عنوان الخطبة ((الجريمة .. أسبابها وعلاجها))
الهدف من الخطبة بيان معنى الجريمة، وبيان أسبابها، وطرق علاجها من منظور شرعي
عناصر الموضوع
1- الجريمة والجزاء في الإسلام.
2- أنواع الجرائم والعقوبات.
3- وسائل القضاء على الجريمة.
الجريمة .. أسبابها وعلاجها
مقدمة الموضوع: أما بعد، قال الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}؛ إن الإسلام هو دين الفطرة، شرع الله فيه لعباده ما تستقيم به أحوالهم، ويسعدون في مآلهم، وحَدَّ لهم حدودًا تمنع من الجريمة، وتحمي المجتمعات من تسلط المجرمين والمفسدين.
إن في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أحكامًا كثيرة تبيِّن الأفعال والتروك المحرَّمة التي يعاقب مرتكبها، وهذه الأحكام وما ينبني عليها أو يتفرَّع منها تكوّن ما يمكن تسميته بنظام الجريمة والعقوبة في الإسلام، أو بالقانون الجنائي الإسلامي.
الجريمة والجزاء في الإسلام
عرَّف الفقهاءُ الجرائمَ بأنَّها: محظورات شرعية زجر الله تعالى عنها بحَدٍّ أو تعزير.
ومعنى أنها محظورات شرعية، أي: مِمَّا نهى عنه الشرع الإسلامي نهي تحريم لا نهي كراهة، بدليل وجوب العقاب على مرتكب هذه المحظورات، والعقاب لا يجب إلّا على ترك واجب أو فعل محرَّم، فيكون المقصود من المحظورات الشرعية: ترك واجب أو فعل محرَّم، وأن يكون تحريم هذا الفعل أو الترك من قِبَل الشريعة الإسلامية، فإن كان من غيرها فلا يعتبر المحظور جريمة، وأن يكون للمحظور عقوبة من قِبَل الشرع الإسلامي، سواء أكانت هذه العقوبة مقدَّرة وهي التي يسميها الفقهاء بـ"الحد"، أو كان تقديرها مفوضًا إلى رأي القاضي، وهي التي يسميها الفقهاء "التعزير"، فإذا خلا الفعل أو الترك من عقوبةٍ لم يكن جريمة.
وأساس اعتبار الفعل أو الترك جريمة هو ما فيه من ضرر محقَّق للفرد وللجماعة؛ فكان من رحمة الله تعالى بعباده أن بيِّنَ لهم ما يفعلون وما يتركون لحفظ مصالحهم وتحقيق الخير والسعادة لهم في دنياهم وآخرتهم، واستقراء نصوص الشريعة الإسلامية يدل دلالة قاطعة على أنَّ ما حرَّمه الإسلام من فعلٍ وتركٍ وعاقب عليه، يشتمل على أضرار محقَّقة بالفرد والمجتمع، وتظهر هذه الأضرار بالمساس بالدِّين أو بالعقل أو بالنفس أو بالعرض أو بالمال، وما يترتَّب على ذلك من فسادٍ وإخلال في المجتمع.
إن الجزاء في الشريعة الإسلامية أخروي ودنيوي، وإنَّ الأصل في الجزاء في الشريعة هو جزاء الآخرة، ولكنَّ مقتضيات الحياة وضرورة استقرار المجتمع وتنظيم علاقات الأفراد على نحوٍ واضحٍ، وضمان حقوقهم، كلّ ذلك دعا إلى أن يكون مع الجزاء الأخروي جزاء دنيوي، وهذا الجزاء هو العقوبة التي توقعها الدولة على من يرتكب محرَّمًا أو يترك واجبًا، أي: يرتكب جريمة، وبهذا العقاب تنزجر النفوس التي لم ينفعها الوعظ والتذكير، والحقيقة أنَّ الشريعة الإسلامية تعنى بإصلاح الفرد إصلاحًا جذريًّا عن طريق تربيته على معاني العقيدة الإسلامية، ومنها: مراقبته لله وخوفه منه، وأداء ما افترضه عليه من أنواع العبادات، وهذا كله سيجعل نفسه مطاوعة لفعل الخير، كارهة لفعل الشر، بعيدةً عن ارتكاب الجرائم، وفي هذا كله أكبر زاجر للنفوس، وبالإضافة إلى ذلك فإنَّ الشريعة تهتم بطهارة المجتمع وإزالة مفاسده، ولهذا ألزمت أفراده بإزالة المنكر، ولا شكَّ أن المجتمع الطاهر العفيف سيساعد كثيرًا على منع الإجرام وقمع المجرمين، وسيقوّي جوانب الخير في النفوس، ويسد منافذ الشر التي تطلّ منها النفوس الضعيفة، وفي هذا ضمان أيضًا لتقوية النفوس وإعطائها مناعةً ضد الإجرام.
