الأربعاء ، ٢ جمادى الآخر ، ١٤٤٦ هجري | 04 ديسمبر 2024 ميلادي
الإمام الشافعي رحمه الله تعالى
وصف الخطبة : - التعرف على سير السلف الصالح، والحث على الاقتداء بهم -الإمام الشافعي أنموذجًا

عنوان الخطبة ((الإمام الشافعي رحمه الله تعالى))
الهدف من الخطبة التعرف على سير السلف الصالح، والحث على الاقتداء بهم -الإمام الشافعي أنموذجًا
عناصر الموضوع
1- نشأة الإمام الشافعي رحمه الله تعالى.   
2- عقيدة الإمام الشافعي رحمه الله.   
3- من أخبار الإمام وأحواله. 
الإمام الشافعي رحمه الله تعالى 
مقدمة الموضوع: أما بعد، فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فضلوا وأضلوا». متفق عليه.
قال عَبْدُ اللهِ بنُ أَحْمَدَ بن حنبل، قُلْتُ لأَبِي: أَيَّ رَجُلٍ كَانَ الشَّافِعِيُّ، فَإِنِّي سَمِعتُكَ تُكْثِرُ مِنَ الدُّعَاءِ لَهُ؟ قَالَ: يَا بُنِيَّ، الشافعي كَانَ كَالشَّمْسِ لِلدُّنْيَا، وَكَالعَافِيَةِ لِلنَّاسِ، فَهَلْ لِهَذَيْنِ مِنْ خَلَفٍ، أَوْ مِنْهُمَا عِوَضٌ؟
قال الإمام الذهبي رحمه الله تعالى: وَإِمَامُنَا فَبِحَمْدِ اللهِ ثَبْتٌ فِي الحَدِيْثِ، حَافِظٌ لِمَا وَعَى، عَدِيْمُ الغَلَطِ، مَوْصُوفٌ بِالإِتْقَانِ، مَتِيْنُ الدِّيَانَةِ، فَمَنْ نَالَ مِنْهُ بِجَهْلٍ وَهوَىً، مِمَّنْ عُلِمَ أَنَّهُ مُنَافسٌ لَهُ، فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ، وَمَقَتَتْهُ العُلَمَاءُ، وَلاَحَ لِكُلِّ حَافِظٍ تَحَامُلُهُ، وَجَرَّ النَّاسَ بِرِجْلِهِ، وَمَنْ أَثْنَى عَلَيْهِ، وَاعْتَرفَ بِإِمَامَتِهِ وَإِتقَانِهِ، وَهُمْ أَهْلُ العَقْدِ وَالحَلِّ، قَدِيْماً وَحَدِيْثاً، فَقَدْ أَصَابُوا، وَأَجْمَلُوا، وَهُدُوا وَوُفِّقُوا. انتهى.
وقال: فَرَحِمَ اللهُ الشَّافِعِيَّ، وَأَيْنَ مِثْلُ الشَّافِعِيِّ وَاللهِ فِي صِدْقِهِ، وَشَرَفِهِ، وَنُبلِهِ، وَسَعَةِ عِلْمِهِ، وَفَرْطِ ذَكَائِهِ، وَنَصْرِهِ لِلْحَقِّ، وَكَثْرَةِ مَنَاقبِهِ رَحِمَهُ اللهُ تعَالَى. انتهى.
نشأة الإمام الشافعي رحمه الله تعالى
اسمه ونسبته هو: مُحَمَّدُ بنُ إِدْرِيْسَ بنِ العَبَّاسِ بنِ عُثْمَانَ بنِ شَافِعِ بنِ السَّائِبِ بنِ عُبَيْدِ بنِ عَبْدِ يَزِيْدَ بنِ هِشَامِ بنِ المُطَّلِبِ بنِ عَبْدِ مَنَافٍ بنِ قُصَيٍّ بنِ كِلاَبِ بنِ مُرَّةَ بنِ كَعْبِ بنِ لُؤَيِّ بنِ غَالِبٍ، الإِمَامُ عَالِمُ العَصْرِ نَاصِرُ الحَدِيْثِ فَقِيْهُ المِلَّةِ أَبُو عَبْدِ اللهِ القُرَشِيُّ، ثُمَّ المُطَّلِبِيُّ الشَّافِعِيُّ، المَكِّي.
