عنوان الخطبة ((الطعن على ثوابت الدين وأصوله))
الهدف من الخطبة بيان أهمية الثبات عند الفتن، وعند الطعن في ثوابت الدين، والواجب على المسلم حيال ذلك.
عناصر الموضوع
1- ذم اتباع الهوى
2- الطعن في ثوابت الدين
3- صور من الطعن على الثوابت.
4- واجب المسلم حيال الطعن في الثوابت
الطعن على ثوابت الدين وأصوله
مقدمة الموضوع: أما بعد، قال الله تعالى: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا).
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: وَقَوْلُهُ: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى)، أَيْ: وَمَنْ سَلَكَ غَيْرَ طَرِيقِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَارَ فِي شِقٍّ وَالشَّرْعُ فِي شِقٍّ، وَذَلِكَ عَنْ عَمْدٍ مِنْهُ بَعْدَمَا ظَهَرَ لَهُ الْحَقُّ وَتَبَيَّنَ لَهُ وَاتَّضَحَ لَهُ. وَقَوْلُهُ: (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ)، هَذَا مُلَازِمٌ لِلصِّفَةِ الْأُولَى، وَلَكِنْ قَدْ تَكُونُ الْمُخَالَفَةُ لِنَصِّ الشَّارِعِ، وَقَدْ تَكُونُ لِمَا أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ، فِيمَا عُلِمَ اتِّفَاقُهُمْ عَلَيْهِ تَحْقِيقًا، فَإِنَّهُ قَدْ ضُمِنت لَهُمُ الْعِصْمَةُ فِي اجْتِمَاعِهِمْ مِنَ الْخَطَأِ، تشريفًا لهم وتعظيما لنبيهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ وَرَدَتْ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ كَثِيرَةٌ.
قال: وَالَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الِاحْتِجَاجِ عَلَى كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً تَحْرُم مُخَالَفَتُهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ بَعْدَ التَّرَوِّي وَالْفِكْرِ الطَّوِيلِ. وَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ الِاسْتِنْبَاطَاتِ وَأَقْوَاهَا.
قال: وَلِهَذَا تَوَعَّدَ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا)، أَيْ: إِذَا سَلَكَ هَذِهِ الطَّرِيقَ جَازَيْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ، بِأَنْ نُحْسِّنَهَا فِي صَدْرِهِ وَنُزَيِّنَهَا لَهُ -اسْتِدْرَاجًا لَهُ- كَمَا قَالَ تَعَالَى: (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ)، وَقَالَ تَعَالَى: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ)، وَقَوْلُهُ: (وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ). وَجَعْلَ النَّارَ مَصِيرَهُ فِي الْآخِرَةِ، لِأَنَّ مَنْ خَرَجَ عَنِ الْهُدَى لَمْ يَكُنْ لَهُ طَرِيقٌ إِلَّا إِلَى النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. انتهى باختصار.
ذم اتباع الهوى
إن اتباع الهوى لم يرد في الشرع إلا مذمومًا؛ لأن العبد الذي يتبع الهوى يترك الوحي الذي أمرنا الله باتباعه؛ فلا يجتمع الوحي والهوى، قال العلماء: من ترك الدليل ضل السبيل.
وقد نهى الله تعالى عباده عن اتباع الهوى وفي مقدمتهم أنبياءه عليهم السلام، فقال تعالى: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ الله إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ)؛ فتأمل كيف أمر الله تعالى نبيه داود عليه السلام باتباع شرعه وهو الحق، وترك الهوى لأنه يُضل عن سبيل الله تعالى، بل وتوعد من يضل بالعذاب الشديد، وقد علمنا أن سبب الضلال اتباع الهوى.
وقال سبحانه: (وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا). وهذا النهي لنبينا محمد صلى اللهُ عليه وسلم.
وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا)، وهذا النداء والنهي للمؤمنين.
وقد ذم الله تعالى أتباع الأهواء:
قال الله تعالى: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا . أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا)، وقال عز وجل: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ الله عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ الله أَفَلا تَذَكَّرُونَ)، وقال سبحانه: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ الله) فلا يجتمع الهدى مع الهوى.