ولكن مع هذا كله فقد تسوّل للبعض نفوسهم ارتكاب الجرائم، فكان لا بُدَّ من عقوبةٍ عاجلة توقعها الدولة الإسلامية عليهم زجرًا لهم من العودة إليها، وردعًا للآخرين الذين قد تسوّل لهم أنفسهم ارتكاب الجريمة، وفي هذا استقرار للمجتمع وإشاعة للطمأنينة فيه، كما أنَّ في إنزال العقاب بالمجرمين مصلحة لهم.
هذا وإنَّ العقاب الدنيوي للمجرِم لا يمنع العقاب الأخروي ما لم يقترن به التوبة النصوح، قال تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ . إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، ومن تمام التوبة النصوح التحلُّل من حقِّ الغير إن كان إجرامه مسَّ هذا الحق.
وتشريع العقاب الدنيوي في الشريعة الإسلامية من مظاهر رحمة الله بعباده؛ لأنه يزجر الإنسان عن ارتكاب الجريمة، فيتخلَّص من الإثم، وإذا وقع في الجريمة فإنَّ العقوبة في حقِّه بمنزلة الكيِّ بالنسبة للمريض المحتاج إليه، وبمنزلة قطع العضو المتآكل، فإنَّ بهذا القطع وذلك الكي مصلحة له وإبقاء لحياته، وإيقافًا للمرض من السراية وإهلاك الجسم كله، كما أنَّ في هذا العقاب للمجرم مصلحة مؤكَّدة للمجتمع؛ لما يترتَّب عليه من اطمئنان الناس على حياتهم وأموالهم وإخافة للمجرمين، وهذه المصلحة العامة يهون معها الضرر الذي يصيب المجرم بسبب ما جنت يداه.
والعقوبات الشرعية واجبة التطبيق والتنفيد، لا يسع الحاكم أو من يقوم مقامه التهاون فيها أو تعطيلها؛ لأنَّها من شرع الله، وأنَّ تعطيلها يؤدي إلى سخط الله تعالى، كما يؤدي إلى فساد المجتمع واضطراب أحواله وسوء أوضاعه؛ لأن تعطيل حدود الله من المعاصي الكبيرة القبيحة، وظهور المعاصي من أسباب نقص الرزق، والخوف من العدو وضنك العيش، فإذا اقيمت الحدود الشرعية ظهرت طاعة الله ونقصت معصيته، وحصل الخير والنصر، فينبغي أن يكون الحكام وأهل الحل والعقد أشدَّاء في إقامة حدود الله، وأن يكون قصدهم من إقامتها رحمة الخلق بكفِّ الناس عن المنكرات، فيكون أحدهم بمنزلة الوالد إذا أدَّب ولده، يؤدّبه رحمة به وإصلاحًا لحاله، مع أنَّه يود ويُؤْثر أن لا يحوجه إلى التأديب، وبمنزلة الطبيب الذي يسقي المريض الدواء الكريه.
والعقوبات الشرعية تُقَام على جميع من قامت فيهم أسبابها وشروطها، لا فرق بين شريف ووضيع، وقويّ وضعيف، فإنَّ المحاباة في إنزال العقوبات الشرعية سبب لهلاك الأمَّة، فعَن عائشةَ رَضِي الله عَنْهَا أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟» ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ ثُمَّ قَالَ: «إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، والواقع أنَّ المساواة بين الرعية في إقامة العقوبات خير رادعٍ للأقوياء الذين قد تسوّل لهم قوتهم الإجرام؛ لما يظنُّونَه من محاباة لهم بسبب قوتهم وعدم معاقبتهم؛ لأنهم إذا رأوا هذه المساوة الصارمة في العقاب خنسوا ولم تعد توسوس لهم أنفسهم بهذا الوسواس الباطل؛ لأن قوتهم لا تخلِّصُهم من العقاب؛ لأنَّ قوة الدولة أكبر من قوتهم، كما أنَّ الضعيف سيطمئنُّ؛ لأنَّ الدولة معه، فهو أقوى من أيّ فرد قوي، فلا يخشى اعتداءه.