- ولد الشافعي رحمه الله في غَزَّة سنة خمسين ومائةُ من الهجرة وحملته أمه إلى مكة وهو ابن سنتين؛ فقد مات أبوه إدريس شابًا، ونشأ الإمام يتيمًا في حجر أمه، فخافت عليه الضيعة، فتحولت به إلى مكة. 
وفي سنٍ مبكرة دفعته أمه إلى شيخ من شيوخ الحرم المكي ليحفظه القرآن الكريم، فحفظ القرآن كله في السابعة من عمره، وأقبل على الرمي، حتى فاق فيه الأقران، وصار يصيب من عشرة أسهم تسعة أو عشرة، ثم أقبل على العربية والشعر فبرع في ذلك وتقدم، ثم حُبب إليه الفقه فَسَادَ أهل زمانه. 
قال الشافعي: كُنْتُ يَتِيْماً فِي حَجْرِ أُمِّي، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا مَا تُعْطِينِي لِلْمُعَلِّمِ، وَكَانَ المُعَلِّمُ قَدْ رَضِيَ مِنِّي أَنْ أَقُوْمَ عَلَى الصِّبْيَانِ إِذَا غَابَ، وَأُخَفِّفَ عَنْهُ. وَقَالَ: كُنْتُ أَكْتُبُ فِي الأَكتَافِ وَالعِظَامِ، وَكُنْتُ أَذْهَبُ إِلَى الدِّيْوَانِ، فَأَسْتَوْهِبُ الظُّهُوْرَ، -يعني ظهور الورق المستعمل- فَأَكْتُبُ فِيْهَا. 
شيوخه: أَخَذَ الشافعيُّ العِلْمَ بِبَلَدِهِ عَنْ: مُسْلِمِ بنِ خَالِدٍ الزَّنْجِيِّ -مُفْتِي مَكَّةَ- وَدَاوُدَ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ العَطَّارِ، وَعَمِّهِ مُحَمَّدِ بنِ عَلِيِّ بنِ شَافِعٍ وَسُفْيَانَ بنِ عُيَيْنَةَ، وَفُضَيْلِ بنِ عِيَاضٍ، وَغيرهم.
وَارْتَحَلَ -وَهُوَ ابْنُ نَيِّفٍ وَعِشْرِيْنَ سَنَةً، وَقَدْ أَفْتَى وَتَأَهَّلَ لِلإِمَامَةِ– إِلَى المَدِيْنَةِ، فَحَمَلَ عَنْ مَالِكِ بنِ أَنَسٍ المُوَطَّأَ، عَرَضَهُ مِنْ حِفْظِهِ، وَقِيْلَ: مِنْ حِفْظِهِ لأَكْثَرِهِ.
وَحَمَلَ عَنْ: إِبْرَاهِيْمَ بنِ أَبِي يَحْيَى -فَأَكْثَرَ- وَعَبْدِ العَزِيْزِ الدَّرَاوَرْدِيِّ، وَعَطَّافِ بنِ خَالِدٍ، وَإِسْمَاعِيْلَ بنِ جَعْفَرٍ، وَإِبرَاهِيْمَ بنِ سَعْدٍ، وَطَبَقَتِهِم، وَأَخَذَ بِاليَمَنِ عَنْ: مُطَرِّفِ بنِ مَازِنٍ، وَهِشَامِ بنِ يُوْسُفَ القَاضِي، وَطَائِفَةٍ، وَبِبَغْدَادَ عَنْ: مُحَمَّدِ بنِ الحَسَنِ؛ فَقِيْهِ العِرَاقِ، وَلاَزَمَهُ، وَحَمَلَ عَنْهُ وِقْرَ بَعِيْرٍ، وَعَنْ: إِسْمَاعِيْلَ ابْنِ عُلَيَّةَ، وَعَبْدِ الوَهَّابِ الثَّقَفِيِّ، وَخَلْقٍ.
وَصَنَّفَ التَّصَانِيْفَ، وَدَوَّنَ العِلْمَ، وَرَدَّ عَلَى الأَئِمَّةِ مُتَّبِعاً الأَثَرَ، وَصَنَّفَ فِي أُصُوْلِ الفِقْهِ وَفُرُوْعِهِ، وَبَعُدَ صِيْتُهُ، وَتَكَاثَرَ عَلَيْهِ الطَّلَبَةُ.
