالذكر هنا هو القرآن أو السنة، وأيًا كان فإن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان مُبَيِّنًا لِلْوَحْيِ، وَالْبَيَانُ الصَحِيحُ لِلْكِتَابِ يُطْلَبُ مِنَ السُّنَّةِ، وإلا فلن يفهم القرآن على مراده الذي نزل به؛ لأن سبيل بيانه وفهمه هو السنة، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ}، فأخبر تعالى أن كلام نبيه صلى الله عليه وسلم كله وحي، وقد أمر الله تعالى نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقول: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ}.
ثالثًا: قال الله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}، وقال سبحانه: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}، وقال تبارك وتعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا}، وقال عز وجل: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ . هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}؛ فالكتاب في الآيات هو القرآن الكريم، والحكمة هي السنة النبوية، فمن النعم العظيمة التي امتن الله بها على هذه الأمة أنه أرسل إلينا رسولاً يتلو علينا القرآن والسنة ويعلمنا القرآن والسنة.
رابعًا: قال تعالى: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى}، وقال سبحانه: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى . مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى . وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى . إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}. فيه الشَّهَادَةُ لِلرَّسُولِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، بِأَنَّهُ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ، لَيْسَ بِضَالٍّ، وَهُوَ: الْجَاهِلُ الَّذِي يسلك على غير طريق بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَالْغَاوِي: هُوَ الْعَالِمُ بِالْحَقِّ الْعَادِلُ عَنْهُ قَصْدًا إِلَى غَيْرِهِ، فَنَزَّهَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رَسُولَهُ وشَرْعَه عَنْ مُشَابَهَةِ أَهْلِ الضَّلَالِ كَالنَّصَارَى وَطَرَائِقِ الْيَهُودِ، وَعَنْ عِلْمِ الشَّيْءِ وَكِتْمَانِهِ وَالْعَمَلِ بِخِلَافِهِ، بَلْ هُوَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَمَا بَعَثَهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الشَّرْعِ الْعَظِيمِ فِي غَايَةِ الِاسْتِقَامَةِ وَالِاعْتِدَالِ وَالسَّدَادِ. 
خامسًا: الأمر بالأخذ بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلمَ والانتهاء عن كل ما نهى عنه: قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}، قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان: الْوَاقِعُ أَنَّ الْعَمَلَ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ هُوَ مِنْ لَوَازِمِ نُطْقِ الْمُسْلِمِ بِالشَّهَادَتَيْنِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، اعْتِرَافٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِالْأُلُوهِيَّةِ وَبِمُسْتَلْزَمَاتِهَا، وَمِنْهَا إِرْسَالُ الرُّسُلِ إِلَى خَلْقِهِ، وَإِنْزَالُ كُتُبِهِ وَقَوْلَهُ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، اعْتِرَافٌ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ اللَّهِ لِخَلْقِهِ، وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ الْأَخْذَ بِكُلِّ مَا جَاءَ بِهِ هَذَا الرَّسُولُ الْكَرِيمُ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ إِلَّا بِمَا جَاءَهُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ، وَلَا يَحِقُّ لَهُ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ بِمَا نَهَاهُ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ، فَهِيَ بِحَقٍّ مُسْتَلْزِمٌ لِلنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ.
سادسًا: الاقتران الواجب بين الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلمَ، وبين طاعة الله جل وعلا وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلمَ: قَالَ الإِمَام الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ فِي الرسَالَة: وضع اللهُ رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من دينه وفرضه وَكتابه الْموضع الَّذِي أبان جلّ ثَنَاؤُهُ أَنه جعله عَلَمًا لدينِهِ، بِمَا افْترض من طَاعَته وَحرم من مَعْصِيَته، وَأَبَان من فضيلته بِمَا قرن بَين الْإِيمَان بِرَسُولِهِ مع الْإِيمَان بِهِ؛ فَقَالَ تبَارك وَتَعَالَى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ}، وَقَالَ عز وَجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ}؛ فَجعل كَمَال ابْتِدَاء الْإِيمَان الَّذِي مَا سواهُ تبع لَهُ الْإِيمَان بِاللَّه ثمَّ بِرَسُولِهِ مَعَه. انتهى.
وقد جعل الله تعالى طاعة رسوله من طاعته سبحانه؛ فقال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا}، وأمر الله تعالى بالاستجابة لأمره وأمر رسوله صلى الله عليه وسلمَ، وجعل عظيم الأجر على طاعته وطاعة رسوله، وحذر من مخالفة ذلك، وجعل له عقابًا شديدًا، قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ}، وقال عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ . وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ . إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ . وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ . يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ . وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.
سابعًا: من علامات وصفات من يرجو الله واليوم الآخر التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلمَ: قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ أَصْلٌ كَبِيرٌ فِي التَّأَسِّي بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْوَالِهِ؛ وَلِهَذَا أُمِرَ النَّاسُ بِالتَّأَسِّي بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ، فِي صَبْرِهِ وَمُصَابَرَتِهِ وَمُرَابَطَتِهِ وَمُجَاهَدَتِهِ وَانْتِظَارِهِ الْفَرَجَ مِنْ رَبِّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ دَائِمًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ. انتهى.