فالمطلوب من الحاكم المسلم الحزم في إنزال العقاب والمساوة بين الرعية فيه، فلا يجوز لأحد أن يشفع لمجرم لإسقاط العقاب عنه، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: «مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ فَقَدَ ضَادَّ اللَّهَ». رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وصححه الألباني، وهذه هي الشفاعة السيئة، وقد قال الله تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا}، ولا شكَّ أنَّ من يشفع لإسقاط الحدِّ الشرعي عن المجرم يشفع شفاعة سيئة، وكما لا تجوز الشفاعة السيئة لإسقاط الحدود الشرعية، لا يجوز للحاكم أن يأخذ من المجرم مالًا لتعطيل الحدِّ الشرعي، سواء كان هذا المال للدولة أم لغيرها؛ لأنه مال خبيث وسحت. وجميع العقوبات الشرعية بنيت على أساسين كبيرين: الأول: العدل، والثاني: الردع، ويظهر الأساس الأول -العدل- في أنَّ العقوبة بقدر الجريمة، قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}؛ فليس فيها زيادة على ما يستحقه المجرم، ويظهر الأساس الثاني -الردع- في مقدار الألم الذي تُحْدِثُه العقوبة في المجرم، وما يسببه له من فقدان حريته، أو بعض أعضائه، ولا شكَّ أن فقد هذه الأشياء يؤلمه ويخيفه، فيمتنع من الإجرام بدافعٍ من حب الذات، والخوف من المؤذي المؤلم إذا ما سوَّلت له نفسه الإجرام.
أنواع الجرائم والعقوبات
إن الجرائم في الشريعة الإسلامية ثلاثة أنواع: جرائم الحدود كالزنا وشرب الخمر، وجرائم الجنايات كالقتل وقطع الأطراف، وجرائم التعزير مثل الخلوة بالأجنبية وخيانة الأمانة.
والعقوبات في الشريعة الإسلامية أربعة أنواع: الحدود، والقصاص، والدِّيَّات، والتعزير، وهي على سبيل الإيجاز كما يلي:
النوع الأول: الحدود: وهي العقوبات المقدَّرَة لجرائم الحدود، وقد وجبت كما قال الفقهاء حقًّا لله تعالى؛ لأنَّ نفعها للعامَّة لا اختصاص لأحدٍ بها، وما كان نفعه عامًّا يعتبر من حقِّ الله، ولهذا نُسِبَ إلى ربِّ الناس جميعًا لعظيم خطره وشمول نفعه؛ ولأنَّ هذه النسبة تشعر بلزوم العناية والاهتمام به وعدم التفريط فيه، ولهذا لا يجوز إسقاط هذه العقوبات "الحدود" بعد ثبوت جرائمها أمام القضاء، حتى ولو رضي المجني عليه بهذا الإسقاط؛ لتعلق حق الله بهذه العقوبات.
وجرائم الحدود التي ثبت فيها هذا النوع من العقوبات هي: الزنى، والقذف، وشرب الخمر، والسرقة، والحرابة، والردة، والبغي.
أولًا: عقوبة الزنا: وهو كلّ وطء وقع بغير نكاح ولا شبهة نكاح ولا ملك يمين، وعقوبته الرجم أو الجلد والتغريب.
أمَّا الجلد فالأصل فيه قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}، وجاءت السنة النبوية مقرِّرةً الجلد، من ذلك ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بجلد رجل أقرَّ بزناه مائة جلدة وكان بكرًا، ولا خلاف بين الفقهاء في وجوب الجلد على الزاني إذا لم يكن محصَنًا.