تلاميذه: حَدَّثَ عَنْهُ: الحُمَيْدِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ القَاسِمُ بنُ سَلاَّمٍ، وَأَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ، وَسُلَيْمَانُ بنُ دَاوُدَ الهَاشِمِيُّ، وَإِسْحَاقُ بنُ رَاهْوَيْه، وخلق سواهم.
- سبب طلبه للعلم ورحلته في طلبه: قيل إنه خرج يطلب النحو والأدب فلقيه مسلم بن خالد فقال له: يا فتى من أين أنت؟ قال: من أهل مكة؟ قال: وأين منزلك بها؟ قال: بشعب الخيف، قال: من أي قبيلة أنت؟ قال: من ولد عبد مناف قال: بخ بخ! لقد شرفك الله في الدنيا والآخرة، ألا جعلت فهمك هذا في الفقه كان أحسن بك؟!
- سبب آخر: وقيل: انتقل الشافعي من مكة إلى قبيلة هذيل ليتعلم منها اللغة العربية، وكانت هذيل أفصح العرب لغةً وبيانًا، ثم رجع بعد ذلك إلى مكة يردد الأشعار ويذكر الآداب والأخبار وأيام العرب، فلقيه رجل من الزبيريين من بني عمه فقال له: يا أبا عبد الله! والله إنه ليعز عليَّ ألا يكون مع هذه البلاغة والفصاحة والذكاء فقه. قال الشافعي: فَمَنْ مِنَ العلماء نقصده لطلب الفقه؟ فقال له: تقصد سيد المسلمين مالك بن أنس في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلمَ، قال الشافعي: فوقعت هذه القولة في قلبي فذهبت إلى رجل من أهل مكة علمت أنه يحوي عنده موطأ الإمام مالك، واستعرت منه الموطأ وعكفت عليه، فحفظت الموطأ عن ظهر قلب في تسع ليالٍ، فلما انتهيت من حفظ الموطأ أخذت رسالة من والي مكة ومن شيخي وذهبت إلى الإمام مالك، فلما كلمته، قال: يا غلام! ما اسمك؟ قلت: محمد. فقال: يا محمد! إني أرى الله قد ألقى على قلبك نورًا فلا تطفئه بظلمة المعصية، فإني أرى أنه سيكون لك شأن كبير إن شاء الله عز وجل.
ثم قال مالك: يا فتى إذا كان الغد تجيء، واطلب من يقرأ لك الموطأ. قلت: أنا أقرأ، فقرأت عليه، فكان ربما قال لي لشيء قدر مر: أعده فأعيده حفظًا، فكأنه أعجبه، ثم سألته عن مسألة فأجابني، ثم أخرى فقال: أنت تحب أن تكون قاضيًا.
ولبث الإمام الشافعي في المدينة المنورة ملازمًا لشيخه حتى توفى الله مالكًا رضي الله عنه، وبعد وفاته رحل الشافعي إلى بغداد، ثم عاد إلى مكة، ثم رجع إلى بغداد، ومنها خرج إلى مصر، ومكث في مصر خمس سنين وأفتى بها.
عقيدة الإمام الشافعي رحمه الله تعالى
كان الإمام الشافعي رحمه الله تعالى على عقيدة السلف الصالح أتباع الصحابة من أهل الحديث والأثر وأهل السنة والجماعة، يعمل بالكتاب والسنة وفق فهم الصحابة وعلماء الأمة المجمع على فضلهم وسلامتهم من البدع والمخالفات، يقدم النقل على العقل، ويرفض مذاهب الفلسفة، ويذم أهل الكلام ويناظرهم وينكر عليهم.
وللإمام الشافعي رحمه الله آثار ونقول وأقوال في بيان معتقد أهل السنة والجماعة ومنهجهم ولزوم اتباعهم، وله رحمه الله فتاوى وردود على أهل البدع والكلام، كالجهمية والمعتزلة والقدرية والرافضة، وله مناظرات مع بعضهم كبشر المريسي وحفص المنفرد.
وفيما يلي بعض ما جاء عن الإمام الشافعي رحمه الله في بيان عقيدة السلف الصالح وفساد عقيدة أهل الكلام:
قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: إذا رأيتُ رجلاً من أصحاب الحديث فكأني رأيت رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلمَ، جزاهم الله خيرًا، هم حفظوا لنا الأصل، فلهم علينا الفضل.
