إمام دار الهجرة
الهدف من الخطبة بيان فضل العلماء رضي الله عنهم، وفضل السلف على الخلف الإمام مالك أنموذجًا
عناصر الموضوع
1- فضل العلماء.
2- إمام دار الهجرة.
3- فضل السلف الصالح.
إمام دار الهجرة
مقدمة الموضوع : أما بعد، قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}، قال أهل العلم في المختصر في التفسير: إنما يعظم مقام الله تعالى ويخشاه العالمون به سبحانه؛ لأنهم عرفوا صفاته وشرعه ودلائل قدرته. انتهى.
فضل العلماء
* إن العلماء هم أئمة الأنام، وزوامل الإسلام، الذين حفظوا على الأمة معاقد الدين ومعاقله، وحَمَوْا من التغيير والتكدير موارده ومناهله، الذين قال فيهم الإمام أحمد رحمه الله: يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يُحيون بكتاب الله تعالى الموتى، ويُبَصِّرون بنور الله أهلَ العمى، فكم من قتيلٍ لأبليسَ قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه.
قال ميمون بن مهران رحمه الله: العلماء هم ضالتي في كل بلد، وهم بغيتي إذا لم أجدهم، وجدتُ صلاح قلبي في مجالسة العلماء.
وقد تواردت أدلة الكتاب الكريم والسنة المطهرة على الإشادة بفضلِ العلماء، والإشارة بعلو مقامهم؛ فمن ذلك:
قول الله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}، قال ابن عباس رضي الله عنهما: يرفع الله الذين أوتوا العلم من المؤمنين على الذين لم يؤتوا العلم درجات.
وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلمَ: "إِن الله وملائكته، حتى النملةَ في جُحْرِها، وحتى الحوتَ في البحر، ليُصَلُّون على معلم الناس الخير". رواه الترمذي وصححه الألباني.
* والعلماء هم أولو الأمر الذين أوجب الله طاعتهم بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}.
قال ابن عباس وضي الله عنهما: يعني أهل الفقه والدين وأهل طاعة الله، الذين يعلِّمون الناس معاني دينهم، ويأمرونهم بالمعروف، وينهونهم عن المنكر، فأوجب الله سبحانه طاعتهم على عباده.
وقال الإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله واصفًا العلماء: هم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء، بهم يهتدي الحيران في الظلماء، وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب، وطاعتهم أفرض من طاعة الأمهات والآباء بنص الكتاب، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}. انتهى.
قال ميمون بن مهران: إن مثل العالم في البلد كمثل عينٍ عذبة في البلد.
قال الإمام أحمد: الناس أحوج إلى العلم منهم إلى الطعام والشراب؛ لأن الطعام والشراب يُحتاج إليه في اليوم مرتين أو ثلاثًا، والعلم يُحتاج إليه في كل وقت.
وكيف تستغني عن العلماء؛ والفقهاء منهم يضبطون عقلك، والمحدثون ينخلون أحاديثك، وجهابذة التفسير يفقهونك في قرآنك، والمؤرخون يعلمونك صعود الأمم وهبوطها على مدار القرون، والأصوليون يدربونك على أستنباط الأحكام، وأرباب اللغة يُقَوِّمون لسانك الأعوج، والربانيون يوصلون قلبك إلى الملإ الأعلى.
* والعلماء هم صفوة البشر على الحقيقة، وهم ورثة أربعة عشر قرنًا من العمل الدؤوب لخدمة الدين.
عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلمَ يقول: "فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإِن العلماء ورثة الأنبياء، وإِن الأنبياء لم يُوَرِّثوا دينارًا ولا درهمًا، ولكنهم ورَّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر". رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وحسنه الألباني لغيره.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين". متفق عليه.
فاهل العلم هم أصحاب البصيرة الذين أوتوا الحكمة، فهم يقضون بها، ويعلِّمونها للناس، وهم أوفر الناس حظًّا من قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي}؛ وبهذه البصيرة يتفرسون ويستشفون عواقب الأمور، ولا تستفزهم البداءات.