أمَّا الرجم: فقد ثبت بسنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجمع عليه الصحابة والمسلمون، ولم يشذ إلّا الخوارج، والرجم معناه: رجم الزاني بالحجارة، أو ما يقوم مقامها حتى الموت، ولا يجب الرجم إلّا على المحصن بالإجماع، ومن شروط الإحصان أن يكون الزاني قد وطئ وطأً كاملًا في نكاحٍ تام صحيح.
أمَّا التغريب فمعناه: نفي الزاني عن البلد الذي زنى فيه إلى بلد غيره، وقد اختلف العلماء في وجوبه مع الجلد.
واللواط يدخل في مفهوم الزنى عند جمهور العلماء.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وَأَمَّا اللِّوَاطُ فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ: حَدُّهُ كَحَدِّ الزِّنَا، وَقَدْ قِيلَ: دُونَ ذَلِكَ، وَالصَّحِيحُ الَّذِي اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ أَنْ يُقْتَلَ الِاثْنَانِ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلُ، سَوَاءٌ كَانَا مُحْصَنَيْنِ أَوْ غَيْرَ مُحْصَنَيْنِ؛ فَإِنَّ أَهْلَ السُّنَنِ رَوَوْا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ". انتهى من مجموع الفتاوى.
ثانيًا: عقوبة القذف: وهو الاتهام بالزنى، أي: نسبة الشخص إلى الزنى بشروط معينة، كأن يقال: يا زاني، أو يا زانية، وعقوبته الجلد ثمانون جلدة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}، ويشترط لوجوب عقوبة القذف شروط، منها: أن يكون القاذف بالغًا عاقلًا، وأن يكون المقذوف محصنًا، رجلًا كان أو امرأة، وشرائط الإحصان هي: الإسلام والعقل والبلوغ والحرية والعفَّة عن الزنى.
فإذا قذف الزوج زوجته بالزنى، وعجز عن إثبات قذفه، وجب عليه اللعان، وإذا أثبت قذفه بالبينة وجب على زوجته حدّ الزنى، والأصل في اللعان قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ، وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ، وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ}.
ثالثًا: عقوبة شرب الخمر: حد شرب الخمر ثابت بسُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه ضرَبَ في شرب لخمر بالجريد والنِّعَال أربعين، وضرب أبو بكر رضي الله عنه أربعين، وضرب عمر في خلافته ثمانين. وكان علي رضي الله عنه يضرب مرَّة أربعين، ومرَّة ثمانين.
والخمر التي حرمها الله ورسوله، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بجلد شاربها، كل شراب مسكر من أيِّ أصل كان، سواء كان من الثمار أو الحبوب أو غيرها، وكذلك الحشيشة يُجْلَد صاحبها كما يُجْلَد شارب الخمر؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ». رَوَاهُ مُسلم، وفي حديث آخر: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ». رَوَاهُ الخمسةُ وصححه الألباني، وتحريم الخمر ثابت في القرآن كما هو ثابت بالسُّنَّة النبوية، قال تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
رابعًا: عقوبة السرقة: وهي الاعتداءُ على مالِ الغير بأخذه خِفْيَة ظلمًا بشروط معينة، منها: أن يكون محرَّزًا، ولا تقل قيمته عن ربع دينار، وعقوبتها قطع اليد، قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
خامسًا: عقوبة قطع الطريق: جريمة قطع الطريق أو الحرابة: هي الخروج على المارَّة لأخذ المال منهم مجاهرة بالقوة والقهر، مِمَّا يؤدي إلى امتناع الناس عن المرور وانقطاع الطريق، سواء ارتكب هذه الجريمة فرد أو جماعة، بسلاحٍ أو غيره، ويسمَّى مرتكب هذه الجريمة بالمحارب.
والأصل عن عقوبتها قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
وعقوبة قاطع الطريق أن يُقْتَل أو يُصْلَب إذا قتل وأخذ المال. ويقتل بلا صلب إذا قتل ولم يأخذ مالًا، وتقطع يده ورجله من خلاف إذا أخذ المال ولم يقتل، وينفى من الأرض إذا أخاف السبيل فقط، فلم يقتل ولم يأخذ مالًا، وذهب بعض أهل العلم إلى إنَّ الإمام مخيِّر فيه بين القتل والصلب والقطع من خلاف والنفي.