وقال رحمه الله: عليكم بأصحاب الحديث فإنهم أكثر الناس صوابًا. 
وقال رحمه الله: لقد ضل من ترك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلمَ لقول من بعده. 
وعنه قال: إِذَا وَجَدْتُمْ فِي كتَابِي خِلاَفَ سُنَّةِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُوْلُوا بِهَا، وَدَعُوا مَا قُلْتُهُ.
وذكر حديثًا فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: تَأْخُذُ بِهَذَا الحَدِيْثِ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ؟ فَقَالَ: مَتَى رَوَيْتُ عَنْ رَسُوْلِ اللهِ حَدِيْثاً صَحِيْحاً وَلَمْ آخُذْ بِهِ، فَأُشْهِدُكُم أَنَّ عَقْلِي قَدْ ذَهَبَ.
وَقَالَ الحُمَيْدِيُّ: رَوَى الشَّافِعِيُّ يَوْمًا حَدِيْثًا، فَقُلْتُ: أَتَأْخُذُ بِهِ؟ فَقَالَ: رَأَيتَنِي خَرَجْتُ مِنْ كَنِيْسَةٍ، أَوْ عَلَيَّ زِنَّارٌ، حَتَّى إِذَا سَمِعْتُ عَنْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيْثاً لاَ أقولُ بِهِ؟!
وقال: أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي، وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إِذَا رَوَيْتُ عَنْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيْثاً فَلَمْ أقُلْ بِهِ.
وَقَالَ: كُلُّ حَدِيْثٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ قَوْلِي، وَإِنْ لَمْ تَسْمَعُوهُ مِنِّي.
وَيُرْوَى أنَّهُ قَالَ: إِذَا صَحَّ الحَدِيْثُ فَهُوَ مَذْهَبِي، وَإِذَا صَحَّ الحَدِيْثُ، فَاضْرِبُوا بِقَولِي الحَائِطَ.
وعنه قال: كل مسألة تكلمت فيها صح الخبر فيها عن النبي صلى الله عليه وسلمَ عند أهل النقل بخلاف ما قلتُ فأنا راجع عنها في حياتي وبعد موتي. 
وقال: مثل الذي يطلب العلم بلا حجة كمثل حاطب ليل، يحمل حزمة حطب وفيه أفعى تلدغه وهو لا يدري. 
وفي بيان عقيدة السلف الصالح قال رضي الله عنه: آمنت بالله، وبما جاء عن الله، على مراد الله، وآمنت برسول الله، وبما جاء عن رسول الله، على مراد رسول الله.
وقال رضي الله عنه: لله أسماء وصفات جاء بها كتابه وأخبر بها نبيّه صلى الله عليه وسلم أُمّته، لا يَسَع أحدًا قامت عليه الحجة رَدّها، لأن القرآن نزل بها، وصَحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلمَ القول بها، فإن خالف ذلك بعد ثبوت الحجة عليه، فهو كافر؛ فأما قبل ثبوت الحجة فمعذور بالجهل؛ لأن علم ذلك لا يُدرَكُ بالعقل، ولا بالرؤية والفِكر، ولا نُكَفِّر بالجهل بها أحدًا إِلا بعد انتهاء الخبر إِليه بها، ونُثبتُ هذه الصفات وننفي عنها التَّشبيه كما نَفاه عن نفسه، فقال: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).
وقال رحمه الله تعالى: القول في السُّنّة التي وردت وأنا عليها، ورأيتُ أصحابنا عليها أهل الحديث الذين رأيتُهم وأخذتُ عنهم -مثل: سفيان الثّوريّ ومالك وغيرهما-: الإقرار بشهادة أن لا إله إلا الله وأنّ محمّدًا رسول الله، وأنّ الله تعالى على عرشه في سمائه، يقرب من خلقه كيف شاء، وأنّ الله تعالى ينزل إلى السّماء الدُّنيا كيف شاء، وَذَكَرَ سَائِرَ الِاعْتِقَادِ.
قال الشّافعيّ رحمه الله تعالى: الإِيمان قول وعمل، ويزيد وينقص.