ثامنًا: الأمر بالرد إلى الكتاب والسنة عند التنازع، والأمر بالتحاكم إلى الرسول صلى الله عليه وسلمَ واشتراطه في الإيمان: قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}، وقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}؛ فأمر الله تعالى المؤمنين بطاعة الله ورسوله مطلقًا، وبطاعة العلماء والأمراء في المعروف والطاعة دون المنكر والمعصية، ثم أمرنا عند التنازع بالرجوع إلى قول الله تعالى في كتابه، وإلى رسوله صلى الله عليه وسلمَ في حياته وإلى سنته بعد وفاته صلى الله عليه وسلمَ.
تاسعًا: جعل الله تعالى اتباعَ رسوله من شروط محبته ومغفرته للعبد، ومن شروط صدق محبة العبد لله تعالى: قال سبحانه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ . قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ}.
عاشرًا: النهي عن تقديم الرأي والعقل على الكتاب والسنة: قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، قال ابْنُ القيم رحمه الله: أَيْ لَا تَقُولُوا حَتَّى يَقُولَ، وَلَا تَأْمُرُوا حَتَّى يَأْمُرَ، وَلَا تُفْتُوا حَتَّى يُفْتِيَ، وَلَا تَقْطَعُوا أَمْرًا حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَحْكُمُ فِيهِ وَيَمْضِيهِ، رَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَا تَقُولُوا خِلَافَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. انتهى من إعلام الموقعين.
حادي عشر: ترتيب العقاب على مخالفة أمر الله تعالى أو أمر رسوله صلى الله عليه وسلمَ: قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، وقال عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا}.
ثاني عشر: وكما أن السنة وحي بنص القرآن، فهي وحي بنص السنة: فَعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ، وَمِثْلَهُ مَعَهُ، أَلَا يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانُ عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ، وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ؛ أَلَا لَا يَحِلُّ لَكُمْ لَحْمُ الْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ، وَلَا كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السَّبُعِ، وَلَا لُقَطَةُ مُعَاهِدٍ، إِلَّا أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا صَاحِبُهَا، وَمَنْ نَزَلَ بِقَوْمٍ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَقْرُوهُ فَإِنْ لَمْ يَقْرُوهُ فَلَهُ أَنْ يُعْقِبَهُمْ بِمِثْلِ قِرَاهُ». رواه أحمد وأبو داود وصححه الألباني، وهذه ليست مثلية الكم ولا الفضل والمنزلة والمكانة، وإنما هي مثلية الحق والوحي والتشريع ووجوب الاتباع والامتثال.
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أنه قَالَ: كُنْتُ أَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ أَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيدُ حِفْظَهُ، فَنَهَتْنِي قُرَيْشٌ وَقَالُوا: أَتَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ تَسْمَعُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشَرٌ يَتَكَلَّمُ فِي الْغَضَبِ، وَالرِّضَا، فَأَمْسَكْتُ عَنِ الْكِتَابِ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَوْمَأَ بِأُصْبُعِهِ إِلَى فِيهِ، فَقَالَ: «اكْتُبْ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَّا حَقٌّ». أخرجه أحمد وأبو داود وصححه الألباني، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنِّي لَا أَقُولُ إِلَّا حَقًّا»، قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: فَإِنَّكَ تُدَاعِبُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: «إِنِّي لَا أَقُولُ إِلَّا حَقًّا». أخرجه أحمد وصححه الألباني، وعَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ». متفق عليه، وعَنْهُ أَيضًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: «مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى». رواه البخاري، وَخَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ النَّحْرِ في الحج وبعد انقضاء خطبته قال: «أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟» قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ». متفق عليه، وَعَن ابْن مَسْعُودٍ رضي الله عنه أنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا شَيْئًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى لَهُ مِنْ سَامِعٍ». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وصححه الألباني وهو حديث متواتر.
ثالث عشر: ومن الأدلة الدالة على صدق الروايات الصحيحة الثابتة الواردة التي بلغتنا كأحاديث صحيحي البخاري ومسلم: أن ما جاء فيها مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلمَ ما زال يقع ويحصل مطابقًا لما ورد؛ فأعلام النبوة التي تقع مستقبلاً دليل على حجية الإسناد الذي نقلها إلينا؛ إذ لو كانت هذه الأحاديث مكذوبة لما وقع ما جاء به مطابقًا لما جاءت به، فتأمل!
رابع عشر: مصدر البلاغ واحد: فكما أن النبي صلى الله عليه وسلمَ تلا على الأمة القرآن، فكذلك بينه بسنته من قوله وفعله وإقراره؛ فلمِ قبلتم هذا ورددتم هذا والمصدر واحد؟! فمن زعم ترك السنة فقد رد القرآن.