سادسًا: عقوبة المرتد: وهو الراجع عن دين الإسلام، والرِّدَّة تكون بالألفاظ أو الأفعال أو الاعتقادات، فتكون باللفظ بأن يتكلَّم المسلم بكلمة الكفر كسبِّ الله ورسوله، وبالأفعال بأن يأتي المسلم عملًا يدل على استخفافه بالدين الإسلامي كالصلاة بلا وضوء عمدًا على وجه الاستخفاف بالدِّين، وكإلقاء القرآن الكريم في قذر عمدًا، وبالاعتقادات بأن يعتقد المسلم أمورًا باطلة مناقضة لما عرف من الإسلام بالضرورة، مثل: إنكار وجود الله، أو يوم القيامة، أو الملائكة أو الجنِّ، أو يعتقد قدم العالم، أو كذب الرسول صلى الله عليه وسلم أو حلَّ الزنى، أو يعتقد أن القرآن ليس من عند الله، أو أن محمدًا صلى الله عليه وسلم ليس خاتم الأنبياء والرسل ونحو ذلك، ويشترط لوقوع الردة أن يكون المرتدُّ عاقلًا بالغًا مختارًا، فلا تعتبر ردة المجنون ولا الصبي الذي لا يعقل ولا المكره إذا كان قلبه مطمئنًا بالإيمان.
وعقوبة المرتدّ هي القتل لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، أما إمهال المرتد قبل قتله فقد قال الجمهور بوجوب إمهاله، ويعرض عليه الإسلام لعلَّه يرجع عن ردَّته، فإن أبى قُتِل.
سابعًا: عقوبة البغي: وهو خروج جماعة ذات قوة وشوكة على الإمام بتأويل سائغ، ويسميهم الفقهاء: البغاة، والأصل في هذه الجريمة وعقوبتها قول الله جلَّ جلاله: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ}.
وعقوبة البغاة قتالهم إذا أظهروا العصيان للإمام، وامتنعوا عن أداء ما عليهم من حقوق، وجاهروا بذلك، وتهيئوا للقتال، سواء نصبوا عليهم إمامًا أو لم ينصبوا، ولا يجوز قتالهم حتى يبعث إليهم الإمام من يسألهم ويكشف لهم الصواب، ويدفع ما يحتجونه به، وينذرهم ويخوفهم نتيجة بغيهم، كما فعله علي رضي الله عنه مع الخوارج؛ فقد أرسل إليهم عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يدعوهم إلى الطاعة والرجوع إلى الجماعة، فإذا أبوا قاتلهم. فإذا رجع البغاة إلى الطاعة ولزوم الجماعة لم يجز قتالهم؛ لأنَّ المقصود حصل وهو رجوعهم إلى طاعة الإمام. هذا ولا شيء على من قاتلهم من إثم أو ضمان أو كفارة؛ لأنَّ الله تعالى أحلَّ قتالهم، وكذلك لا ضمان في إتلاف أموالهم، وكذلك ليس على أهل البغي ضمان ما أتلفوه حال الحرب من نفس أو مال.
النوع الثاني: القصاص والديات: تجب هذه العقوبة في جرائم الاعتداء على النَّفس أو على ما دون النفس، أي: في جرائم القتل والجروح وقطع الأطراف والأعضاء، وقد تجب الكفَّارة أيضًا في جرائم القتل.
وقد شرع الله سبحانه القصاص؛ رحمة بالناس، وحفظاً لدمائهم، وزجرًا عن العدوان، وإذاقة للجاني ما أذاقه لغيره، وفيه إذهاب لحرارة الغيظ من قلوب أولياء المجني عليه، وفيه حياة للناس، وبقاء للنوع الإنساني، كما قال سبحانه: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}.
والقصاص في جريمة القتل: قتل الجاني، وهو حقٌّ لأولياء القتيل، وهم جميع الورثة من ذوي الأنساب والأسباب، والأصل في وجوب القصاص في النفس قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى}، وَعَنْ أَنَسٍ: أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَّ رَأْسَ جَارِيَةٍ بَيْنَ حَجَرَيْنِ فَقِيلَ لَهَا: مَنْ فَعَلَ بِكِ هَذَا؟ أَفُلَانٌ؟ حَتَّى سُمِّيَ الْيَهُودِيُّ فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا فَجِيءَ بِالْيَهُودِيِّ فَاعْتَرَفَ فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُضَّ رَأْسُهُ بِالْحِجَارَةِ. متفق عليه، ولوجوب القصاص شروط، منها: أن يكون القتل عمدًا عدوانًا؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العمد قَوْد" أخرجه الطبراني وصححه الألباني، وأن يكون القتيل معصوم الدم، أي: غير مباح الدم، وأن يكون مكافئًا للقاتل، بمعنى: أنَّ القاتل لا يزيد عليه بحرية أو إسلام.