وسأله رجل: أي الأعمال عند الله أفضل؟ فقال: ما لا يقبل عملاً إِلا به. قال: وما ذاك؟ قال: الإِيمان بالله الذي لا إِله إِلا هو، أعلى الأعمال درجة، وأشرفها منزلة، وأسناها حظًا، قال الرجل: ألا تخبرني عن الإِيمان؛ قول وعمل أو قول بلا عمل؟
فقال: الإيمان عمل لله، والقول بعض ذلك العمل، وإن الإيمان حالات ودرجات وطبقات، فمنها التام المنتهي تمامُه، والناقص البَيِّن نقصانُه، والراجح الزائد رجحانُه. فقال الرجل: وإِن الإِيمان ليتمّ وينقص ويزيد؟ قال الشافعي: نعم. قال: وما الدليل على ذلك؟ قال: إِن الله جلَّ ذكره فرض الإِيمان على جوارح بني آدم فقسمه فيها، وفرقه عليها، فليس من جوارحه جارحة إِلا وقد وُكلت من الإِيمان بغير ما وكلت به أختها بفرضٍ من الله تعالى؛ فمن لقي الله حافظًا لصلواته حافظًا لجوارحه، مؤديًا بكل جارحة من جوارحه ما أمر الله به وفرض عليها، لقي الله مستكملَ الإِيمان من أهل الجنة، ومن كان لشيءٍ منها تاركًا متعمدًا، مما أمر الله به لقي الله ناقص الإِيمان. قال الرجل: قد عرفت نقصانه وإِتمامه، فمن أين جاءت زيادته؟ فقال الشافعي: قال الله جلَّ ذكره: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا)، ولو كان هذا الإِيمان كله واحدًا لا نقصان فيه ولا زيادة، لم يكن لأحدٍ فيه فضل، واستوى الناس وبطل التفضيل، ولكن بتمام الإِيمان دخل المؤمنون الجنة، وبالزيادة في الإِيمان تفاضَل المؤمنون بالدرجات عند الله في الجنة، وبالنقصان من الإِيمان دخل المُفرِّطون النار.
وقال رحمه الله تعالى في قوله عزَّ وجلَّ: (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ): هذا دليل على أن أولياءَه يرونه يوم القيامة، فلما حجبهم بالسخط، كان هذا دليلاً على أنهم يرونه في الرضا.
وقال الإمام الشافعي رحمه الله: من قال القرآن مخلوق فهو كافر.
وقال رحمه الله: والقرآن كلام الله تعالى غير مخلوق ومشيئةُ العباد هي إِلى الله تعالى، ولا يَشاؤون إِلا أنْ يَشاء الله ربُّ العالمين، فإِن الناس لم يخلقوا أعمالهم، وهي خَلقُ مِنْ خَلْقِ الله تعالى، وإِن القدرَ خيرَه وشرّه من الله عزَّ وجلَّ، وإِن عذابَ القبر حق، ومُساءَلَةَ أهل القبور حق، والبعثَ حق، والحسابَ حق، والجنة والنار، وغير ذلك مما جاءت به السُّنن فظهر على ألسنة العلماء وأتباعهم من بلاد المسلمين حق، وأفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي رضوان الله عليهم. وقد أثنى الله على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن، وسبق لهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفضل ما ليس لأحدٍ بعدهم، وهم أدّوا إِلينا سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشاهدوه والوحي ينزل عليه، فعلموا ما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم عامًّا وخاصًّا وعزمًا وإِرشادًا، وعرفوا من سنته ما عرفنا وجهلنا، وهم فوقنا في كل علمٍ واجتهاد، وآراؤهم لنا أحمد، وأولى بنا من آرائنا عندنا لأنفسنا.
قيل للشافعي: أأصلي خلف الرافضي؟ قال: لا تصل خلف الرافضي ولا القدري ولا المرجئ، قلت: صفهم لنا، قال: من قال: الإيمان قول فهو مرجئ، ومن قال: إن أبا بكر وعمر ليسا بإمامين فهو رافضي، ومن جعل المشيئة إلى نفسه فهو قدري.
وكان موقف الإمام الشافعي من علم الكلام وأهله واضحًا؛ فكان يناظرهم وينكر عليهم:
قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لقد اطلعت من أهل الكلام على شيء ما ظننت مسلمًا يقوله، ولأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه -ما خلا الشرك بالله- خير له من أن يبتلى بالكلام. 