* وهم حُرَّاس الدين، وحُماته من الابتداع والتحريف:
فعن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم منهم علي بن أبي طالب، ومعاذ، وابن عمر، وأسامة بن زيد وغيرهم رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلمَ قال: "يَحمل هذا العلمَ من كل خَلفٍ عُدولُه، يَنْفون عنه تحريفَ الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويلَ الجاهلين". أخرجه البيهقي وصححه الإمام أحمد وابن عبد البر والألباني.
* وهم أولياء الله الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلمَ: "أولياء الله: الذين إِذا رُؤوا ذُكِر الله". أخرجه الطبراني وحسنه الألباني، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلمَ قال: "قال الله تعالى: من عادى لي وَليًا؛ فقد آذنتُه بالحرب" الحديث. رواه البخاري، وآذنته: أعلمته.
وكان عكرمة رحمه الله يقول. " إياكم أن تؤذوا أحدًا من العلماء، فإن من آذى عالمًا فقد آذى رسول الله صلى الله عليه وسلمَ.
* والعلماء عصمة للأمة من الضلال، وهم سفينة نوح من تخلَّف عنها -لا سيما في زمان الفتن- كان من المغرقين.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إِن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إِذا لم يُبق عالمًا، اتخذ الناس رؤوسًا جهالاً، فسُئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا". متفق عليه.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " أتدرون ما ذهاب العلم؟ "، قلنا: " لا "، قال: "ذَهاب العلماء".
وعنه رضي الله عنه قال: "لا يزال عالم يموت، وأثر للحق يَدْرس، حتى يكثر أهل الجهل، وقد ذهب أهل العلم، فيعملون بالجهل، ويدينون بغير الحق، ويضلون عن سواء السبيل.
وقال هلال بن خبَّاب: سألت سعيد بن جبير؛ قلت: "يا أبا عبد الله! ما علامة هلاك الناس؟"، قال: "إذا هلك علماؤهم".
وقال سفيان بنْ عيينة: "وأي عقوبة أشد على أهل الجهل أن يذهب أهلُ العلم؟"
وقال الحسن البصري: "الدنيا كلها ظُلمة إلا مجالس العلماء".
وقال الإمام أبو بكر الآجري رحمه الله: فما ظنكم -رحمكم الله- بطريق فيه آفات كثيرة، ويحتاج الناس إلى سلوكه في ليلة ظلماء، فإن لم يكن فيه ضياء وإلا تحيَّروا، فقيَّض الله لهم فيه مصابيح تضيء لهم، فسلكوه على السلامة والعافية، ثم جاءت طبقات من الناس، لا بد لهم من السلوك فيه فسلكوا، فبينما هم كذلك إذ طفئت المصابيح، فبقوا في الظلمة، فما ظنكم بهم؟
هكذا العلماء في الناس، لا يعلم كثير من الناس كيف أداءُ الفرائض، ولا كيف اجتنابُ المحارم، ولا كيف يُعْبد الله في جميع ما يَعبده به خلقُه إلا ببقاء العلماء، فإذا مات العلماء تحيَّر الناس، ودَوَس العلم بموتهم، وظهر الجهل. انتهى هذا العنصر باختصار من حرمة أهل العلم.
إمام دار الهجرة
إن من أئمة هذه الأمة وعلماءها: إمام دار الهجرة وعالمها ومحدثها وفقيهها، أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو الأصبحي الحِميري المدني.
أخذ الإمام مالك العلم عن كبار التابعين وأئمة المحدثين، فجالس ابن هرمز سبعة عشرة عامًا، واستفاد به كثيرًا، وجالس الزهري فكان أثبت الناس في الرواية عنه وعن غيره.
وتتلمذ الإمام مالك على تسعمائة شيخ، منهم ثلاثمائة من التابعين، وستمائة من تابعيهم ممن اختاره وارتضى دينه وفقهه وقيامه بحق الرواية وشروطها وخلصت الثقة به، وترك الرواية عن أهل دين وصلاح لا يعرفون الرواية.