أمَّا القصاص في جرائم الاعتداء على ما دون النفس، فالأصل فيه قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ}، وجاءت السنة النبوية أيضًا بوجوب القصاص فيما دون النفس، فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أنه قَالَ: كَسَرَتِ الرُّبَيِّعُ وَهِيَ عَمَّةُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ فَأَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ بِالْقِصَاصِ فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ عَمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ لَا وَاللَّهِ لَا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَنَسُ كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ» فَرَضِيَ الْقَوْمُ وَقَبِلُوا الْأَرْشَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى الله لَأَبَره». متفق عليه، وشروط القصاص فيما دون النفس هي شروط القصاص في النفس، مع وجوب توفُّر شرطين آخرين هما: المماثلة بين محل الجريمة وبين ما يقابلها في الجاني المراد الاقتصاص منه في هذا المحل. وأن يكون المثل ممكن الاستيقاء.
الديِّة: الدية في الشرع في باب القتل: اسم للمال الذي يدفع لأهل القتيل من قِبَل من يجب عليه هذا المال، ويختلف مقدارها باختلاف المال الذي تجب فيه، فهي عند الحنفية: إذا كان القتيل ذكرًا مسلمًا من الإبل مائة، ومن الذهب ألف دينار، ومن الفضة عشرة آلاف درهم، ومن الحلل مائتا حلة، كل ثوبان إزار ورداء، ومن البقر مائتا بقرة، ومن الغنم ألف شاة، ودية الأنثى على النصف من دية الذكر، ودية الجنين عشرة دية أمه.
وتجب الدية في القتل الخطأ وشبه العمد على عاقلة الجاني، وهم العصبة النسبية، أي: أقارب القتيل الذكور من جهة الأب، وتدفع الدية أقساطًا في ثلاث سنوات، ويؤدِّي كل رجل من العاقلة من الدية المقدار الذي يطيقه، وتجب الدية أيضًا في القتل العمد إذا اختارها أولياء القتيل، وتكون في هذه الحالة في مال الجاني فقط.
الكفَّارة: وهي عتق رقبة مؤمنة أو صيام شهرين متتابعين عند عدم القدرة على العتق.
وتجب الكفَّارة في القتل الخطأ بالإجماع، وتجب أيضًا في القتل شبه العمد عند الجمهور.
النوع الثالث: التعزير: العقوبات بالتعزير: وهي ما يجب في كل معصية -ترك واجب أو فعل محرَّم- لم يرد في الشرع تقدير لعقوبتها، مثل: أكل ما لا يحل كالدم والميتة، أو قذف الناس بغير الزنى، أو سرقة ما لا يبلغ نصاب حد السرقة، أو خيانة الأمانة كالوكلاء والشركاء إذا خانوا، أو الغش في المعاملة، أو التطفيف في المكيال والميزان، أو شهادة الزور، أو الرشوة، أو غير ذلك من أنواع المحرَّمات. فمرتكبها يعاقب تعزيرًا بقدر ما يراه ذوو الشأن، مثل: الحاكم أو القاضي على حسب كثرة هذه المحرمات في الناس أو قلتها، فإذا كانت المعصية كثيرة الوقوع في الناس زاد في العقوبة بخلاف ما إذا كانت قليلة، وعلى حسب حال الجاني، فإذا كان من ذوي السوابق والفجور زاد في عقوبته، بخلاف المقلّ من ذلك. وعلى حسب كِبَر الجرم وصغره، فيعاقب من يتعرَّض لنساء الناس وأولادهم، ويتكرَّر ذلك منه، بما لا يعاقب به من لم يتعرَّض إلا لامرأة واحدة أو لصبي واحد.