فالهوى وأهله مذمومون، وإن زعموا أنهم يريدون الحق والخير والرشاد، فلا يجوز اتباع الهوى، والابتداع في الدين، أيًا كانت النوايا، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من أحْدَثَ في أمرِنا هذا ما ليس منه؛ فهو ردٌّ". رواه البخاري ومسلم، وفي رواية لمسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرُنا؛ فهو ردٌّ".
وقد خشي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من اتباع الهوى: عن أبي بَرْزَة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إنّما أخشى عليكم شهواتِ الغَيّ في بطونكم وفروجكم، ومُضِلاَّتِ الهوى". رواه أحمد والبزّار والطبراني وصححه الألباني.
وأخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بظهور أتباع الهوى في أمته كما كانوا في من قبلنا: فعن معاويَة رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: "ألا إنَّ مَن كان قبلكم من أهلِ الكتابِ افترَقُوا على ثِنْتَيْنِ وسبعين مِلَّة، وإنَّ هذه الأمَّة ستفترق على ثلاثٍ وسبعين، ثِنْتَانِ وسبعون في النار، وواحدةٌ في الجنّة، وهي الجماعةُ". رواه أحمد وأبو داود، وزاد في رواية: "وإنه سيخرجُ في أُمتي أقوامٌ تَتَجارى بهم الأهواءُ، كما يتجارى الكَلَب بصاحبه، ولا يَبقى منه عِرق ولا مفصلٌ إلا دَخله". وحسنه الألباني.
قوله: (الكَلَب) بفتح الكاف واللام، قال الخطابي: هو داء يعرض للإنسان من عضّة الكلْب. انتهى. أي إنه السعار.
وقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلمَ كما وقع في من قبلنا:
ومن الأمثلة التي وقعت في من قبلنا من الأمم: قال تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ . وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ . سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ).
فهذا بلعام بن باعوراء رجل من بني إسرائيل، قيل: كَانَ مِنْ عُلَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وكان يعرف اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى، وَكَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ، يُقَدِّمُونَهُ فِي الشَّدَائِدِ، فقد آتَاهُ اللَّهُ من الآيات والحجج والأدلة فتعلمها، ولكنه انسلخ منها فكفر بها وتَرَكَهَا وانتكس ونبذها وراء ظهره، فكان في صفوف الكافرين ضد صفوف الأنبياء (موسى وهارون ويوشع بن نون) والمؤمنين، فأراد على يدعوا بالخير للكفار وبالهلاك للمؤمنين، فلم يستطع إلا عكس ذلك، فاستحوذ عليه الشيطان فصار من الضالين الهالكين.
ولو شاء الله أن يرفع قدره بما آتيناه من الآيات لفعل، ولكنه رَكَنَ إلى الدنيا واتبع هواه، وآثر لَذَّاته وشهواته على الآخرة، وامتنع عن طاعة الله وخالف أمره، فَمَثَلُ هذا الرجل مثل الكلب، إن تطرده أو تتركه يُخْرج لسانه في الحالين لاهثًا، فكذلك الذي انسلخ من آيات الله يظل على كفره إن اجتهدْتَ في دعوتك له أو أهملته.
الطعن في ثوابت الدين
عَن الْعِرْبَاض بن سَارِيَة رضي الله عنه، قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَأَوْصِنَا قَالَ: «أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ كَانَ عبدا حَبَشِيًّا فَإِنَّهُ من يَعش مِنْكُم يرى اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ». رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وصححه الألباني.
وعن رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، فَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ، وَافْتَرَقَتِ النَّصَارَى عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، فَإِحْدَى وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ، وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَتَفْتَرِقَنَّ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ»، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هُمْ؟ قَالَ: «الْجَمَاعَةُ». رواه أحمد أبو داود وابن ماجه واللفظ له وصححه الألباني، وفي رواية: «مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي». رواه الترمذي وحسنه الألباني.
فأخبر النبي صلى الله عليه وسلمَ أن هذه الأمة ستختلف، وأنها ستفترق، وبين طريق النجاة عند ذلك، وهو التمسك بسنته وسنة أصحابه رضي الله عنهم، وحذر من اتباع الهوى وسبل الضلال والإحداث والابتداع في الدين.
إن الطعن في ثوابت الدين وأصوله والحرب على القرآن والسنة أمر قديم وقائم ودائم ما كان حق وباطل؛ فالباطل دائمًا يريد إزهاق الحق ويأبى الله إلا أن يتم نوره: (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ)، (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا)، (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُون).