وللإمام مالك ناقب كثيرة ومواقف عظيمة تبين فضله وعلمه ومن ذلك:
1- نشأته وتربيته: حفظ الإمام مالك القرآن وهو صغير، ثم بدأ في كتابة الحديث لما بلغ سن التعليم، قال الإمام مالك: حينما بلغت سن التعليم جاءت عمتي وقالت: اذهب فاكتب -يعني الحديث-، وقال: كانت أمي تلبسني الثياب، وتعممني وأنا صبي، وتوجهني إلى ربيعة بن أبي عبد الرحمن، وتقول: يا بني! ائت مجلس ربيعة؛ فتعلم مِن سمته وأدبه، قبل أن تتعلم مِن حديثه وفقهه.
2- أدبه مع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلمَ: عن ابن أبي أويس قال: كان مالك إذا أراد أن يحدث توضأ وجلس على فراشه، وسرح لحيته، وتمكن في الجلوس بوقار وهيبة ثم حدث، فقيل له في ذلك، فقال: أحب أن أعظم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلمَ، ولا أحدث به إلا على طهارة متمكنًا، وكان يكره أن يحدث في الطريق وهو قائم أو يستعجل، فقال: أحب أن أتفهم ما أحدث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلمَ. انتهى، وكان من أدبه مع رسول الله صلى الله عليه وسلمَ: أنه لا يركب دابة بالمدينة، ويقول: إني لأستحيي من الله أن أطأ تربة فيها رسول الله صلى الله عليه وسلمَ بحافر دابة.
3- عن المثني بن سعيد القصير، قال: سمعت مالك بن أنس يقول: ما بت ليلة إلا رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
4- طَلَبَ الإمام مالك العلم وهو ابن بضع عشرة سنة، وتأهل للفتيا، وجلس للإفادة، وله إحدى وعشرون سنة، وحدث عنه جماعة وهو حي شاب.
5- حفظه: قال الإمام مالك رحمه الله: حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ بِبِضْعَةٍ وَأَرْبَعِينَ حَدِيثَاً ثمَّ قَالَ في الْيَوْمِ التِّالي: أَعِدْهَا عَلَيّ؛ فَأَعَدْتُ عَلَيْهِ مِنهَا أَرْبَعِينَ حَدِيثَاً؛ فَقَالَ الزُّهْرِيّ: مَا كُنْتُ أَرَى أَنَّهُ بَقِيَ مَنْ يَحْفَظُ هَذَا غَيْرِي.
6- الإمام في بيته: وعن ابن وهب قال: قيل لأخت مالك: ما كان شغله في بيته. قالت: المصحف والتلاوة.
7- إمامته وتزكية أهل العلم له: قال الإمام مالك: ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك. وقال رحمه الله: قلَّ مَنْ كتَبْتُ عنه العلم، ما مات حتى يجيئني ويستفتيني. وقال يحيى بن سعيد القطان: ما في القوم أصح حديثًا من مالك، وعن على بن المديني قال: لم يكن بالمدينة أعلم بمذهب تابعيهم من مالك بن أنس، وعن شعبة قال: دخلت المدينة، ونافع حي ولمالك حلقة، وقال الإمام الشافعي: إذا ذكر العلماء فمالك النجم. وقال عبد الله ابن الإمام أحمد قلت لأبي: من أثبت أصحاب الزهري؟ قال: مالك أثبت في كل شيء. وقال الحافظ الذهبي: وقد اتفق لمالك مناقب ما علمتها اجتمعت لغيره أحدها: طول العمر وعلو الرواية، وثانيتها: الذهن الثاقب والفهم وسعة العلم، وثالثتها: اتفاق الأئمة على أنه حجة صحيح الرواية، ورابعتها: تجمعهم على دينه وعدالته واتباعه السنن، وخامستها: تقدمه في الفقه والفتوى وصحة قواعده. انتهى.