وقال: حُكْمِي فِي أَهْلِ الكَلاَمِ أَنْ يُضْرَبُوا بِالجَرِيْدِ، وَيُحْمَلُوا عَلَى الإِبِلِ، وَيُطَافُ بِهِم فِي العَشَائِرِ، يُنَادَى عَلَيْهِم: هَذَا جَزَاءُ مَنْ تَرَكَ الكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، وَأَقْبَلَ عَلَى الكَلاَمِ.
وَقَالَ: مَذْهَبِي فِي أَهْلِ الكَلاَمِ تَقْنِيعُ رُؤُوْسِهِم بِالسِّيَاطِ، وَتَشْرِيدُهُمْ فِي البِلاَدِ.
وقال: ما رأيت أحدًا ارتدى شيئًا من الكلام فأفلح.
وكان موقفه من الصوفية واضحًا أيضًا؛ فقد أدرك الإمام بدايات التصوف وكان من أكثر العلماء والأئمة إنكارًا عليهم، ومما قال في هذا: لو أن رجلًا تصوف أول النهار لا يأتي الظهر حتى يصير أحمق.
وقال أيضًا: ما لزم أحد الصوفيين أربعين يومًا فعاد عقله أبدًا، وأنشد:
ودعوا الذين إذا أتوك تنسكوا ... وإذا خلوا كانوا ذئاب خفاف
وقال أيضًا عندما سافر إلى مصر: تركت ببغداد وقد أحدث الزنادقة شيئًا يسمونه السماع -يعني الغناء والرقص الذي ابتدعه الصوفية في القرن الثاني-.
من أخبار الإمام وأحواله
كان الإمام الشافعي رحمه الله تعالى إمامًا في الفقه والحديث والزهد والورع، وله في ذلك أخبار وأحوال كثيرة ذكرها أهل العلم في التراجم وكتب الرجال، ومن ذلك:
كَانَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله قَدْ جَزَّأَ اللَّيْلَ أثلاثًا: فَثُلُثُهُ الأَوَّلُ يَكْتُبُ، وَالثَّانِي يُصَلِّي، وَالثَّالِثُ يَنَامُ.
قال حُسَيْن الكَرَابِيْسِيُّ: بِتُّ مَعَ الشَّافِعِيِّ لَيْلَةً، فَكَانَ يُصَلِّي نَحْوَ ثُلُثِ اللَّيْلِ، فَمَا رَأَيْتُهُ يَزِيْدُ عَلَى خَمْسِيْنَ آيَةً، فَإِذَا أكْثَرَ فَمائَةِ آيَةٍ، وَكَانَ لاَ يَمُرُّ بآيَةِ رَحمَةٍ إِلاَّ سَأَلَ اللهَ، وَلاَ بآيَةِ عَذَابٍ إِلاَّ تَعَوَّذَ، وَكَأَنّمَا جُمِعَ لَهُ الرَّجَاءُ وَالرَّهْبَةُ جَمِيْعًا.
وكَانَ الشَّافِعِيُّ يَخْتِمُ القُرْآنَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سِتِّيْنَ خَتْمَةً.
وقال بحر بن نصر: ما رأيت ولا سمعت أتقى لله ولا أورع من الشافعي، ولا أحسن صوتاً منه بالقرآن.
قَالَ لَهُ شَيْخه مُسلم بن خَالِد وَهُوَ مفتي مَكَّة: يَا أَبَا عبد الله أفت فقد آن لَك أَن تُفْتِي وَهُوَ ابْن خمس عشرَة سنة.
وَقَالَ الرّبيع كَانَ الشَّافِعِي يُفْتِي وَهُوَ ابْن خمس عشرَة سنة وَكَانَ يحي اللَّيْل إِلَى أَن مَاتَ.
وقيل للشافعي: ما لك تدمن إمساك العصا ولست بضعيف؟ قال: لأذكر أني مسافر، يعني: في الدنيا.
وعن سويد بن سعيد يقول: كنا عند سفيان بن عيينة فجاء محمد بن إدريس فجلس فروى ابن عيينة حديثاً رقيقاً فغشي على الشافعي، فقيل: يا أبا محمد مات محمد بن إدريس، فقال ابن عيينة: إن كان قد مات محمد بن إدريس فقد مات أفضل أهل زمانه.