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلمَ من اتباع سبل الشياطين أو الاقتراب منها أو فتح أبوابها؛ فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا ثُمَّ قَالَ: «هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَقَالَ هَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ»، ثمَّ قَرَأَ: (إِن هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبعُوهُ) الْآيَة. رَوَاهُ أَحْمد وَالنَّسَائِيّ وصححه الألباني، وعَنْ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا، وَعَلَى جَنْبَتَيْ الصِّرَاطِ سُورَانِ، فِيهِمَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ، وَعَلَى الْأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ، وَعَلَى بَابِ الصِّرَاطِ دَاعٍ يَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ، ادْخُلُوا الصِّرَاطَ جَمِيعًا، وَلَا تَتَعَرَّجُوا، وَدَاعٍ يَدْعُو مِنْ فَوْقِ الصِّرَاطِ، فَإِذَا أَرَادَ يَفْتَحُ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ، قَالَ: وَيْحَكَ لَا تَفْتَحْهُ، فَإِنَّكَ إِنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ، وَالصِّرَاطُ الْإِسْلَامُ، وَالسُّورَانِ: حُدُودُ اللهِ، وَالْأَبْوَابُ الْمُفَتَّحَةُ: مَحَارِمُ اللهِ، وَذَلِكَ الدَّاعِي عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ: كِتَابُ اللهِ، وَالدَّاعِي مِنِ فَوْقَ الصِّرَاطِ: وَاعِظُ اللهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ". رواه أحمد وحسنه الألباني.
ومع التحذير الشديد من اتباع السبل، ومخالفة الشرع؛ إلا إن من الناس ومن بني جلدتنا من يأبى إلا اتباع الهوى والباطل والضلال ويحلو له الخروج عن الحق، ولو كان ظاهرًا متواترًا، ولا غرابة في هذا لمن علم طبيعة الصراع بين الحق والباطل؛ وعرف تاريخ هؤلاء؛ والسنن الكونية لا تحابي أحدًا، وهذا ديدن القوم دائمًا.
إن تلك الهجمات والحروب على أصول الدين وثوابته من القرآن والسنة متكررة من وقت لآخر؛ وأهل الزيغ والباطل والفساد يريدون هدم صرح هذا الدين العظيم، ويبغونها عوجًا، وقد جاءت الأخبار قبل هؤلاء تفضحهم وتبين مقاصدهم؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ يَأْتُونَكُمْ مِنَ الْأَحَادِيثِ بِمَا لَمْ تَسْمَعُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُمْ لَا يُضِلُّونَكُمْ وَلَا يَفْتِنُونَكُمْ». رَوَاهُ مُسلم، وعَنْه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا». رواه مسلم، وعَنْه أيضًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: «تَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ جَدِعَاتٌ يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهِمُ الرُّوَيْبِضَةُ». قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟ قَالَ: «الرَّجُلُ التَّافِهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ». رواه أحمد وابن ماجه والحاكم وصححه الألباني.
إن الطاعنين في الكتاب والسنة لا يفقهون، ولا يفهمون كيف تسير الأمور، فإن الإسلام ظاهر قاهر منصور مؤيد، ومن المستحيل أن يهدم صرحه، أو تكسر شوكته، أو تذهب شريعته، قال الله تعالى: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ . هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ). تأمل كيف أرادوا إطفاء نوره بأفواههم! ومهما أرادوا فلن يكون أبدًا، تأمل في هذا جيدًا: (والله متم نوره).
وقال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ . إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ . لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ . مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ)؛ فهذا وعيد شديد لمن ألحد وحَرَّف في آيات الله.
وفي كل فترة يخرج على الأمة من يحاول الطعن في دينها، فالأمر ليس بجديد، ولكن في عصورنا هذه قد تعدى الأمر من مجرد النقاش والجدال في الفرعيات والجزئيات إلى الطعن في الأصول والثوابت والكليات، فتتغير طريقة هؤلاء في طرح ضلالهم وبث سمومهم، لكن الهدف واحد والمضمون واحد، ومن ذلك طعنهم في القرآن الكريم، وفي السنة النبوية، وفي العقيدة بالتشكيك والشبهات، وبالطعن في عقيدة الولاء والبراء، وفي عذاب القبر ونعيمه، وفي فضل الصحابة، وفي وجوب الحجاب، ومشروعية النقاب، وفي أنصبة الميراث، والحدود، وبالطعن في أمور وثوابت معلومة من الدين بالضرورة.