8- فتواه وورعه: وعن سعيد بن سليمان قال: قلما سمعت مالكاً يفتي بشيء إلا تلا هذه الآية: {إِن نّظُنّ إِلاّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ}، وعن عمرو بن يزيد -شيخ من أهل مصر صديق للإمام مالك- قال: قلت لمالك: يا أبا عبد الله يأتيك ناس من بلدان شتى قد أنضوا مطاياهم، وأنفقوا نفقاتهم، يسألونك عما جعل الله عندك من العلم، تقول: لا أدري! فقال: يا عبد الله يأتيني الشامي من شامه، والعراقي من عراقه، والمصري من مصره، فيسألونني عن الشيء لعلي أن يبدو لي فيه غير ما أجيب به فأين أجدهم? قال عمرو: فأخبرت الليث بن سعد بقول مالك، وعن عبد الرحمن بن مهدى قال: كنا عند مالك فجاء رجل، فقال: يا أبا عبد اللَّه جئتك من مسيرة ستة أشهر حملني أهل بلدي مسألة أسألك عنها. فقال: فسل. فسأله، فقال: لا أحسن. فقُطِعَ بالرجل، كأنه قد جاء إلى من يعلم كل شيء. قال: وأي شيء أقول لأهل بلدي إذا رجعت إليهم، فقال؟ قل: قال لي مالك بن أنس لا أحسن، وقَالَ الهَيْثَمُ بْنُ جَمِيل: سَمِعْتُ مَالِكَاً سُئِلَ عَنْ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ مَسْأَلَةً، فَأَجَابَ في اثْنَتَيْنِ وَثَلاَثِينَ مِنهَا بِـ لاَ أَدْرِي، وقَالَ خَالِدُ بْنُ خِدَاش: قَدِمْتُ عَلَى مَالِكٍ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ بِأَرْبَعِينَ مَسْأَلَة؛ فَمَا أَجَابَني مِنهَا إِلاَّ في خَمْسِ مَسَائِل.
قَالَ الإِمَامُ مَالِكٍ: «جُنَّةُ الـلاَ أَدْرِي؛ فَإِذَا أَغْفَلَهَا أُصِيبَتْ مَقَاتِلُه».
9- صنف كتاب الموطأ: عن أبي خليد قال: أقمت على مالك فقرأت الموطأ في أربعة أيام فقال مالك: عِلْمٌ جمعه شيخ في ستين سنة أخذتموه في أربعة أيام؟ لا فقهتم أبدًا. وقال الإمام الشافعي رحمه الله: ما بعد كتاب الله تعالى كتاب أكثر صوابًا من موطأ مالك. انتهى، وكان هذا قبل تصنيف الصحيحين، وأراد الخليفة هارون الرشيد تعليق الموطأ في الكعبة وحمل الناس عليه دون غيره فأبى الإمام مالك ذلك.
10- مكانته عند الأمراء وعزة نفسه: دخل الإمام مالك على أبي جعفر المنصور، وهو على فراش ملكه، فإذا بصبي يخرج، ثم يرجع، فقال له أبو جعفر: أتدري من هذا؟ قال: لا. قال: ابني وإنما يفزع من هيبتك. ثم سأله عن أشياء منها حلال ومنها حرام فلما أجابه قال له: أنت والله أعقل الناس وأعلم الناس. قال: لا والله يا أمير المؤمنين. قال: بلى ولكنك تكتم، لئن بقيت لأكتبن قولك كما تكتب المصاحف ولأبعثن به إلى الآفاق لأحملهم عليه.