قال الحُمَيْدِيُّ: قَدِمَ الشَّافِعِيُّ صَنْعَاءَ، فضُرِبَتْ لَهُ خَيْمَةٌ، وَمَعَهُ عَشْرَةُ آلاَفِ دِيْنَارٍ، فَجَاءَ قَوْمٌ، فَسَأَلُوْهُ، فَمَا قُلِعَتِ الخَيْمَةُ وَمَعَهُ مِنْهَا شَيْءٌ.
وقَالَ الرَّبِيْعُ: أَخَذَ رَجُلٌ بِرِكَابِ الشَّافِعِيِّ، فَقَالَ لِي: أَعْطِهِ أَرْبَعَةَ دَنَانِيْرَ، وَاعْذِرْنِي عِنْدَهُ.
قال المُزَنِيّ: كُنْتُ مَعَ الشَّافِعِيِّ يَوْماً، فَخَرَجْنَا الأَكْوَامَ، فَمَرَّ بِهَدَفٍ، فَإِذَا بِرَجُلٍ يَرْمِي بِقَوسٍ عَرَبِيَّةٍ، فَوَقَفَ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ يَنْظُرُ، وَكَانَ حَسَنَ الرَّمْيِ، فَأَصَابَ بِأَسْهُمٍ. فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَحْسَنْتَ، وَبَرَّكَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَعْطِهِ ثَلاَثَةَ دَنَانِيْرَ، وَاعذِرْنِي عِنْدَهُ.
وَقَالَ الرَّبِيْعُ: كَانَ الشَّافِعِيُّ مَارّاً بِالحَذَّائِيْنَ، فَسَقَطَ سَوْطُهُ، فَوَثَبَ غُلاَمٌ، وَمَسَحَهُ بِكُمِّهِ، وَنَاوَلَهُ، فَأَعْطَاهُ سَبْعَةَ دَنَانِيْرٍ.
وقَالَ الرَّبِيْعُ: تَزَوَّجْتُ، فَسَأَلَنِي الشَّافِعِيُّ كَمْ أَصْدَقْتَهَا؟ قُلْتُ: ثَلاَثِيْنَ دِيْنَاراً، عَجَّلْتُ مِنْهَا سِتَّةً، فَأَعْطَانِي أَرْبَعَةً وَعِشْرِيْنَ دِيْنَاراً.
وقَالَ ابْنُ عَبْدِ الحَكَمِ: كَانَ الشَّافِعِيُّ أَسْخَى النَّاسِ بِمَا يَجِدُ، وَكَانَ يَمُرُّ بِنَا، فَإِنْ وَجَدَنِي، وَإِلاَّ قَالَ: قُولُوا لمُحَمَّدٍ إِذَا جَاءَ: يَأْتِي المَنْزِلَ، فَإِنِّي لاَ أَتَغَدَّى حَتَّى يَجِيءَ.
وعن الربيع قال: كنا مع الشافعي وقد خرج من مسجد مصر، فانقطع شسع نعله -وهو رباط النعل- فأصلح له رجل شسعه ودفعه إليه، فقال: يا ربيع معك من نفقتنا شيء؟ قلت: نعم، قال: كم؟ قلت: سبعة دنانير، قال: ادفعها إليه.  
وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم: جاءنا الشافعي إلى منزلنا قال: فقال لي: اركب دابتي هذه قال: فركبتها، قال: فقال لي: أقبل بها وأدبر ففعلت، فقال: إني أراك بها لبقاً فخذها فهي لك.
وَقَالَ عَمْرُو بنُ سَوَّادٍ: كَانَ الشَّافِعِيُّ أَسْخَى النَّاسِ عَلَى الدِّيْنَارِ وَالدِّرْهَمِ وَالطَّعَامِ.
وقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَفلَسْتُ مِنْ دَهْرِي ثَلاَثَ إِفْلاسَاتٍ، فَكُنْتُ أَبِيْعُ قَلِيْلِي وَكَثِيْرِي حَتَّى حُلِيَّ بِنْتِي وَزَوْجَتِي، وَلَمْ أرْهَنْ قَطُّ.
وقَالَ يُوْنُسُ الصَّدَفِيُّ: مَا رَأَيْتُ أَعْقَلَ مِنَ الشَّافِعِيِّ، نَاظَرْتُهُ يَوْماً فِي مَسْأَلَةٍ، ثُمَّ افْتَرَقْنَا، وَلَقِيَنِي، فَأَخَذَ بِيَدِي، ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا مُوْسَى، أَلاَ يَسْتَقيمُ أَنْ نَكُوْنَ إِخْوَاناً وَإِنْ لَمْ نَتَّفِقْ فِي مَسْأَلَةٍ.