ويزداد الأمر قبحًا أن يعتذر الطاعن في الدين بأن العقل يقبل كذا ولا يقبل كذا ونحو ذلك.
فإن العقل لفهم الشرع، وليس للتشريع، فالعقل وسيلة وليس غاية، والوسيلة لا تلغي الغاية، فهو نعمة من الله عز وجل ووسيلة إلى فهم الشرع وإدراكه، ووسيلة إلى فهم نعم الله عز وجل على خلقه، وإدراك حقه سبحانه وتعالى.
هذا ولم تمتلأ مزابل التاريخ بعدُ، فلا يزال فيها متسعًا لكل من تعرض للطعن في الدين، واتخذه خصمًا، فإنه سيلحق بسلفه في ذلك.
صور من الطعن على الثوابت
هذه بعض الصور من الطعن والافتراء على أصول وثوابت الإسلام، ومن ذلك:
الطعن في القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو أصل الأصول ومصدر التلقي الأول:
1- طعن المشركون واليهود في صحة نسبة القرآن إلى الله تعالى؛ قال الله تعالى: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آية مَكَانَ آية وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)؛ أي أنك متقول على الله تعالى تأمر بشيء ثم تخالفه؛ وقال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ ...)؛ فرد الله تعالى عليهم: (وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ).
2- وبعضهم ادعى أنه يستطيع أن يأتي بمثل القرآن، قال تعالى: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا..) فتحداهم الله تعالى أن يأتوا بمثله فعجزوا، فتحداهم أن يأتوا بعشر سور من مثله فعجزوا، ثم تحداهم أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا.
3- وبعضهم زعم أن هذا القرآن إنما هو قصص الأولين وأساطير السابقين، قال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ)، وقال: (وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) . فرد الله عليهم أنه لا يعرف أن يقرأ ولا يكتب، فكيف نقلها وكيف قرأها؟ قال تعالى: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ).
4- وبعضهم قال: إنه تعلمه من غلام نصراني؛ فقال الله تعالى: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ).
5- ادعاؤهم أنه من عند النبي صلى الله عليه وسلمَ نفسه وليس من عند الله: قال تعالى: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ . قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ).
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: يخبر تعالى عن تعنت الكفار من مشركي قريش، الجاحدين المعرضين عنه أنهم إذا قرأ عليهم الرسول صلى الله عليه وسلمَ كتاب الله، وحججه الواضحة، قالوا له: "ائت بقرآن غير هذا"، أي رد هذا وجئنا بغيره من نمط آخر! أو "بدله" إلى وضع آخر. قال الله تعالى لنبيه: (قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي)، أي ليس هذا إليَّ إنما أنا عبد مأمور، ورسول مبلغ عن الله، (إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم)، ثم قال محتجًا عليهم في صحة ما جاءهم به، (قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به)، أي هذا إنما جئتكم به عن إذن الله لي في ذلك ومشيئته وإرادته، والدليل على إني لست أتقوله من عندي، ولا افتريته أنكم عاجزون عن معارضته، وأنكم تعلمون صدقي وأمانتي منذ نشأت بينكم إلى حين بعثني الله عز وجل، لا تنتقدون عليَّ شيئا تغمصونني به، ولهذا قال: (فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون)، أي أفليس لكم عقول تعرفون بها الحق من الباطل.
6- اتهام النبي صلى الله عليه وسلمَ بأنه شاعر أو مسحور أو ساحر أو كاهن يتلقاه من الشياطين أو مجنون أو أن ما يتلقاه هو أضغاث أحلام، قال تعالى: (بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ)، وقال سبحانه: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ. وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ . وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ . تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، وقال: (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ)، وقال عز وجل: (إذ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا)، وقال تبارك وتعالى: (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ)، وقال تعالى: (وَقَالُوا يَاأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ).