وقدم الرشيد إلى المدينة وطلب منه أن يسمعه الحديث، فقال الإمام أنا يُقرأ علي ولا أقرأ على أحد، فقال: أَخْرِج الناس عني حتى أقرأ أنا عليك. فقال: إذا العام لأجل الخاص لم ينتفع الخاص، فأمر الرشيد وزيره معن بن عيسى فقرأ. وذُكِرَ أن الرشيد دعاه ليقرأ الموطأ على بنيه، فأبى قائلاً: العلم يؤتى إليه، ولا يأتي إلى أحد، فكان أولاد الخليفة يحضرون مجلسه مع سائر الناس، وتضرب عليهم قبة. وعن أبى مصعب قال: كانوا يزدحمون على باب مالك بن أنس، فيقتتلون على الباب من الزحام، وكنا نكون عند مالك فلا يكلم هذا هذا، ولا يلتفت ذا إلى ذا، والناس قائلون برؤوسهم هكذا، وكانت السلاطين تهابه، وهم قائلون ومستمعون، وكان يقول في المسألة: لا أو نعم، فلا يقال له: من أين قلتَ هذا.
11- محنته وابتلاؤه: تعرض الإمام مالك لمحنة وبلاء بسبب حسد ووشاية بينه وبين والي المدينة جعفر بن سليمان، كان الإمام مالك يقول: طلاق المكره ليس بشيء، فوُشي به عند جعفر بن سليمان، فقالوا له: إنه لا يرى أيمان بيعتكم هذه بشيء، فغضب جعفر ودعا به وجرده وضربه بالسياط، ومدت يده حتى انخلعت كتفه وارتكب منه أمراً عظيماً، وقال الذهبي: ضُرب مالك ونيل منه، وحمل مغشيًا عليه. وعن مالك قال: ضربت فيما ضرب فيه سعيد بن المسيب، ومحمد بن المنكدر، وربيعة، ولا خير فيمن لا يؤذى في هذا الأمر. وعن الليث بن سعد قال: إني لأرجو أن يرفعه الله بكل سوط درجة في الجنة. فلم يزل بعد ذلك الضرب في علو ورفعة وكأنما كانت تلك السياط حلياً حلي به. قال الذهبي رحمه الله: هذا ثمرة المحنة المحمودة أنها ترفع العبد عند المؤمنين وبكل حال فهي بما كسبت أيدينا ويعفو الله عن كثير، ومن يرد الله به خيرا يصيب منه.
12- وفاته رحمه الله: مرض الإمام اثنين وعشرين يومًا، وأوصى أن يكفن في ثياب بيض وأن يصلى عليه في موضع الجنائز، وكان آخر ما قاله عند الموت أنه تشهد ثم قال: {لِلّهِ الأمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ}، ثم توفي رحمه الله فصلى عليه الأمير عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس الهاشمي.
فضل السلف على الخلف
إن سلامة هذه الأمة ونجاتها في اتباع منهج سلف الصالح أصولاً وفروعًا، اعتقادًا وعملاً؛ فمن ابتغى غير ذلك فقد ضل وأضل؛ فعلى المسلم الصادق ملازمة منهج السلف الصالح، وعلى الحائر التائه أن يرجع إلى رشده فيتبع منهجهم رضي الله عنهم؛ حيث لا يستقيم دين المرء حتى يكون متابعًا لسلفنا الصالح ملازمًا لمنهجهم، المتمثل في اتباع القرآن والسنة بفهم الصحابة والأئمة الآخذين عنهم السائرين على طريقتهم، فيقدم هذا على غيره من المناهج الفلسفية والعقلية والخرافية وأمثالها، فيرفض المسلم التأويل الكلامي وكل ما ليس عليه دليل أو لم يصح الاستدلال به.
إن منهج السلف وصحته دل على وجوب لزوم اتباعه النقل والعقل؛ فقد أُمرنا في الكتاب والسنة باتباع الكتاب والسنة وطرح ما خالفهما، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلمَ أن هذه الأمة ستفترق بما يضر أصحاب تلك الفرق في دينها، إلا الفرقة التي تجتمع على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلمَ وأصحابه، وهي الطائفة المنصورة الظاهرة التي لا يخل منها زمان وقد يخل منهم مكان دون مكان، التي لا يضرها من خالفها ولا من خذلها؛ لأنها على المنهج القويم والصراط المستقيم، الظاهرة بالحجة والبيان تارة أو بالسيف والسنان أخرى، أو بهما معًا، ولا يعدمان في حقها، إنه منهج السلف، أهل الحديث والأثر، أهل السنة والجماعة أعزهم الله وأيدهم أبدًا.