أنواع التعزير: يكون بكل ما فيه إيلام، من قول وفعل، وترك قول، وترك فعل؛ فقد يعزَّر الشخص بوعظه وتوبيخه والإغلاظ له، وقد يعزَّر بهجره وترك السلام عليه حتى يتوب أو يقلع عن معصيته، وقد يعزَّر بعزله عن وظيفته أو ولايته، وقد يكون التعزير بالنفي عن الوطن أو بالحبس، أو بالضرب، وقد يعزَّر بتسويد وجهه، وقد يكون بالعقوبات المالية، مثل إتلاف أدوات الخمر والمعازف وقدور الميتة وأخذ شطر مال مانع الزكاة، وأخيرًا قد يكون التعزير بالقتل مثل قتل الجاسوس المسلم إذا تجسَّس للعدو على المسلمين، وكان في قتله مصلحة.
وسائل القضاء على الجريمة
إن الجرائم شؤم على الأرض وأهلها، فهي سبب للهلاك العام الذي لا ينجو منه إلا من حاربها وأنكرها، وهي وبال على أصحابها في الآخرة إن لم يتوبوا منها ويصلحوا ما أفسدوا، وللجرائم أسباب تؤدي إليها، فيجب اجتنابها، وإذا وقعت فلها علاج يزيلها ويمنع ضررها، والإسلام يعالج كل صور الجريمة بوسائل عظيمة، تبدأ من إصلاح الفرد نفسه، وتنشئته تنشئة صحيحة يتربى فيها على الخوف من الله تعالى، والرغبة في ثوابه، ومراقبته وخشيته، ومعرفة الأخلاق الفاضلة الكريمة، وضدها، وكيف يكون صالحًا مصلحًا لمجتمعه، آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر، عالمًا بالأحكام والحدود والعقوبات والحقوق والواجبات.
وكذا يعالج الإسلام أسباب الجريمة فيقطع الطريق دونها، فإن وقعت فقد شرع لها عقوبات زاجرة تلائم نوع الجريمة، هذا وقد أخفقت كل المبادئ والأنظمة في علاج الجرائم أو حتى التخفيف من ضررها على المجتمعات، ولم ينجح في علاجها وسد أبوابها إلا الإسلام الذي جاء ببيان خطورتها والتحذير منها، وإغلاق كل الطرق المفضية إليها.
فإذا أردنا أن نقضي على الجريمة، أو نحد من انتشارها فلابد من معالجة الأسباب التي تثير الجريمة وتسببها.
فننظر إلى خروج النساء شبه عاريات، وما يعرض في المسرحيات، والأفلام، والإعلام والسينما والتلفزيون، وما يكتب من قصص، وما ينشر من صور، وما يقال من أحاديث، وما ينشأ من حفلات، فكل هذا من أسباب الجريمة، وكل من يهدم الأخلاق والدين في النفوس كذلك؛ فالملحدون والأشرار وأصحاب الأفكار المنحرفة سواء كان مدرسًا، أو كاتبًا، أو باحثًا، أو صُحفيًا، أو إعلاميًا أو موظفًا أو متكلمًا أو غير ذلك ممن يهدمون الفضيلة والخلق في النفوس، كل هؤلاء ينبغي أن يؤخذ على أيديهم؛ لأنهم من أسباب الجريمة، فإذا انهدم كيان الإيمان والخلق والفضيلة في الإنسان أصبح وحشًا، أو حيوانًا، يمكن أن يقتل أو يسرق أو نحو ذلك.
فالذين يهدمون الإيمان، ويحطمون الأخلاق في النفوس مجرمون، وهم من أسباب الجريمة، فينبغي أن يؤخذ على أيديهم، وألا تترك لهم الحرية في الكلام باسم الأدب، أو الفن، أو الحرية في النشر؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم شبه المجتمع بسفينة يركب عليها الناس، فبعضهم في أعلاها وبعضهم في أسفلها، فقال الذين في أسفلها: نحن نؤذي من فوقنا عندما نمر عليهم لنأخذ الماء، فلو خرقنا خرقًا في نصيبنا لكي نأخذ الماء ولا نؤذي من فوقنا، وهؤلاء عندما يخرقون خرقًا في السفينة فإنهم سيغرقون ويغرقون من معهم، فهل يأتي إنسان ويقول: هؤلاء أحرار، وهذه حرية؟!