ويلاحظ في هذه التهم التخبط العجيب والتناقض الغريب؛ فتارة يتهمونه بأنه ساحر وتارة مسحور، ولما رأوا بلاغة القرآن قالوا: هذا شعر؛ فلما اعترض عليهم أن أوزان الشعر معروفة وهذا ليس على وزن شيء منها، قالوا: كاهن يعني يسجع كسجعهم؛ فلما اعترض عليهم بأنه لو كان شعرًا ولا سجعًا لكان الناس يستطيعون تقليده، ولكن الواقع أنه لم يستطع أحد فعل ذلك، لاسيما مع استمرار تحديه لهم في كل مناسبة؛ فقالوا: إنه أضغاث أحلام؛ ولكن أضغاث الأحلام لا تأتي بهذا الإحكام والإتقان والإعجاز والبلاغة؛ فقالوا: إذن يتلقاه من الشياطين، ولكن كيف يتلقاه من الشياطين وهو يستعيذ منهم صباحًا ومساء، ولا يستفتح قراءة القرآن إلا بالاستعاذة منهم، والشياطين من صفاتها إضلال الناس، وهذا الكتاب يهدي لأقوم سبيل وأفضل طريق، وهناك كثير من السحرة والكهنة لديهم شياطين ومردة، فلماذا لا يأتون بمثل ما أتى؟! فقالوا: إذن هي أساطير الأولين وقصص السابقين، اكتتبها فهي تملى عليه؛ ولكن كيف يقال هذا والنبي لا يقرأ ولا يكتب بل هو رجل أمي؟! قالوا: إذن تعلمه من اليهود والنصارى؛ فقيل لهم: كيف ذلك وهم أعاجم، وهذا لسان عربي مبين، وكلام فصيح بليغ لم يستطع فحول الفصحاء أن يبلغوا منزلته في البلاغة، فكيف لأعجمي أن يأتي به؟! ثم هل اليهود والنصارى تكفر نفسها؟! فعندئذٍ حاروا وبهتوا وألجموا ولم يردُّوا جوابًا.
الطعن في السنة النبوية التي هي بيان الوحي والتشريع بالقول والفعل والتقرير:
إن الطعن في السنة وفي حملتها ونقلتها ورواتها ورجالها من الصحابة والتابعين والعلماء الربانين قديم، وليس الغرض منه في ذوات الأشخاص مثلاً بل الغرض هدم صرح الدين واتباع الضلال والهوى، وهذا مستحيل كونًا وقدرًا كما مضى.
والسنة وحي من الله فمن ردها وأنكرها فقد رد القرآن؛ فالله تعالى يقول: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى . إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)، وقال النبي صلى الله عليه وسلمَ: «أَلا إِنِّي أُوتيت الْكتاب وَمِثْلَهُ مَعَهُ أَلَا يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ الله كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ»، وقَالَ: «لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِنْ أَمْرِي مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ فَيَقُولُ لَا نَدْرِي مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ». رَوَاهُما أَبُو دَاوُدَ وصححهما الألباني.
وقد جاء الأمر في القرآن والسنة بطاعة الله والرسول صلى الله عليه وسلمَ، واتباع الكتاب والسنة، وعدم التفريق بينهما في أخذ الأحكام والعمل بها، وأن نفهم القرآن بالسنة، ومن ذلك:
قال تعالى: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)، وقال سبحانه: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، وقال عز وجل: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم . قل أطيعوا الله والرسول)، وقال جل وعلا: (من يطع الرسول فقد أطاع الله)، وقال تبارك وتعالى: (وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)، وقال عز وجل: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى)، وقال سبحانه: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم).
وعن العِرباض بنِ ساريةَ رضي الله عنه أنه قال: وعَظنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ موعظةً وَجِلتْ منها القلوبُ، وذَرَفَتْ منها العيونُ، فقلنا: يا رسولَ الله! كأنها موعظةُ مودِّعٍ، فأوصنا. قال: "أوصيكم بتقوى اللهِ، والسمع والطاعةِ، وإنْ تَأمَّر عليكم عبدٌ، وإنَّه من يعِشْ منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي، وسنةِ الخلفاء الراشدين المَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عليها بالنواجذِ، وإيَّاكم ومحدَثات الأمور، فإن كلَّ بدعة ضلالةٌ". رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وصححه الألباني، وقال صلى الله عليه وسلمَ: "إني قد تركتُ فيكم ما إنْ اعتصمتُم به فلن تضلّوا أبداً، كتابَ الله، وسنةَ نبيه". رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد ووافقه الألباني، وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى. قِيلَ: وَمَنْ أَبَى؟ قَالَ: مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ عَصَانِي فقد أَبى". رَوَاهُ البُخَارِيّ، وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مني». متفق عليه، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من أحْدَثَ في أمرِنا هذا ما ليس منه؛ فهو ردٌّ". متفق عليه، وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِّي فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ مَنْ مَرَّ عَلَيَّ شَرِبَ وَمَنْ شَرِبَ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونَنِي ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَأَقُولُ: إِنَّهُمْ مِنِّي. فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ؟ فَأَقُولُ: سُحْقًا سحقاً لمن غير بعدِي". مُتَّفق عَلَيْهِ، وعن أنسِ بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنّ الله حَجَبَ التوبةَ عن كلِّ صاحبِ بدعة حتى يَدعَ بِدعَتَهُ". رواه الطبراني وصححه الألباني.