ومما يدل أيضًا على سلامة منهج السلف: ما جاء في فضل الصحابة وما حصل لهم من التزكية في الكتاب والسنة مما لم يحصل لغيرهم من غير الأنبياء، وشهودهم التنزيل، وأخذهم وتحملهم له رواية ودراية من النبي صلى الله عليه وسلمَ مباشرة، وتوبة الله تعالى عليهم كلهم، وتكليفهم بحمل الرسالة وتبليغها للعالمين جميعًا.
ثم لا يشك عاقل في فضل وصدق الصحابة رضي الله عنهم؛ فيكفيهم شرفًا نيل شرف صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلمَ، وحمل راية الدين ولواء الشريعة علمًا وعملاً ونصرة وجهادًا ودعوة.
ثم محال أن يتصل سند الخلف بالكتاب والسنة رواية ودراية إلا عن طريق السلف الصالح من الصحابة والأئمة، ومحال أن يبلغ نضج عقول الخلف ما بلغته عقول السلف؛ فلزوم منهج السلف ملزم لكل مسلم.
إن منهج التلقي عند السلف ملزم لأتباع الحق من هذه الأمة، فالخيرية في اتباعه وضدها في مخالفته:
قال الإمام مالك رحمه الله: وقال: إِنَّمَا أَنا بشر أخطئ وَأُصِيب فانظروا فِي رَأْيِي فَكل مَا وَافق الْكتاب وَالسّنة فَخُذُوا بِهِ وَمَا لم يُوَافق الْكتاب وَالسّنة فاتركوه.
وعلماء الأمة المعتبرين يعلمون فضل السلف على الخلف، وأنه لا صلاح للخلف إلا بما كان عليه السلف: قال الإمام مالك رحمه الله: لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
ويتبعون السلف عقيدة وعملاً وسلوكًا ومنهجًا: قال الإمام مالك: الله في السماء، وعلمه في كل مكان، لا يخلو منه شيء.
وقال رحمه الله: من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدا خان الرسالة.
وعن خالد بن خداش قال: ودعت مالك بن أنس، فقلت: أوصني يا أبا عبد الله، قال: تقوى الله، وطلب الحديث من عند أهله.
ودخل على الإمام ملك رجلٌ فقال: يا أبا عبد الله ما تقول فيمن يقول القرآن مخلوق? فقال مالك: زنديق اقتلوه، فقال: يا أبا عبد الله إنما أحكي كلامًا سمعته، فقال: لم أسمعه من أحد، إنما سمعته منك، وعظم هذا القول.
وروى البيهقي عن يحيى بن يحيى قال: كنا عند مالك بن أنس فجاءه رجل، فقال: يا أبا عبد الله، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}، كيف استوى؟ فأطرق مالك برأسه حتى علاه الرُّحَضَاء –العرق-، ثم قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، ولا أراك إلا مبتدعًا. فأمر به أن يخرج.
وكان يقول: لست أرى لأحد يسب أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الفيء سهمًا.
وقال: إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء أهل السنة.
وقال في القدرية: رأى فيهم أن يستتابوا فإن تابوا وإلا قتلوا.
فتأمل رحمني الله وإياك في عقيدة الإمام مالك السلفية، وهي الإيمان بما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلمَ من غير تعطيل ولا تحريف، ومن غير تمثييل ولا تكييف.
وكيف يبغض المبتدعة وأصحاب الرأي وينكر عليهم؟
إن عقيدتنا ومنهجنا هو عقيدة السلف ومنهجهم، ونحن أحفادهم وعلى دربهم نسير.
مع تحيات
اللجنة العلمية لملتقى الخطيب المؤثر أسد المنابر