-حبه للعلم: قيل للشافعي: كيف رغبتك في العلم؟ فقال أسمع بالحرف الذي لم أسمعه فتود أعضائي أن لكل واحد منها سمعًا يتنعم بسماع تلك الكلمة قيل له: فكيف حرصك عليه؟ قال حرص الجموع الممنوع على المال قيل: وكيف طلبك له؟ قال: طلب المرأة التي ضلت ولدها وليس لها غيره. 
قَالَ إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه: لَقِيَنِي أَحْمد بن حَنْبَل بِمَكَّة، فَقَالَ: تعال أريك رجلاً لم تَرَ عَيْنَاك مثله فَأرَانِي الشَّافِعِي. قَالَ: فتناظرنا فِي الحَدِيث فَلم أر أعلم مِنْهُ.. ثمَّ تناظرنا فِي الْفِقْه فَلم أر أفقه مِنْهُ.. ثمَّ تناظرنا فِي الْقُرْآن فَلم أر أَقرَأ مِنْهُ.. ثمَّ تناظرنا فِي اللُّغَة فَوَجَدته بَيت اللُّغَة وَمَا رَأَتْ عَيْنَايَ مثله قطّ. قَالَ: فَلَمَّا فارقناه أَخْبرنِي جمَاعَة من أهل الْفَهم بِالْقُرْآنِ أَنه كَانَ أعلم النَّاس فِي زَمَانه وَأَنه كَانَ قد أُوتِيَ فهما فِي الْقُرْآن.
-مرضه رحمه الله ووفاته: قال الربيع: أقام الشافعي هاهنا أربع سنوات، فأملى خمسمائة وألف (1500) ورقة، وخرج كتاب الأم ألفي (2000) ورقة، وكتاب السنة، وأشياء كثيرة كلها في أربع سنين، وكان عليلاً شديد العلة، يكاد ربما يخرج الدم منه وهو راكب، حتى تمتلئ سراويله ومركبه وخفه.
وعن يونس بن عبد الأعلى قال: ما رأيت أحدًا لقي من السقم ما لقي الشافعي، فدخلت عليه يوماً فقال لي: يا أبا موسى! اقرأ على ما بعد العشرين والمائة من آل عمران: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} إلى آخر السورة، وأخف القراءة، ولا تثقل.
فقرأت عليه، فلما أردت القيام قال: لا تغفل عني، فإني مكروب.  
قال يونس: عنى الشافعي بقراءتي بعد العشرين والمائة ما لقى النبي صلى الله عليه وسلمَ وأصحابه أو نحوه؛ ليتأسى بهم، والإنسان يتصبر بما حدث للنبي صلى الله عليه وسلمَ والصحابة الكرام في غزوة أحد.
وعن الربيع قال: دخل المزني على الشافعي في مرضه الذي مات فيه، فقال له: كيف أصبحت يا أستاذ؟ فقال: أصبحت من الدنيا راحلاً، ولإخواني مفارقاً، ولكأس المنية شارباً، وعلى الله تعالى وارداً، ولسوء عملي ملاقياً، ثم رمى بطرفه نحو السماء واستعبر.
وفاته رحمه الله: قال الربيع بن سليمان: لما كان مع المغرب ليلة مات الشافعي قال له ابن عمه ابن يعقوب: ننزل نصلي؟ قال: تجلسون تنتظرون خروج نفسي؟ قال: فنزلنا ثم صعدنا فقلنا: صلينا أصلحك الله.   قال: نعم.
فاستسقى وكان شتاء، فقال له ابن عمه: أمزجه بالماء المسخن فقال الشافعي: لا، بل بلب السفرجل، وتوفي مع العشاء الآخرة رحمه الله.
قال الربيع بن سليمان: توفي الشافعي رحمه الله ورضي عنه ليلة الجمعة بعد المغرب وأنا عنده، ودفن يوم الجمعة بعد العصر آخر يوم من رجب، فانصرفنا من جنازته ورأينا هلال شعبان سنة أربع ومائتين (204)، وهو ابن أربع وخمسين سنة.
مع تحيات
اللجنة العلمية لملتقى الخطيب المؤثر أسد المنابر