واجب المسلم حيال الطعن في الثوابت
إن قضية بقاء الإسلام وظهوره أمر محسوم كونًا؛ فلا يضره طعنُ الطاعنين، ولا ضلالُ الضالين، ولا تَهَوُّكُ الحيارى الشَّاكِّين.
والمسلم الصادق يدخل في الدين كله ويقبله كله جملة وتفصيلاً، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً).
قال ابن كثير رحمه الله: يقول تعالى آمرًا عباده المؤمنين به المصدقين برسوله، أن يأخذوا بجميع عرى الإسلام وشرائعه، والعمل بجميع أوامره، وترك جميع زواجره ما استطاعوا من ذلك. انتهى. ثم نقل عن ابن عباس وغيره أنهم قالوا (ادخلوا في السلم) يعني: الإسلام، (كافة) يعني: جميعًا.
فعلى المسلم أن يقبل على ربه، ويسلم لشرعه، ويدخل في الدين كله، وأن يقوم بحق الدين من تعلمه، والعمل به، والدعوة إليه.
ولا يجوز الاختلاف في ثوابت الدين، فضلاً عن إثارة الفتن وسلوك سبل الضلال والجحد والإنكار لها، ومن فعل وجب الإنكار عليه وبيان بطلان ما ذهب إليه لئلا يلتبس الحق بالباطل، ولأن مثل هذا الاختلاف يضعف الأمة ويسلط الأعداء عليها، فالسبيل للهدى والقضاء على الخلاف هو العودة إلى النبعين الصافيين الكتاب والسنة، وفهمهما على فهم السلف الصالح.
ومما يجب على المسلم حيال الطعن في الثوابت:
أولاً: أن يشكر الله أن سلمه ونجاه من الفتن؛ فيحمد الله ويثني عليه بما هو أهله أن وفقه للهدى وحفظه وثبته.
ثانيًا: أن يدعو الله ويسأله العافية والثبات والتوفيق للحق دائمًا، أن يهدي الضالين، ويبطل كيد الكائدين.
ثالثًا: أن يتعلم أمور دينه، ويدرس أحكام الإسلام، ويسأل عما أشكل عليه.
رابعًا: أن يعرف أن أعداء الدين يبغونها عوجًا، ويبذلون الوقت والجهد والمال في نشر الضلال والباطل والفساد.
خامسًا: أن يعلم يقينًا أن الإسلام ظاهر ومنصور دائمًا.
سادسًا: أن يبين الحق ويوضحه، ويكشف الباطل ويفضحه، في دائرة معارفه، من أهله وأرحامه وجيرانه وأصدقائه ومجتمعه.
سابعًا: القوة في الحق ومعاونة الدعاة في بيانه ونشره.
ثامنًا: دعوة المخالفين بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن.
تاسعًا: الإنكار على أهل الأهواء، ومعاداتهم، وبيان فساد معتقدهم، وبطلان مذهبهم، وضلال أفكارهم.
عاشرًا: بيان فضل السلف من الصحابة والأئمة والعلماء والصالحين، ودراسة تراجمهم.
حادي عشر: التمسك بفهم السلف للقرآن والسنة والعمل به.
ثاني عشر: العناية بالأبناء، وتربيتهم تربية إسلامية صحيحة، والعناية بالشباب وتوجيهم إلى الطريق الصحيح.
مع تحيات
اللجنة العلمية لملتقى الخطيب المؤثر أسد المنابر