لقد أثبتت التجربة والتطبيق العملي أن الإسلام قادر على أن يبث الأمن في المجتمعات التي يحكمها، وأن الاتجاه نحو العالم الغربي في قوانينه ونظمه وأخلاقه يجذب القلق والدمار، ويضيع الأمن.
فمن المسئول عن هذه الجرائم؟ إن المسئولية مشتركة ابتداءً من الأب والأم؛ فالأب الذي لم يرب ابنه على الإسلام، ولم يربه على الإيمان، فاشتغل بتجارته وماله ووظيفته وشهواته، وترك ابنه للشارع والسينما والتلفزيون، يهيم مع زملاء له في مثل سنه يفسقون ويفجرون، فهذا الأب مسئول يوم القيامة عن ابنه، وهو مسئول عنه في الدنيا أيضًا، فالأب مكلف بالتربية، ومكلف بالتوجيه وغرس الفضائل والقيم، وأن يربي ابنه على الواجبات وأخلاق الإسلام، وإذا كان لا يستطيع؛ إذ ليس عنده علم، فإنه يستطيع أن يعلم ابنه الوضوء والصلاة، وأن يأتي به إلى بيت الله، وأن يصله بأبناء يعيشون على الطهر والفضيلة، وأن يدفع به إلى حلق العلم وهكذا؛ فهو مسئول عنه.
والأم مسئولة كذلك، مسئولة أن تفهم ابنها وتعلمه، وكثير من نساءنا في هذه الأيام لا يفقهن هذه القضية، بل كل حديثهن مع أولادهن عن الدنيا، وماذا يمكن أن يكونوا في المستقبل، وبعضهن لا يأبهن بهذه القضية، بل ينشغلن بزينتهن وفتنتهن وتبرجهن، ولا يراعين أولادهن، فهن مشاركات في الجريمة.
والدولة والمؤسسات التعليمية والدينية مسئولة أيضًا، فالمساجد والمدارس ينبغي أن تكون مناخًا للأخلاق الفاضلة والقيم النبيلة، فإن الولد يقضي فيها طفولته وشبابه، فإذا لم تقم المدارس على الطهر والفضيلة والأخلاق الطيبة فمن الذي يربي؟ ومن الذي يرعى؟ وإذا تعلم الولد الموسيقى، ولم يتعلم الدين والأخلاق والقيم فكيف يستقيم حاله؟ والعقيدة التي تربيه وتحفظه هي أهم شيء.
والتلفزيون الذي يعرض الجريمة مسئول أيضًا، فالإسلام عندما حرم الزنا والفجور حرم أسبابه، فكل من يعاون على المنكر هو مجرم في الإسلام؛ لأن الإسلام يقتلع الجريمة من جذورها، وهذا الذي يعرض الفاحشة ويحببها للناس بتمثيل وفجور وغناء ورقص وأفلام باسم الفن يقتل الأخلاق ويمزق القيم، ويشيع الفاحشة، وهذه جرائم، والإعلام مسئول عن جرائم الزنا وأمثالها مما يقع.
إن هذه الجرائم التي تتفشى بين الناس وتشيع بينهم، لا ينبغي أن نظن أن جهة ما هي المسئولة عن مكافحتها فقط، بل إن الجريمة اعتداء على أهل الأرض كلهم، ويجب عليهم أن يتعاونوا جميعًا على مكافحة الجريمة، وأن يقفوا في وجه الإجرام أيًا كان، وهذا من حقوق المسلم على أخيه؛ فَعَنْ أَنَسٍ أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا». فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْصُرُهُ مَظْلُومًا فَكَيْفَ أَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟ قَالَ: «تَمنعهُ من الظُّلم فَذَاك نصرك إِيَّاه». مُتَّفق عَلَيْهِ، وَعَن أبي سعيدٍ الخدريِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فبقلبه وَذَلِكَ أَضْعَف الْإِيمَان». رَوَاهُ مُسلم.
ملاحظة: أكثر هذه الخطبة مستفاد من كتاب أصول الدعوة للدكتور عبدالكَريم زيدان.
مع تحيات
اللجنة العلمية لملتقى الخطيب المؤثر أسد المنابر