خامس عشر: الاكتفاء بالقرآن مستحيل؛ لأن معناه تعطيل أركان الإسلام وأحكامه: 
قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}، نفهم منه وجوب إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة؛ ولكن ما ماهية تلك الصلاة؟ وما كيفيتها؟ وما وقتها؟ وكم عددها؟ وعلى من تجب؟ كم مرة تجب في العمر؟ وغير ذلك، وكذا الزكاة ما هي الزكاة؟ وعلى من تجب؟ ولمن تجب؟ وما مقدارها؟ وما شرط وجوبها؟ وغير ذلك، وكذا أحكام الصيام والحج والحدود والنكاح فضلاً عن بقية الأحكام.
إفلاسهم إلا من الهوى
ها نحن قد ذكرنا لمنكري السنة من الأدلة القطعية ما يدل على حجية السنة، فهل عندهم دليل واحد من القرآن يصلح حجة لهم يقول: لا تحتجوا بالسنة أو لا تأخذوا بها أو لا تعملوا بها؟ أو هل عندهم دليل ينص على أن السنة نُسخت بوفاة النبي صلى الله عليه وسلمَ؟ 
نقول لمنكري السنة: هل تؤمنون بالنبي محمد صلى الله عليه وسلمَ؟ فإن قالوا: لا، كفروا، وإن قالوا: نعم؛ نقول: فلم لا تصدقونه؟! فإن قيل: نصدقه ولكن لا نأمن تحريف كلامه. قلنا: كيف ذلك مع ثبوت العصمة؟ ثم الأمة مجمعة على الأخذ بسنته، فمن سفلكم في ذلك من المهتدين؟ هل وجدتم لكم سلف صالح تقتدون به في ذلك؟ فإنه لم ينكر السنة على مر التاريخ إلا الملاحدة وأهل الزيغ والضلال، فهل رضيتم باتباعهم دون غيرهم من الصالحين؟! ثم ما الدليل من القرآن على أن السنة محرفة وأنه يجب ردها وترك العمل بها أو أنها نُسخت بموت النبي صلى الله عليه وسلمَ؟ ألستم تزعمون الاكتفاء بالقرآن لشموله كل شيء بدون السنة؟! فأين في القرآن دليل هذا الاكتفاء ورد غيره؟
إن منكري السنة أتباع هوى حتمًا، وكذبوا حينما زعموا اتباع القرآن؛ إن القرآن يأمر بالأخذ بالسنة والعمل بها ولا ريب؛ لذا يختارون أو يضطرون إلى تقديس العقل وتقديمه على الكتاب والسنة؛ فنقول لهم: إن الإسلام دين محكم، له أصول وقواعد وأسس وضوابط محكمة؛ لذا يسهل على من وفقه الله تعالى فهم الأدلة واستنباط الأحكام منها والاجتهاد في المستجدات، ولا تعلق الأحكام على أمر لا يمكننا ضبطه مثل عقول البشر؛ فإنها تختلف اختلافًا بينًا، فمن قدم العقل على النقل ضل، وإلا فأي العقول أولى بالاتباع؟! عقول من اصطفاهم الله تعالى من الأنبياء والرسل ومن تبعهم من الصحابة والأئمة والعلماء، أم عقول الملحدين والمفسدين؟! {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ . مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}.
إن حجية السنة مما يُعلم من دين الإسلام بالضرورة؛ فهي معلومة للخاص والعام والعالم والجاهل؛ فمن أنكر السنة كأصل من أصول الإسلام ومصدر من مصادر التشريع كفر، وكذا من أنكر لزوم العمل والاحتجاج بها مطلقًا.
قال الحافظ السيوطي رحمه الله: فاعلموا رحمكم الله أَن من أنكر كَون حَدِيث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قولاً كَانَ أَو فعلاً بِشَرْطِهِ الْمَعْرُوف فِي الْأُصُول حجَّة، كفر وَخرج عَن دَائِرَة الْإِسْلَام وَحشر مَعَ الْيَهُود وَالنَّصَارَى، أَو مَعَ من شَاءَ الله من فرق الْكَفَرَة. روى الإِمَام الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ يَوْمًا حَدِيثًا، وَقَالَ إِنَّه صَحِيح؛ فَقَالَ لَهُ قَائِل: أَتَقول بِهِ يَا أَبَا عبد الله؟ فاضطرب، وَقَالَ: يَا هَذَا أرأيتني نَصْرَانِيّا؟ أرأيتني خَارِجا من كَنِيسَة؟ أَرَأَيْت فِي وسطي زنارًا؟! أروي حَدِيثًا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا أَقُول بِهِ! انتهى من مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة.
قال ابن حزم رحمه الله: ولو أن امرءًا قال لا نأخذ إلا ما وجدنا في القرآن؛ لكان كافرًا بإجماع الأمة. انتهى من الإحكام في أصول الأحكام.
وكل من أنكر معلومًا من الدين بالضرورة بلا شبهة بحيث لا يحتاج إلى إقامة الحجة فقد كفر نوعًا وعينًا عياذًا الله.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ قَالَ: «فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مني». متفق عليهمع تحيات
اللجنة العلمية لملتقى الخطيب المؤثر أسد المنابر